الثروة الاثرية في منطقة الخليج العربي هي اكثر فأكثر موضع اهتمام عالمي، يتمثل في كثافة البعثات الاجنبية الناشطة حالياً على اكثر من صعيد. ولا يكاد يمر اسبوع الا وتتناقل وسائل الاعلام انباء اكتشافات جديدة حول مختلف القضايا التي تطرحها هذه الصحوة، والمشاكل التي تواجهها السلطات المعنية، حاورنا احد المسؤولين الناشطين في هذا المضمار، انطلاقاً من اعمال ونقاشات "المؤتمر الثاني عشر للآثار" الذي انعقد اخيراً في المنامة. تشهد دول "مجلس التعاون الخليجي" منذ مطلع الثمانينات، اهتماماً متزايداً بقطاع الاثار والتنقيب، وذلك بعد انغلاق طويل له ظروفه الجيو - سياسية والبيئية. ويترافق الاهتمام الجديد مع تجاوب دولي، متمثل بقيام الهيئات والجامعات والمتاحف العالمية بإرسال بعثات متخصصة الى المنطقة للبحث والتنقيب والدراسة. ولا شك ان الهدف الاساسي هو استكمال الحلقات المفقودة في تاريخ الحضارات التي عرفتها هذه البقعة الجغرافية، عبر الاكتشافات وعمليات التنقيب والمسح التي ازدادت كثافة في السنوات الاخيرة. ودول الخليج مهتمة الآن، بعد ان استكملت بناءها الاجتماعي، وحققت اقصى معدلات النمو الاقتصادي، بإعادة الاعتبار الى ارثها الحضاري وتجميع المعطيات والعناصر الكفيلة برسم صورة الاستقرار البشري في المنطقة منذ اقدم العصور. وتجدر الاشارة الى ان اولى عمليات البحث والتنقيب، بدأت على يد بعثة دانماركية بقيادة عالم الآثار بي. في. في العام 1958. ولم يكن ممكناً تحقيق اي نوع من الاهتمام بهذا الجانب من قبل، لان السكان كانوا يمانعون نبش "قبور الماضي"، ولم يقتنعوا بضرورة التعامل مع البعثات الاجنبية في النصف الاول من هذا القرن، وسط الظروف السياسية وصراعات القبائل التي عاشتها شبه الجزيرة العربية. اما اليوم، فيحدد موسم التنقيب والعمل في الاشهر الباردة من السنة، بمعدل سبعة اشهر سنوياً تزدحم فيها المنطقة بالبعثات الاجنبية المختلفة، حتى ان اليابانيين جاءوا بدورهم للمساهمة في هذا المجال!… تنقصنا الامكانات! وقبل اسابيع، اقيم في جامعة مدينة المنامة "المؤتمر الثاني عشر للآثار"، وذلك بدعوة من وزارة الاعلام البحرينية وبالتعاون مع "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" الكسو. خصص هذا المؤتمر لاستعراض اخر ما توصلت اليه الدول العربية على مستوى المسح الآثري. في هذا الاطار التقينا ناصر حسين العبودي، رئيس وفد الامارات الى المؤتمر، واحد ابرز الاختصاصيين في هذا القطاع على مستوى دول الخليج. وهو ايضاً مدير "متحف الشارقة" الذي لم تمض الا فترة قصيرة على انشائه. ويختصر ناصر حسين العبودي لنا هواجس المرحلة وتحدياتها: "ثمة امور تقلقنا الآن في المنطقة، وتحتاج وقفة جماعية للتصويب واستخلاص الدروس. على رأس هذه الامور الخلط العجيب بين الثروة التراثية والمقتنيات الاثرية في متاحفنا. وامام هذه الحالة نحن بحاجة لخبرات اكبر، نفضل لو تكون عربية من دول سبقتنا في مجال الاهتمام بهذا القطاع". ويتابع العبودي: "عمليات التنقيب تتم في شكال احادي. فكل امارة او دولة تزورها بعثات