بانتهاء نيسان ابريل من كل عام يعلن عن نهاية موسم التنقيب الأثري في الامارات بسبب اشتداد الحرارة وكثافة الرطوبة وتترك المواقع على ما هي عليه لستة أشهر كاملة. وفي السنوات القليلة الماضية واثر القيام بعمليات المسح الشامل لبعض الامارات أصبح بالامكان رؤية مواقع التنقيب وقد تم تسويرها بالأسلاك الشائكة لمنع العبث بها أثناء توقف أعمال بعثات التنقيب الا ان مثل هذا الاجراء قد لا يطال مواقع كثيرة تم الحفر والبحث فيها وتثير فضول سكان البلاد، الذين بدورهم يبدون امتعاضهم من استمرار حفر قبور الأولين واخراج العظام للدراسة. بداية التنقيب وقصة التنقيب عن الآثار في دول الخليج العربية ارتبطت بظروف وأحداث استثنائية أخرتها حتى أواخر الخمسينات عندما قدم العالم بي. في. الدانمركي على رأس أول بعثة حاولت البحث عما تخفيه أرض المنطقة الممهدة. والصعوبات التي تواجهها بعثات الآثار منذ ذلك الوقت كثيرة وطريفة في معظمها والأكثر طرافة فيها هو نتائجها التي يعتبرها السكان المحليون مخيبة للآمال حتى اللحظة!! وعلى الرغم من توفر كمية لا بأس بها من المقتنيات واللقى الأثرية للمتاحف المحلية، فان حلقات مفقودة وكثيرة تثير قلق الجميع بمن فيهم العاملون في هذا الحقل من آثاريين وعلماء وتلقي بالكثير من الظلال على ماضي المنطقة وتسلسل الحضارات فيها. والسؤال الذي يطرح حالياً عن المكتشفات قديمها وحديثها هو ما يتعلق بغياب الشواهد أو المواقع الضخمة والكتابات التي يمكن ان تسعف كثيراً في حل بعض الطلاسم حول التواجد الانساني في هذه البقعة من العالم. والغريب في الأمر ان بعثات الآثار المتعددة الجنسيات التي تزور الامارات سنوياً للعمل في مواقع مختلفة على امتداد جغرافية الدولة لا تنسق في ما بينها وكل منها يضع تقاريرها وبحوثها بمنأى عن الأخرى. "الوسط" زارت بعثة مشتركة فرنسية بريطانية واسبانية يقودها الفرنسي ميشال موتون في الموقع الأثري الأكثر أهمية خلال السنوات الخمس الماضية المليحة لتتابع عن قرب عمل البعثة وتتعرف الى طبيعة الاهتمام العلمي والرسمي بهذا الموقع بعد تزايد الحديث عنه في وسائل الاعلام أخيراً والتأكيد على أهميته من خلال كتاب أصدره ميشال موتون نفسه في أربعمئة صفحة حول موقع المليحة بالفرنسية ولم يجد طريقه أي الكتاب الى الترجمة العربية لأن الدائرة المختصة في الشارقة قررت ان تترك أمر تعريب الدراسة لمنظمة "اليونيسكو". يقول مدير ادارة الآثار والتراث في امارة الشارقة في معرض حديثه عن هذا الموقع: "لقد اكتشفنا بناء ضخماً واسعاً يتكون من أربع طبقات بنائية متعاقبة وكل طبقة فيها قاعات ومقار سكن استعملت لقرون عدة. ويبدو ان الموقع تعرض لحريق شامل في احدى الفترات كذلك وجدنا لقى متنوعة عبارة عن أوانٍ منزلية وجرار واختام منقوشة ومجموعة من الخرز. الا ان أهم ما وجدناه على الاطلاق هو ورشة لصناعة الآلات والأدوات من النحاس والبرونز". وهو أي المسؤول متفائل جداً بالنتائج التي تحققت حتى الآن. ردود أفعال الأهالي يقول قائد البعثة ومديرها ميشال موتون الفرنسي ان الأهالي على حق في ما يبدونه من قلق "نحن نأتي الى هنا ستة أشهر من السنة نسكن بينهم في قرية المليحة الدائرة المختصة تؤمن لهم منزلاً مؤجراً ونقوم بالحفر طوال الصباح وبعض الوقت عند العصر. وهم لا يرون الا حفراً ورمالاً تتم ازاحتها من مكان لآخر. يقومون بزيارات ميدانية لنا في الموقع ويضحكون كثيراً لحالنا ويتناقلون تطورات الموقف في موقعنا بأسرع من أي وسائل اتصال أخرى. لقد جاء العديد منهم ليسألنا عن تفسير مقبول لوجود قبر يرقد فيه جمل ضخم على ركبتيه ومع بعض الأواني. ويبدون امتعاضهم من ان تكون المنطقة قد شهدت فترات وثنية أو حضارات مستعمرة لا يحبون تذكر شيء عنها. وميشال موتون جاء من جامعة ليون الفرنسية عام 1984 وسبق له العمل في مواقع في حضرموت اليمن وفي الفرات ومصر. وفي كتابه عن المليحة ربط بين المدينة القديمة والحضارة اليمنية العظيمة وبلاد الرافدين حتى انها أي المليحة كانت همزة وصل مع حضارة انباط شمال شبه الجزيرة العربية. ويعتقد موتون ان الانجاز الأهم لامارة الشارقة على المستوى الأثري حتى الآن هو انجاز خارطة المسح الشامل فكما ترون الطريق المعبد يقسم المليحة القديمة ويخفي اجزاء منها