وزير الطاقة يعلن الاستثمار في المعادن بما فيها اليورانيوم    السعودية واليونان.. شراكة إستراتيجية نحو آفاق أوسع من التعاون    فليك: فخور باللاعبين والجماهير أذهلتني.. وآنشيلوتي بغضب: نستحق الخسارة    بايدن يكشف عن قيود جديدة على تصدير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي    الشباب والهلال يتألقان في ختام بطولة المملكة للتايكوندو،    أكثر من 51 ألف مستفيد للخدمات الصحية بمستشفى القويعية لعام 2024    فيصل بن بندر ومحمد بن عبدالرحمن يعزيان في وفاة بدر بن حشر    نائب وزير الخارجية يستقبل مساعد نائب الوزير لشؤون أوروبا والقطب الشمالي والشرق الأوسط بوزارة خارجية كندا    سعود بن نهار يكرم المتميزين في البرامج والمنافسات في تعليم الطائف    حرائق لوس أنجليس.. إغلاق 335 مدرسة والخسائر 150 مليار دولار    تخصصي تبوك يفعّل تقنية الموجات فوق الصوتية بالمنظار    الأمير سعود بن نايف بن عبد العزيز يرعى توقيع اتفاقية لتطوير مداخل حاضرة الدمام    ختام مؤتمر مبادرة رابطة العالم الإسلامي لتعليم الفتيات في المجتمعات المسلمة    مفوض الإفتاء "صحة الإنسان قوة للأوطان"    استشهاد خمسة فلسطينيين في غزة    وصول الطائرة الإغاثية السعودية العاشرة لمساعدة الشعب السوري الشقيق    استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية في حائل    حرس الحدود بجازان يقبض على مواطن لتهريبه 59 كيلوجرامًا من الحشيش    الهلال الأحمر بعسير يرفع جاهزيته لمواجهة الحالة المطرية    نائب أمريكي: السعودية قوة وشريك أساسي لتعزيز الاستقرار    الإحصاء: %82.3 من الأطفال في عمر "24 - 59 شهرًا" يسيرون على مسار النماء الصحيح    انخفاض درجات الحرارة على منطقتي الرياض والشرقية اليوم    الأمير سعود بن نهار يلتقي مدير إدارة المساجد بالمحافظة    أمسية شعرية مع الشريك الأدبي يحيها وهج الحاتم وسلمان المطيري    لبنان: البداية باحتكار الدولة حمل السلاح    «هيئة الشورى» تحيل مشاريع أنظمة واتفاقيات للعرض على المجلس    مواد إغاثية سعودية للمتضررين في اللاذقية    «سهيل والجدي» ودلالات «الثريا» في أمسية وكالة الفضاء    خيسوس يعد الزعيم للمحافظة على «الصدارة»    شبح الهبوط يطارد أحد والأنصار    نغمة عجز وكسل    الراجحي يقلّص الفارق في المرحلة السابعة من رالي داكار.. وابن سعيدان ثانياً    جامعة الملك سعود تنظم «المؤتمر الدولي للإبل في الثقافة العربية»    «التربية الخليجي» يكرم الطلبة المتفوقين في التعليم    «جزيرة الأسماك» تحقق نجاحات اقتصادية وتجذب المستثمرين الدوليين    أمير نجران يستقبل مدير الجوازات    أمير الشمالية يطلع على أعمال جمرك جديدة عرعر    المسجد النبوي يحتضن 5.5 ملايين مصل    العلاقة المُتشابكة بين "الذكاء الاصطناعي" و"صناعة المحتوى".. المحاذير المهنية    «موسم الرياض» يسجل رقماً قياسياً ب16 مليون زائر    متفرّد    يِهل وبله على فْياضٍ عذيّه    أمير القصيم يرعى المؤتمر العالمي السادس للطب النبوي    في موسم "شتاء 2025".. «إرث» .. تجربة ثقافية وتراثية فريدة    لبنان الماضي الأليم.. والمستقبل الواعد وفق الطائف    حملة للتأكد من صحة بطاقة كفاءة الطاقة    سيتي يتطلع لحسم صفقة مرموش    «ولي العهد».. الفرقد اللاصف في مراقي المجد    هل نجاح المرأة مالياً يزعج الزوج ؟!    جميل الحجيلان    السباك    هل أنت شخصية سامة، العلامات والدلائل    المستشفيات وحديث لا ينتهي    7 تدابير للوقاية من ارتفاع ضغط الدم    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على والدة الأميرة فهدة بنت فهد بن خالد آل سعود    مباحثات دفاعية سعودية - أميركية    أمير القصيم يشكر المجلي على تقرير الاستعراض الطوعي المحلي لمدينة بريدة    الديوان الملكي: وفاة والدة الأميرة فهدة بنت فهد بن خالد آل سعود    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جوني عبده يتذكر . جلس الحريري على الأرض وطلب ساندويتش فأعجب به الهراوي 3
نشر في الحياة يوم 18 - 04 - 1994

ماذا تفعل السياسة بالصداقات حين تتغير مواقع الأصدقاء وحساباتهم وتحالفاتهم؟ يقول الراسخون في السياسة وفنونها ان لا صداقات دائمة في السياسة ولا عداوات دائمة، ويقصدون بذلك ان المصالح هي الخيار الدائم. وفي السياسة اللبنانية، في العقدين الأخيرين، نماذج كثيرة وصارخة لصداقات لا تدوم ولتحالفات تنقلب ولعداوات تأتي بها الريح وتذهب بها الريح.