مختلفة معظمها من اوروبا: المانيا، الدانمارك، بلجيكا، فرنسا… وحتى سويسرا. هؤلاء يأتون الى منطقتنا لسد ثغرات علمية يحتاجون اليها في دراساتهم وابحاثهم حول الحضارات القديمة. ونحن نستفيد مما يقومون به، لكن في حدود ضيقة قد لا تتعدى الحصول على نسخ من هذه الدراسات! في الماضي، مع بدء عمليات التنقيب، كانت المكتشفات تسافر الى المراكز الرئيسية للبعثات، وهي جامعات ومتاحف ومنظمات دولية لافتقارنا الى معامل البحث والترميم والدراسة. اما الآن فنحاول تحقيق خطوة افضل بإقامة مختبرات محلية تتبع قطاع الآثار في كل مدينة مهمة لترميم ما يكتشف ودراسته محلياً. تنقصنا الامكانات ولا نزال في البداية". ويضيف العبودي: "مع بدء النمو الاقتصادي وقع لبس كبير في عملية تنظيم معروضات المتاحف واظهارها للعامة، بسبب الخلط بن المقتنيات التراثية القديمة والمكتشفات الأثرية. ربما كانت الاسباب قلة المكتشفات والقطع الاثرية التي بحوزتنا ذلك الحين. لكن الوضع تغير الآن. فالبعثات تقدم لنا ما تجده، وتجتهد في عملها قدر الامكان. واصبح لدينا رصيد نستطيع من خلاله، اعادة النظر في سياسة الماضي". سباق مع الزمن الاقبال الكثيف من البعثات الاجنبية، كيف تفسرونه؟ وكيف تستفيدون عملياً من انجازاتها؟ - ان تناقل وكالات الانباء العالمية وبمعدل يومي تقريباً لاخبار تتعلق بإكتشافات اثرية هامة في المنطقة، دليل على اهمية المكتشف والامكانات الهائلة في هذا الجانب. البعثات الاجنبية تنسق عبر القنوات الرسمية مع الجهات المسؤولة وهي عديدة للاسف في دول الخليج، وتطلب السماح لها بالقيام بمهمة المسح والتنقيب ودراسة الموقع. وجهاتنا المحلية تقدم الاقامة وبعض العون على مستوى العناصر البشرية المساعدة في عمليات الحفر والمواصلات. وغير ذلك… وعندما ينتهي العمل في الموقع، نركز - بالاضافة الى المتابعة اليومية الميدانية للورشات - على نتائج عمل البعثة على ضوء التقرير النهائي الذي يقدم الينا. وفي الواقع هناك فوضى او اضطراب في النتائج التي تتوصل اليها البعثات المختلفة، وقد لا تتفق بعثة مع الاخرى في الخلاصات لان المسألة بحاجة الى دراسات اعمق، وبحوث مخبرية الى آخره… نحن نتلقى جميع ما يتوصلون اليه وننتظر ترتيب اوضاعنا لتنظيمه والاستفادة منه. تحدثتم كثيراً عن ضرورة قيام "هيئة اتحادية للآثار" في الامارات السبع، وعملتم على استصدار قانون خاص بحماية الآثار في امارة الشارقة. فإلى ماذا توصلتم حتى الآن؟ وهل حان الوقت لقيام متحف آثار على مستوى الامارات؟ - مشكلتنا مع الآثار واعمال التنقيب تكاد تكون مشكلة عامة في دول الخليج، فأنا لم ار حتى الآن متحفاً خليجياً واحداً يقدم نفسه للمهتمين والباحثين كمتحف اثري. وبالتالي نحن لم نستطع حتى الآن انجاز اي عمل في هذا الاطار يوضح القيمة الحضارية للمنطقة. في جميع دول التعاون، نحن اليوم في سباق مع الزمن، لحماية ما لدينا او ما لم نكتشف بعد، من المخاطر المتمثلة في خطط التنمية السريعة التي تغفل هذا الجانب وتتسبب بإيذائه. ولعل التوصية الاهم التي سنعمل عليها الآن ونسعى الى تحقيقها