فيلم ستيفن سبيلبرغ "لائحة شندلر" سيئ. أولاً، لأنه جيد الصنعة. وثانياً لأن شهرة صاحبه تضفي عليه هالة خاصة. وثالثاً لأنه يقدم رؤية محرّفة ومغلوطة لمحرقة اليهود في الحرب العالمية الثانية. ورابعاً لأنه يقيم صلة غائية بين هذه المذبحة وقيام دولة اسرائيل. لم يشاهد الجمهور العربي الفيلم. لكن ذلك لم يمنع من صدور كتابات في العالمين العربي والاسلامي تنتقده، وتدافع مثلاً عن قرار الحكومة الماليزية بمنع عرضه. الحجج المستخدمة سطحية وشكلية: يتضمن مشاهد عري، يشكل دعاية ل "اليهود"... الخ. أما مشاهد العري فهي من النوع الذي لا يلاحظه إلا منحرف. أما الدعاية ل "اليهود" فتستحق نقاشاً هادئاً. تغطي جوائز الأوسكار التي انهالت على الفيلم السجال الواسع الذي استقبله في الغرب وشارك فيه مثقفون يهود بحماسة. قال البعض في معرض الدفاع، إن "لائحة شندلر" فعل تذكير ضروري "يمنع الماضي من أن يمضي"، ويحول دون أن يبتلع النسيان واحدة من أكثر جرائم البشرية هولاً. وقال البعض منتقداً إن ادعاء تصوير "المحرقة" تهوّر. فهو يقود الى قولبتها وأنسنتها، وينتهي الى وضعها في خدمة السينما طالما أنه مستحيل وضع السينما في خدمتها. ما دخلت هوليوود شيئاً إلا أفسدته! تمحور السجال حول "فرادة" المحرقة، أحاديتها، وانتمائها الى ما لا يقال أو يرى أو يسمع أو... يعقل! ذلك أن وضع اليد عليها يلغي الاستثناء الذي تمثله. ليس غريباً بالتالي عدم توافر مادة أرشيفية عن المحرقة... ليس غريباً أن يكون الناجون منها سكتوا طويلاً، وترددوا كثيراً قبل البوح. لا يمكن تصوير صمت الموتى ولا يجوز تصوير النجاة التي تخدش تمام الجريمة. إن هذا الخوف مفهوم ومبرر. والخفة في التعاطي مع هذا الموضوع مدخل الى ايقاظ الشياطين. ولكن من قال انها نائمة تماماً، تلك الشياطين؟ فالمحاولات مستمرة، منذ عقود، لتزوير التاريخ وهي على أنواع. هناك النسخة النمسوية في "تحريف التاريخ". فالنمسا هي الضحية الأولى للنازية - حسب أصحاب هذا الاجتهاد - مع أن النمساويين تعاونوا مع هتلر وأرسوا ذلك على استفتاء وساهموا في التنظير ل "اللاسامية". والمسؤولية فردية بالتالي، لا تطال "الأمة" على الرغم من الاستنفار الواضح لاحقاً لدعم كورت فالدهايم عندما خرج ماضيه الى الضوء. هناك النسخة الفرنسية القائمة على الانكار. التأكيد على أن غرف الغاز لم تكن موجودة، وعلى أن "الرايخ الثالث" لم يكن يملك مشروعاً منهجياً صارماً واضحاً يقضي باخضاع مجموعة بشرية محددة لعملية ابادة نهائية، على أساس ما هي عليه وليس ما تفعل. التحريفيون أصحاب هذا الطرح قلة في فرنسا. غير أن ظلهم يخيّم على الآخرين ممن يخجلون من ماضيهم في "التعاون" مع المحتل النازي، فيرفضون تحمل تبعاته، مكتفين من دنياهم بمحاكمة بول توفييه من جديد. هناك أيضاً النسخة الالمانية. يجب الاعتراف، بادئ ذي بدء، أن البلاد في شطرها الغربي سابقاً أخضعت نفسها لعملية فحص الضمير الضرورية، غير أن ذلك لم يمنعها من انتاح "تحريفيتها" الخاصة. لقد انفجرت هذه القضية في أواسط الثمانينات، وتطورت مع زيارة الرئيس الاميركي رونالد ريغان الى بيتبورغ حيث يرقد عدد من عناصر ال "إس. إس" الفرق الصاعقة النازية الوثائق الخاصة بهذا النقاش مجموعة في كتاب قيم: "أمام التاريخ، حول خصوصية إبادة اليهود على يد النظام النازي". المحاولة الالمانية خبيثة. لا تنكر المحرقة ولا الغاز ولا مشروع الابادة ولا المسؤولية الالمانية. تجعلها نسبية فقط. وهي تفعل ذلك من مدخل إلغاء استثنائية النازية. كيف؟ أولاً، عبر التعامل معها مثل "الستالينية" أو مثل "البول بوتية". وعبر اعتبارها، فوق ذلك، رداً على جرائم الثورة الشيوعية التي سبقتها في روسيا. إرنست فولته هو فيلسوف هذا التيار: "أوشفيتز"، في رأيه، رد على "الغولاغ". وكل ما فعله هتلر هو ارتكاب "جريمة أسيوية خوفاً من أن يكون هو، الضحية المحتملة لجريمة أسيوية" يرتكبها السوفيات. ويختم فولته مطالعته بالقول إن الفرق الوحيد بين الشيوعية والنازية هو أن الأولى حية وتمثل "إمبراطورية الشر"، في حين أن الثانية ماتت وكان موتها، في برلين، حسب قول مؤرخ الماني آخر هو اندرياس هيلغروبر المعركة الديموقراطية الأولى ضد "الجيش الأحمر". وبما أن معركة برلين مستمرة نحن في 1987، أي قبل انهيار الجدار، بما أن المانياالشرقية لا تزال قائمة وطريقة هذه الاخيرة في "تجاوز" المحرقة قصة أخرى، وبما أن "العالم الحر" يحتاج إلمانيا الغربية كموقع متقدم ضد المعسكر الاشتراكي، وكمسرح للبيرشينغ وغيره، فإن المطلوب اعادة نظر في التاريخ الحديث لالمانيا حتى "نستطيع - كما كان يقول السياسي اليميني جداً فرانز جوزيف شتراوس - المشي مرفوعي الرأس". كان يقول ذلك ويضيف: "يجب أن يجد الشعب الالماني تاريخه ومستقبله في هوية وطنية من أجل أن يتمكن من اداء مهمّته في العالم". المدخل الى الغاء استثنائية المحرقة هو الخلط الذي كان يرفضه كثيرون، بين "مشروع انساني يفشل ومشروع شيطاني ينجح". وهو خلط استفز مفكراً المانياً آخر هو يورغن هابرماس، ومؤرخاً هو ايبرهارد جاكل. والاخير ينسب الى "التحريفيين" الالمان، بشيء من التبسيط، التفكير التالي: الشيوعية اختراع يهودي، والشيوعيون - أي اليهود - بدأوا المجزرة في روسيا. والنازية، بتوجهها ضدّهم، إنما هي ردة فعل عليهم. من الظلم، ربما، القول بأن فيلم سبيلبرغ متأثر بهذه "التحريفات"، ولكن المؤكد هو أنها تركت عليه بصمات خفيفة. يتوقع المشاهد غرف الغاز فلا تأتي. النازية في "لائحة شندلر" كناية عن الماني مهووس يقابله الماني آخر ينتصر فيه الضمير على حس الربح لعل هذا "الانقسام" هو سبب النجاح الجماهيري الهائل للفيلم في المانيا... "الموحّدة". والمواجهة بين الاثنين توحي أن المسؤولية فردية يضيع معها ما يميز النظام الهتلري الذي حوّل القتل الى مؤسسة ربما كانت من أشد مؤسسات الآلة الحربية الألمانية فعالية. ويكفي إغراق ذلك بنظرة شبه طفولية، وبتشويق كاذب وبنهاية أولى سعيدة: الخلاص، حتى يكتمل التزوير فتصبح رواية "الهولوكوست" قصة نجاة لا قصة موت. وسبيلبرغ الذي يقترب من المدرسة الاخيرة في تحريف التاريخ، ظلم "المحرقة" باختياره هذه النهاية السعيدة... وعاد، في النهاية الثانية لفيلمه، فظلمها من جديد. يختتم الفيلم على أرض خلاء تمتلئ فجأة ببشر يغنون نشيداً. الأرض هي فلسطين، أما البشر فهم "الناجون" من المحرقة، والنشيد ليس إلا أغنية الانتصار الصهيوني على العرب في عدوان 1967. لم تعد "المحرقة" درب الآلام الى الصلب. أصبحت درب الآلام الى القيامة. حتى ليخيل للمرء أن الخلاص اليهودي كان مكتوباً فيها، الى أن تجسد في فلسطين. أما الضحية الجديدة في "أرض الميعاد"، فغائبة نهائياً عن تصور المخرج الاميركي، بعد أن حضر الجلاد النازي ضمن اشكالية تخفف عنه تلك الصفة! إن اسرائيل، القائمة على ظلم أصلي وتكويني لَحِق ببشر آخرين - بشعب كامل - تصبح مع سبيلبرغ "غاية" لمشروع الإبادة، نتيجةً منطقية له، وردّاً عليه. هكذا يرتكب السينمائي الاميركي إساءة أخلاقية بحق الدرس الانساني الذي تنطوي عليه "المحرقة"، ويضعنا - نحن العرب - في صلب معضلة هائلة: كيف نواكب زهو الناجين من الدمار وهم يصدحون بنشيد هزيمتنا؟ * كاتب وصحافي لبناني