بين السفير جوني عبده المدير السابق لمخابرات الجيش اللبناني والرئيس الياس الهراوي علاقة قديمة ووطيدة بدأت في السبعينات وثمة من يقول انها لم تعد كما كانت. وبين عبده ورئيس الوزراء رفيق الحريري علاقة وطيدة وحميمة بدأت مطلع الثمانينات وثمة من يقول انها لم تعد كما كانت، تماماً كما هو الحال بالنسبة الى العلاقة بين الهراوي والحريري والتي تزعم ألسنة السوء انها كانت شهر عسل طويلاً تعثر بعد نجاح الأول في تحقيق حلمه بتكليف الثاني تشكيل الحكومة اللبنانية.
السلطة تغيّر الناس. هذا ما يقوله أحد السياسيين البارعين في معرض تعليقه على العلاقة الصعبة في المثلث الصعب الذي يضم الهراوي والحريري وعبده. ويضيف: "في السياسة تتغير معاني الأشياء. فالعلاقة التي يمكن ان تكون مصدر قوة في وقت من الأوقات يمكن ان تتحول عبئاً في وقت لاحق".
وكان لا بد من طرح هذا السؤال وغيره على جوني عبده الذي حرص على تأكيد استمرار الصداقة الشخصية مع الرئيسين. وهنا نص الحلقة الثالثة:
لعب الرئىس الهراوي دوراً بارزاً في انقاذ مدينة زحلة خلال الصدامات التي شهدتها مطلع الثمانينات فماذا تذكر عن تلك الحادثة؟
- كان التنسيق قائماً بيننا وبين السوريين وكنت أتولاه من الجانب اللبناني لاقناع بشير الجميل بسحب مقاتليه من هناك. لم يكن من مصلحتنا ان تسجل "القوات" انتصاراً في زحلة في البقاع. ورفض بشير تسليم السلاح. وكان الحل اننا سلّمنا نحن سلاحاً لحل المشكلة. لعب الرئيس الهراوي دوراً مهماً في انقاذ زحلة والتقى الرئيس حافظ الأسد وبشير الجميل وكل الأطراف.
يومها اتهمنا بأننا كنا نعرف ماذا سيحدث في زحلة لأن الحكومة كانت تضم ثلاثة وزراء من المدينة هم جوزف سكاف والياس الهراوي وجوزيف أبو خاطر.
العلاقة مع الهراوي
متى بدأت علاقتك مع الرئيس الهراوي؟
- بدأت فعلياً قبل تعيينه وزيراً في حكومة الرئيس شفيق الوزان. كان الرئيس سركيس يكلفني أحياناً اجراء اتصالات مع أطراف وشخصيات قبل تشكيل الحكومة. وكان الهراوي عضواً في تجمع النواب الموارنة المستقلين. وكان الرئيس كميل شمعون يطالب بتمثيل التجمع بالنائب بطرس حرب الذي شغل سابقاً منصب وزير التربية. وظهر آنذاك نوع من الاعتراض الكتائبي على بطرس حرب. وكان من المفروض أن يتولى مسؤولية الوزارة أحد النواب الموارنة المستقلين مداورة. علمتنا لعبة تأليف الحكومات ان المهم هو ان تفعل ما لا يستطيع الناس الاعتراض عليه وليس ما يطالبون به، ومطالبهم متناقضة عادة.
هدّد شمعون بمعارضة الحكومة في حال عدم توزير بطرس حرب. قلت للرئيس سركيس بعدما استمزجت صديقي خطار حدثي رأيه: ماذا لو تم توزير الياس الهراوي خصوصاً ان لعائلته علاقات مع شمعون وهو سيكون قادراً على ازالة اعتراضه. وهذا ما حصل. وتوطّدت علاقتي مع الرئيس الهراوي وباتت متينة، وكان وزيراً ناجحاً حين تولى حقيبة الأشغال. كان يستيقظ في الخامسة ويبدأ عمله في السادسة.