قبل العام 1995، هي المسح الشامل للآثار في بلداننا، واعلان حماية المناطق الاثرية وابعادها عن خطط التنمية العشوائية. نعم نحن نحتاج الى هيئات عليا للآثار وقوانين خاصة بها. ونطمح الى اعادة تنظيم متاحفنا وما تكدس لدينا من مكتشفات، تمهيداً لقراءتها ودرسها واعادة كتابة تاريخنا القديم على ضوئها. القانون الخاص بإمارة الشارقة صالح للتطبيق ليس محلياً فحسب بل على مستوى دول التعاون ايضاً. والمشكلة الحقيقية تكمن في عدم رصد موازنات كافية لهذا القطاع على الرغم من جديته واهميته. انه لامر غريب ان تأتينا البعثات ومجموعات التنقيب من سائر انحاء العالم بإمكاناتها الضخمة وتمويلها الكبير في حين يبقى قطاع الآثار في دولنا تابعاً للسياحة والاعلام. مؤتمرنا الاخير في البحرين شكل لجنة متابعة ستحاول حث الدول المعنية على تقديم العون واعادة النظر. مع العلم ان قطاع الآثار بإستطاعته تنشيط حركة السياحة، والعودة على دولنا بمداخيل جيدة ايضاً… هل هناك تحف وقطع اثرية خليجية سربت الى خارج المنطقة، وكيف تعملون على استردادها؟ - نعم الكثير من المكتشفات التي تمت بالمصادفة عن طريق شركات النفط او الدول المستعمرة في الماضي تم تسريبها. وجهودنا منصبة على اعادتها الآن. لكن الامر يتطلب وقتاً واجراءات. وقبل كل شيء نحن نفكر اليوم في ترتيب اوضاعنا. واعادة تنظيم متاحفنا وتوحيد جهودنا في هذا الاطار. احدث الاكتشافات الاثرية في المنطقة البحرين: قام متحف البحرين الوطني بالتعاون مع فرق التنقيب الوطنية بنقل نماذج جيدة من الكتل الجصة التي تحمل اثار طبقات اقدام "البنائين الدلمونيين" وذلك من فوق جدار المدافن الاثرية التي تم تنقيبها في موقع الحجر وابو صبيع. وتعود هذه المدافن الى فترة تايلوس، وبعضها يعود الى نهاية القرن الرابع قبل الميلاد. الامارات: تم اكتشاف مدينة كاملة تحت رمال منطقة تل ابرق التابعة لامارة ام القيوين واهتمت بعثة الآثار الفرنسية المشرفة على اعمال الحفر والتنقيب في الموقع، ببقايا سور دائري لقلعة حصينة تتوسط المدينة. كما وجدت بقايا فخارية وبرونزية تؤكد استقرار بشري في المكان قبل خمسة آلاف سنة. ويعد اكتشاف تل ابرق من اهم الاكتشافات الاثرية في الامارات بعد جزيرة ام النار في ابو ظبي، ولم تستكمل البعثة بعد دراستها للموقع الذي يحظى بإهتمام دولي كبير. عمان: بعد الجدل الصاخب حول اكتشافات ارم التي اسفرت عن اهتمام عالمي بالموقع وما يتصل به من روايات تاريخية - اذ اعلن انها ليست الا حديقة "أوبار" الشهيرة - لا يزال العمل جارياً لاستكمال البحث والتنقيب. الكويت: احدث ورشة تنقيب تجري حالياً في جزيرة فيلكة التي سبق ان اكتشفت فيها مستوطنات بشرية ضخمة ترتبط بحضارة دلمون وحضارة ما بين الرافدين. وبدأت احدى البعثات الفرنسية عملها بالجزيرة قبل ايام في محاولة للقيام بمسح شامل لآثارها. السعودية: تجري حالياً اعمال تنقيب وحفريات في المنطقة الشرقية بالتعاون مع بعض الجامعات الاميركية والبريطانية. قطر: بعثة المانية واخرى فرنسية تقومان بعمليات مسح للمناطق الساحلية. توصيات