محمد الماغوط مقل. يقتصد في الكتابة، ويبخل في الكلام. أقلع عن لعبة الحوارات الصحافية من زمن طويل. ربما لأنه يشعر أن المرحلة لا تستحق عناء الكلام، أو أن اللغة استُهلكت وأفرغت من معانيها، حتى صارت بأمسّ الحاجة الى نقاهة، الى اقامة مديدة في صومعة الصمت الشافي. لكن لجوءه الى الانزواء لم يُنسِ قرّاءه ومحبيه، أن صاحب "حزن في ضوء القمر" واحد من أكبر الشعراء العرب المحدثين، معه اكتسبت قصيدة النثر ملامحها المميزة. "الوسط" اندست في عزلة الاديب السوري الذي زاوج بين الغنائية والسوريالية، آملة استدراجه الى استعادة صوته فوق صفحاتها. ليس من السهل في الشيء أن تحاور محمد الماغوط. فكي تلتقي مع الشاعر والأديب السوري الكبير حول فكرة، يجب ان تبحر معه في تأملاته وصمته طويلاً... قبل أن يبزغ طرف خيط الكلام. حديثه مجبول باليأس مفعم بالمرارة. وهو لا يخفي قلقه، وتشتته، وشكه في كل شيء، وعدم ثقته في المستقبل. واذا سألته عن سر هذا اليأس، تخاطر في دفعه الى مزيد من الانغلاق على يأسه وأسراره، ويلتجئ في الصمت. ولكي تلتقي مع محمد الماغوط حول فكرة، صديقاً كنت أم غريباً، عليك احترام المقدّمات والطقوس التي تولّد الفكرة، والتي قد تطول أياماً… وشهوراً!! وحين يهمّ برفع طرف الستارة ليكشف عن جانب من جراحه، حين يسلّمك أخيراً طرف خيط ويفتح لك قلبه، يجيء دورك في الصمت، فقد انتقل "حزنه" كالعدوى... وها أنت متورط في هذا التعب الذي لا يقال. تنسى تساؤلاتك، وتختلط عليك الافكار والأوراق. تصاب بالشعر، كما يصاب الآخرون بالكآبة: "... مدّي ذراعيك يا أُمي أيتها العجوز البعيدة ذات القميص الرمادي دعيني ألمس حزامك المصدّف وأنشج بين الثديين العجوزين لألمس طفولتي وكآبتي..." الكلمة العميقة كجرح لا أثر للفرح في كتابات الماغوط، فالفرح ليس مهنته. ولا نكاد نعثر على هذا الفرح - بالمصادفة - من خلال حبّه ل "غيمة" في رواية "الأرجوحة" دار رياض نجيب الريس، حتى يفقد غيمته ويهطل المطر الحزين، الذي يبلل دفاتر شِعره وفصول مسرحياته... لا يبقى من عزاء سوى الكلمة. العميقة كجرح، الحادة كنصل، الضليل كوطن. لكن كيف نبتت تلك الزهرة الوحشية على حوافي الاوراق والقصائد؟ كيف نمت علاقة الشاعر بالكلمة المسكونة بالغنائية، المرصعة بكآبة وحشية؟ ويجيب الماغوط: - عن طريق أمي. كنت في القرية، وكان عمري حوالي خمس سنوات. في القرية يغني الناس ومناسبات الغناء معروفة، اما على التنور أو على المقابر. وأين سيغنون؟ في الأوبرا؟ كانت أمي تغني العتابا بصوت جميل. أذكر ذاك الموال الذي كانت كلما أخذت تردده، أتوقف عن اللعب وأسمع: "جمال محمّلة وأجراس بتعنّ وأيام المضت عالبال بتعنّ حملت بضاعتي ورحت بيعن غريب وما حدا مني اشترى" يزخ المطر في معظم قصائد محمد الماغوط، وفي مقالاته. "للأنقياء أكثر من المطر قبل ان يلمس الأرصفة" كأن الشاعر يكتب للمطر، فتخرج أشعاره وكتاباته مبلّلة بالذاكرة، بأرض القرية، برائحة الأغاني الأولى، بالخبز، بالفقر، وبالسخرية المرّة. بالأم التي طالما لجأ اليها في قصائده بحثاً عن حماية فقدها، عن العلاقة المستحيلة بالوطن. "كانت أمي تموّه على الفقر وعلى الموت بالتنكيت. أنا لست ساخراً أكثر من كوني مرّاً. لم أحفظ نكتة في حياتي، أحب التلقائية… المطر… العالم كله تركيبة كوميدية". والماغوط لا يحب تفسير ما يقول: "لا تسأليني لماذا؟ لا أعرف فلسفة الأمور". والوطن محطة أساسية في شعر الماغوط وكتاباته الاخرى. الوطن حالة، بحث عن أقاليم غامضة. خيبة لا تنضب. وما عساه يمثل الوطن لشاعر من الشرق يتمترس في عزلة الرافض واليائس بعد ان ذاق عزلة الغربة؟ "…وطني أيها الجرس المعّلق في فمي أيها البدوي المشعّث الشعر هذا الفمُ الذي يصنع الشِعر واللذه يجب ان يأكل يا وطني هذه الأصابع النحيلة البيضاء يجب ان ترتعش ان تنسج حبالاً من الخبز والمطر". في شعر محمد الماغوط تزهر المفردات الطالعة من ذاكرة بلا أسماء، بها ينسج عالماً من الحنين والكبرياء. ضحكة وصندل وشجرة كرز وعريشة عنب... بها يعيد ترميم جنة الطفولة المفقودة: "… أعطني طفولتي وضحكاتي القديمة على شجرة الكرز وصندلي المعلّق في عريشة العنب لأعطيك دموعي وحبيبتي وأشعاري لأسافر يا أبي…" "سأخون وطني" والوطن، هذا التراب الذي يسري في دم الشاعر، هو أيضاً مدعاة للخيانة، وعقدة ذنب لا تنتهي. تحت عنوان "سأخون وطني" يكتب من جملة ما يكتب في نثرياته الشعرية، عن قصص خيانات معلنة للوطن: "في مرحلة الفطام، وأنا أحبو باكياً، وراء أمي المنصرفة عني وراء الكنس والمسح ونفض الغبار، كنت آكل كل ما تطاله أظافري الغضة من تراب العتبة والشارع وفسحة الدار. ويبدو أنني أكلت حصتي من الوطن منذ ذلك الحين". والفرح؟! ألم يسكن تراب العتبة والشارع وفسحة الدار؟ ألم يذق الماغوط يوماً طعم الفرح؟ "لا أعرف، لكثرة ما افترقنا عن بعضنا نسيته ونسيني". كل هذه السنوات، لم تغيّر اذاً نظرته الى الاشياء. ولم يصلح الزمن شيئاً في علاقته بالفرح: "… هنا نحلٌ… وهناك أزهار ومع ذلك فالعلقم يملأ فمي هناك طُرف أعراس ومهرجون ومع ذلك فالنحيب يملأ قلبي. أيها الحارث العجوز يا جدّي أعطني كلبك السلوقي أعرني مصباحك الكهربائي لأبحث عن وطني". والماغوط لا يعرف ان يحب وطنه من دون امرأة رغم انه مستعد لتركها لقاء صندله المعلّق في الذاكرة، في بيته الحديث في دمشق بعيداً عن القرية. منذ مجموعته الشعرية الأولى "حزن في ضوء القمر"، أعلن الشاعر العصيان. هجرت موهبته مقاعد المدرسة، تمردت على الدروس التي تحرّم الجرأة والابتكار، وتعلم الحفظ عن ظهر قلب. غرف من عفويته اللغوية الدافقة من القلب، بلا تحجر ولا جمود، فجاء شعره ملتزماً بوقع الفكرة وبرنة الكلمة التي يسري في عروقها نبض الايقاع: "شَعركِ الذي كان ينبض على وسادتي كشلال من العصافير يلهو على وسادات غريبة يخونني يا ليلى فلن أشتري له الأمشاط المذهبة بعد الآن…". سألت الماغوط، اذا عثر صدفة على مصباح علاء الدين السحري، فماذا ستكون أمنياته الذهبية الثلاث؟ ضحك ضحكة عالية وقال: "أمنياتي لا تقال ولا تكتب". ثم أردف: "أمنية واحدة، ان يعيش الغرب يوماً واحداً في السنة كما يعيش العرب! هذا الغرب الذي يتعالى علينا ويحتقر أدبنا وشعرنا ويعمل علينا وصاية. أن يعيش تموينياً واقتصادياً وطائفياً، يوماً واحداً في السنة مثلنا!". سألته: كيف سيخرج الغرب من هذا اليوم؟ قال: "لا أعرف، هي أُمنية! لكن كيف ستتحقق!". يعيش محمد الماغوط دورة حياة منتظمة، رتيبة، بقصد الخروج من الرتابة. بين مقهى صباحي للكتابة والتأمل، ومقهى مسائي للتأمل والكتابة. وحيداً على طاولة في زاوية مع موسيقاه الكلاسيكية، اذا لم ينضم اليه أحد الأصحاب أو المعارف. وبما ان الرجل فتح قلبه وطلب وتمنّى، كان لا بد من إحراجه بسؤال عن سبب تقصيره في النشر، والكتابة، بما اننا لم نقرأ له منذ سنوات عديدة أي جديد شعري أو نثري؟! قال: "أكتب ولا أنشر، وأحياناً لا أكتب ولا أنشر وضحك. لكنني متعب… متعب ويائس". وابتسم ابتسامة خجولة، ربما كأن اليأس والتعب خاناه معاً. ما زال ابن القرية والماغوط بحبه للإنفراد، بصوته العالي، بكرهه للمجاملة، بطباعه الحادّة، بفطريته، ما زال ابن القرية رغم خمسين عاماً قضاها في المدينة التي شهدت ارتقاءه ذات يوم الى أعلى مراتب التكريس، كواحد من ألمع أسمائها الأدبية. صحيح انه لم ينشر شعراً منذ سنوات عدّة، لكن اهتمامه بخلانه السريين لم يتبدل، فهو مهتم جداً بصدى كتاباته لدى القراء: "كل واحد يكتب لنفسه، هناك من قال لي إن شعري أجمل من نثري، وهناك من قال العكس. أحب ان أرى صدى كتاباتي عند الناس، وليس في الأمر تواضع! لكن للأسف لا يوجد عندنا نقد محترف". ونسأل الشاعر المعروف بقلمه الصحافي المر، هل يأخذ النقد بعين الاعتبار، فيجيب: "حين كانت زوجتي سنية صالح، رحمها الله، وهي شاعرة كبيرة، تقول لي عن قصيدة: حلو، دون أن تزيد في المدح، كنت أعلم علم اليقين أن القصيدة جيدة. وكانت اذا بخلت بپ"حلو" يعني ان ما كتبته يجب إعادة النظر فيه، كنت أثق بحساسيتها للكلمة، بصدقها في النقد وبثقافتها". والآن ماذا يملك الماغوط؟ "لا يملك شيئاً، لا أحد يملك شيئاً!". "طفولتي بعيدة وكهولتي بعيدة وطني بعيد ومنفايَ بعيد أيها السائح أعطني منظارك المقرّب علّني ألمح يداً أو محرمة في هذا الكون تومئ إليّ صَوّرني وأنا أبكي وأنا أقعي بأسمالي أمام عتبة الفندق واكتب على قفا الصورة: هذا شاعر من الشرق". شاعر جارح حتماً، ذاك الذي عانق الوطن بكلتا يديه، قبل أن يتركه يرشح منه كحبيبات العرق، ثم يتفرج عليه يهرب كل يوم أكثر، قبضة رمل في يد محتضرة. شاعر من الشرق أضاع وطنه، وأضاع كلماته، لكنه هنا يسخر ك "المهرّج"، هنا بقصائده القليلة، ومسرحياته، وحده وسط "غرفة بملايين الجدران"، كنارياً يرتشف ال "حزن في ضوء القمر". إنه "العصفور الأحدب" الذي لا يرتدع عن فعل خيانة، طوى عمره في كتاب… مغمغماً: "كاسك يا وطن".