متى عرفت ان الهراوي سينتخب رئيساً خلفاً لرينيه معوض؟
- اثر اغتيال الرئيس معوض. كنت أعلم أصلاً ان الرغبة السورية اعتبرت معوض أولاً والهراوي ثانياً وثمة من يقول ان جان عبيد كان الرقم الثاني والياس الهراوي الثالث. ولسبب من الأسباب ربما تخوّف عبيد.
ترشح الرئيس الهراوي ضد رينيه معوض وحكينا في هذا الموضوع. وكانت فكرته انه اذا ترشح فان هذا يعني انه لا يخضع لضغوط قوى خارجية وهذا مهم.
كيف كانت علاقتك مع رينيه معوض؟
- ممتازة لكنني لم أجتمع به بعد انتخابه.
من هو العرّاب اللبناني لوصول معوض؟
- لا نستطيع ان نقول العرّاب، لكن الرجل الذي لعب دوراً في توفير الاجماع حول معوض هو رفيق الحريري. عندما جاء النواب الى باريس بعد الطائف كان يمكن الاّ ينتخب معوض. ثمة نواب وبينهم نواب كتلة حزب الكتائب برئاسة جورج سعادة عبّروا عن عدم رغبتهم في الذهاب الى لبنان أو عن ترددهم. كان لا بد من مناورة هي اقناع جورج سعادة بأن لديه حظوظاً ولو بنسبة معتدلة في الفوز كرجل ثالث بعد المنافسة بين معوض والهراوي.
ما هو الدور الذي كان يمكن الحريري ان يلعبه في عهد معوض؟
- الدور نفسه الذي يلعبه الآن، أي ان يأتي وقت يتولى فيه رئاسة الحكومة. الحريري حاجة ملحّة للبنان.
هل يمكن اعتبار الحريري عرّاباً لوصول الهراوي؟
- لعب الدور نفسه الذي لعبه في وصول معوض.
هل كان الحريري اثناء الطائف مع وصول معوض.
- كان مع القرار الذي اتخذ في شأن وصول معوض.
الحريري والصداقة ... والعبء
وعلاقتك مع رفيق الحريري؟
- علاقة تعود الى العام 1983 خلال لقاء بيننا في القصر عند الرئيس الشيخ أمين الجميل. استدعيت من سويسرا حيث كنت سفيراً وكان بدأ الاعداد لاجتماعات جنيف ولوزان. التقينا وبدأت الاتصالات. وأذكر انه في رحلة ثانية الى لبنان نزلنا في بيت الياس الهراوي وبتنا ليلتنا عنده. الهراوي استغرب ان يجلس رجل بقدرات الحريري المالية على الأرض ويطلب ساندويتش. وأحب فيه هذا التواضع.
حصلت صداقة بيني وبين الحريري وتوطدت. كنا نتشاور ويستمع اليّ وأستمع اليه في كل المواضيع واستمرت الأوضاع الى ما بعد تعييني سفيراً في باريس، وحصل من قبلي دعم كلي لما يجري في لبنان. طبعاً أنا كموظف لا يحق لي القول انني أعترض على بعض الأشياء، لكنني لست موظفاً فقط. أنا سفير من خارج الملاك وثلاثة أرباعي سياسية قبل ان أكون موظفاً. ولقد اختاروني سفيراً في باريس ليس لأنني موظف وغير سياسي فقد جئت الى معركة طويلة عريضة وكان جو اللبنانيين في فرنسا مؤيداً تماماً لميشال عون وقد دفعنا ثمن ذلك غالياً، فقد احتل بعض اللبنانيين السفارة، ودخلوا منزلي وعبثوا بمحتوياته، وهددوا أفراد عائلتي، لكننا تمكنا في النهاية، أنا ومعاوني، من جعل باريس غير معادية على الأقل للحكم اللبناني ومن ثم مؤيدة له. وبعد سنة من وصولي استقبلت فرنسا الرئيس اللبناني استقبالاً رسمياً وسط استغراب السفراء العرب هذا الاستقبال الحافل.
ثمة من يقول ان علاقة الهراوي والحريري معك كانت مفيدة لهما في السابق بحكم خبرتك لكنها تحولت لاحقاً الى عبء عليهما، ما هو مقدار الصحة في هذا الكلام وما هي طبيعة العلاقة معهما اليوم؟
- لا أستطيع ان أنكر ان العلاقة تغيرت لكنها ليست بالسوء الذي يعتقده بعض الناس. العلاقة الشخصية لا تزال كما كانت والصداقة باقية. أما اذا كان الرئيس الهراوي أو الرئيس الحريري لم يعد يرى ضرورة لاستشارتي أو معرفة رأيي في ما يجري، فهذا يعود اليهما. كنت في السابق في دائرة القرارات الرئيسية ولم أعد كذلك اليوم. ربما حصل الأمر برغبة مني أيضاً. أما موضوع العبء فالسؤال يوجه اليهما خصوصاً ان ليس لدي مثل هذا الشعور.