مؤتمر المنامة صدر عن "المؤتمر الثاني عشر للآثار" المنعقد في المنامةالبحرين، مجموعة توصيات، ننشرها في ما يلي نظراً لاهميتها، ولما تكشفه عن الوضع الحالي لسياسة دول الخليج في هذا المجال: زيادة تبادل الزيارات والخبرات بين العاملين في مجالات التنقيبات الاثرية والمتاحف في الدول العربية، للاستفادة من التجارب المختلفة في هذا المجال. تبادل بعثات التنقيب بين الدول العربية. تبادل المعلومات، وبالاخص في مجال المسح الاثري واستخدام اللغة العربية في تعريفات المسح والنشر. توحيد المصطلحات ووضع الخرائط. وضع استمارة تسجيل موحدة للقطع الاثرية وتعميمها على البلاد العربية. الاسراع بإنهاء عمليات المسح الاثري في جميع الدول العربية. تشكيل فريق ميداني للمسح الاثري من قبل منظمة الپ"ألسكو"، يتم ايفاده الى الدول المحتاجة. انشاء بنك للمعلومات الاثرية والمتحفية واعمال الترميم. دراسة فكرة تأسيس اتحاد للاثاريين والمتحفيين العرب، يعرض مشروع نظامه الاساسي في المؤتمر المقبل. اصدار مجلة علمية متخصصة في دراسة الحضارة العربية، ودليل خاص بالعاملين في مجال الآثار في الوطن العربي. الدعوة الى اقامة دورات تدريبية وندوات فكرية للعاملين في مجال التنقيب والترميم والتراث. والاستعانة بالتقنيات الحديثة التي تقدمها الاقمار الاصطناعية خاصة "عربسات" من صور جوية للاستشعار عن بعد. رصد موازنة للصرف على هذه الانشطة. تنشيط المشروعات الخاصة بصيانة المدن التاريخية والاسلامية، ودعوة الدول الاعضاء الى المساهمة الطوعية في دعم هذه المشاريع. بعد مرور خمسين عاماً على قيام هذا المؤتمر، يدعو المجتمعون الى مراجعة تقويمية لما تم حتى الآن، وذلك بتقديم تقارير شاملة عن انجازات الدول الاعضاء حتى الآن. التوصية بالمشاركة العربية الى جانب المنظمات الدولية المهتمة، عن طريق تكوين فرق مشتركة للتنقيب والدراسة. اعداد واصدار اطلس للمواقع والمعالم الاثرية في الوطن العربي. عقد دورة تدريبية خلال 1996 تخصص لصيانة الآثار. الدعوة الى تحقيق ونشر وفهرسة ما يتوافر من برديات ومخطوطات اسلامية. الدعوة الى انشاء اقسام خاصة بالآثار في جميع الجامعات العربية. التنويه بالجهود العربية في حماية آثار مدينة القدس وتقديم امكانات الصيانة لها، بالاضافة الى جهود المنظمات الدولية للحيلولة دون ما تقوم به سلطات الاحتلال من تشويه للمعالم الاثرية في الارض المحتلة. تكثيف التعاون بين الجهات المسؤولة عن الآثار في الوطن العربي، لضبط المسروقات الاثرية واسترجاعها من الدول التي تسربت اليها. الدعوة الى توعية المواطن العربي بأهمية الاثار وقيمة التراث والمتاحف الوطنية والعالمية، وذلك برفد المناهج التعليمية في كافة المراحل الدراسية بمعلومات عن هذا القطاع. الاستعداد للمؤتمر المقبل في النصف الثاني في 1995، على ان يتطرق الى الموضوعات الآتية: أ - الطرق القديمة في الجزيرة العربية وافريقيا. ب - المسالك والدروب والطرق في الوطن العربي. ج - الرسوم والنقوش الصخرية في الآثار العربية. د - المنشآت المائية التاريخية في الوطن العربي.