وهذه مسألة يجب ألا تحدث. لا أنهار ولا حضارات أما ديفيد كونوي من جامعة ادنبره في اسكوتلندا فقد سبق له العمل في الأردن والعراق وتركيا وقد وجد علاقة كبيرة بين آثار هندرابي العراقية شمال الموصل وحضارة تدمر أو بالميرا كما يحلوا للغربيين تسميتها وبتراء الأردنية وهو يبحث عما يمكن ان تكون عليه طبيعة العلاقة مع أقصى جنوب الجزيرة أي الاماراتوعمان. ولپكونوي تفسير معقول يخفف من قلق السكان تجاه ضآلة الشواهد الأثرية اذ يقول: "من الواضح حتى الآن ان الظروف المناخية الخاصة بالمنطقة ابقتها لفترة طويلة كمنطقة عبور والسبب الرئيسي للمسألة على ما اعتقد غياب الأنهار وقلة المياه العذبة وقد كانت المستوطنات القديمة والمليحة منها عبارة عن محطة للقوافل العابرة من الخليج العربي نحو أعالي الجزيرة وبلاد الشام وعندما فضل العرب وغيرهم التنقل بحراً فقدت هذه الأماكن أهميتها. عربي في بعثة أجنبية زين الدين سخراوي جزائري أتى من ليون الفرنسية للمرة الأولى الى الامارات ويبدو انه لم يحقق بعد ذلك التواصل اللغوي مع سكان المنطقة الذين، يجادلونه في مسألة ما يلتقطه من أحجار من داخل الموقع يرى انها على درجة من الأهمية. وفي الوقت الذي يصر فيه سخراوي على تسميتها بالأحجار فان شباب المنطقة يحاولون تصحيح لهجته بالقول انها حصى؟! وسخراوي عمل في موقع جزيرة ليلوس اليونانية سابقاً ويرى انه من المبكر جداً كتابة قصة متكاملة العناصر عن تاريخ المنطقة حتى الآن اذ لا بد من تراكم كميات هائلة من الدراسات والمكتشفات تسمح باعادة صياغة التسلسل الحضاري التاريخي مؤكداً ان الاهتمام العالمي بالمواقع الاثرية الاماراتية ضرورة علمية لاستكمال حلقات مفقودة. في حين تعتبر اهتماماً جديداً في دول المنطقة في اطار استكمال العناصر التاريخية والتراثية والاجتماعية والاقتصادية وأكبر دليل على عدم اهتمام الناس أي العامة بما يحدث هو العدد القليل والنادر منهم الذين يزور المتاحف للتعرف الى محتوياتها. الامارات في ذاكرة التاريخ تشير المصادر الى ان أول حملة عسكرية ظهرت في تاريخ الخليج القديم هي حملة الملك سرجون الأكادي ومن بعده حفيده نرام سن. وتشير المخطوطات السومرية والأكادية بأن ثمة صلات تجارية ربطت هذه الممالك بممالك "البحر المر" وهو الاسم القديم للخليج العربي. ويقصد بممالك البحر مملكة دلمون في البحرين وشرق السعودية و"ماكان" أي ماجان وشمل الاماراتوعمان وكانت تجارة هذه الممالك الرئيسية تعتمد على اللؤلؤ والنحاس والأخشاب والمعز الأحمر أي بودرة النحاس. وكذلك ورد اسم "دلما" احدى الجزر التابعة لامارة أبو ظبي ويعتقد ان "أم النار" هو اسم عاصمة "ماجان" أما مليحة الشارقة فقد ذكرت تحت اسم ملوخا حسب اللغة الأكادية كذلك تؤكد المصادر مرور جيوش الرومان واليونان في المنطقة خلال توسعاتهم، في القرن الثالث قبل الميلاد ويرد اسم الشارقة على سبيل المثال ضمن المهمة الاستطلاعية لضباط جيش الاسكندر المقدوني منهم "نيروخوس" و"هيرون" كذلك ورد اسم مدينة "كلبا" فوق الساحل الشرقي المطل على المحيط الهندي لدى بطليموس الذي ذكر بأنها تقع قبالة جزيرة "كاوان" أي "قشم" عند مدخل الخليج. ويعتبر حصن الزباء في رأس الخيمة اكثر الشواهد الأثرية القديمة ضخامة وقد ثبت انه بني بأمر من زنوبيا ملكة تدمر والتي حاولت خلال فترة حكمها الاستنجاد بالفرس في قتالها ضد الرومان وقد استقرت في رأس الخيمة عند مدخل الخليج العربي لفترة حدث ذلك أثناء القرن الميلادي الثاني. أما في التاريخ الاسلامي فان ياقوت الحموي ذكر في معجم البلدان الذي ذكر بنونة الظبانية أما البغدادي فأكد هذه التسمية في مخطوطه مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع. أما دبا المدينة التاريخية على بحر العرب فقد ذكر ابن حبيب ان فيها سوقاً سنوية ضخمة يلتقي فيها تجار السند والهند والصين وأهل المشرق والمغرب ووصفها الطبري بأنها أي دبا السوق العظمى أما ياقوت الحموي فقال بأنها قصبة ساحل عمان الكبير كذلك ذكر الادريسي مدينة حفيت وهي موقع في مدينة العين اليوم. وعندما عبر ابن بطوطة المحيط الهندي وعرّج على مناطق العرب المطلة على بحر العرب وصف مدينة "خورفكان" احدى توابع الشارقة بأنها مكان من الصخر يتوسطها ماء وهكذا أعطاها إسمها!