كانت العلاقة حميمة بينك وبين الحريري فكيف هي الآن؟
- صحيح، كانت علاقة حميمة ولا تزال، وتبعت ذلك مشاركة في المسائل السياسية وهذا صحيح أيضاً. الصداقة باقية والمشاركة ربما لم تعد قائمة بسبب البعد الجغرافي وليس العبء.
هل لديك شعور بالخيبة من علاقتك مع كل من الرئيسين الهراوي والحريري، وهل تعتقد بأنه كان من المفروض ان يكون دورك أكبر في هذه المرحلة؟
- لا، أنا لم أطلب دوراً أكبر لأنني أعرف ان لا أحد يستطيع القيام بالدور الأكبر لا أنا ولا غيري. نحن موجودون في لبنان في ممر اجباري وأوضاع البلد والمنطقة معروفة. جهودهما تستحق التقدير. هناك أناس يحتملون أشياء بحكم طبعهم لا يحتملها آخرون. وهذا لا يعني ان الذين يحتملون هم أسوأ من الآخرين. ربما العكس تماماً. قد تفرض الأوضاع وجود أشخاص بمواصفات معينة وأطباع معينة من أجل البلد. لو كان عون مثلاً لا يزال موجوداً في لبنان لكان دوي المدافع مستمراً. أحياناً تكون الخيارات محدودة.
وأحياناً يكون الأمن أهم من أي شيء آخر. وما حققه عهد الرئيس الهراوي على صعيد الأمن مهم جداً، فهو على الأقل أوقف الهجرة. لقد اتخذ قرارات جريئة تنقصني شخصياً الجرأة لاتخاذها لو كنت مكانه، كما اتخذ قرارات لا أتخذها أنا لو كنت مشاركاً في اتخاذها وهذا من دون ان تنقصني الجرأة. ربما اجتاز لبنان الممر الاجباري في انتظار الجمهورية الثالثة أو الاستعادة الكاملة للقرار أو الوصول الى الديموقراطية الكاملة. ما يفعله الرئيس الحريري حالياً يمكن لبنان من الوجود ضمن المجموعة الاقتصادية العالمية ولا يمكن بلداً ان ينوجد سياسياً من دون وجود اقتصادي. ان الوجود السياسي ربما لا يزال يحتاج الى جهد كبير ولكن لا شك في ان الوجود الاقتصادي مهم.
انت الآن في الثالثة والخمسين هل تشعر بالمرارة من حجم دورك الحالي بعدما كنت ممسكاً بالخيوط في وقت سابق؟
- ليس لدي شعور من هذا النوع. بالمقارنة مع ابناء جيلي ورفاقي ربما أشعر بأنني حققت شيئاً غير قليل. أما اذا استمر المرء في المقارنة بين ما كان وما صار فعليه ان يسلم بأن كل صعود يعقبه هبوط وان كل هبوط يعقبه صعود وهذه طبيعة الأشياء. لا بد من الوعي الكافي للقدرة وفائدة الدور والاطار والتوقيت. أنا لا أذكر انني تعاطيت السياسة مرة. أنا تعاطيت العمل الوطني. من لديه حسابات سياسية مستقبلية لا يؤيد بشير الجميل. ولو كانت لدى المرء حسابات من أجل دور أو زعامة في طائفته لما أيّد اتفاق الطائف. أنا تصرفت دائماً وفق قناعتي الوطنية. هناك من يقول انني أعمل لرئاسة الجمهورية، ولو كنت أنوي ذلك فعلاً لاستقلت ضمن المهلة المحددة قانونياً.
اذا أردنا وصف علاقتك بالحكم حالياً فهل تقول مثلاً أنك في موقع نقدي تجاه ما يجري؟
- لكل ملاحظات عن الوضع ايجابياتها وسلبياتها. علاقتي بالحكم حالياً قد تكون من جهة وليدة قرار اتخذ بأن أعامل أنا - كما اعتبرت أنت - كموظف لا يحق له الكلام في السياسة. أنا مفهومي للوظيفة ليس على هذا النحو. أولاً انا لست من كادر وزارة الخارجية بل من خارجه. وجاؤوا بي من خارج الكادر على أساس أنني أتعاطى السياسة. لا أحد يستطيع ان يطلب مني التوقف عن الفهم في السياسة حتى ولو كنت على خطأ.
هل استمزجوك رأيك قبل تعيين خلف لك في باريس؟
- لا، وقد تقررت اعادتي الى الادارة المركزية في وزارة الخارجية في بيروت وسأعود. كان هناك من يعتقد بأنني لن أرجع وكان مخطئاً. من الناحية القانونية ليس لدي اعتراض فالقاعدة تقضي بأن لا يمضي السفير في الخارج أكثر من عشر سنوات وأنا أمضيت أكثر منها.
الحريري وعون والاموال
ما هي قصة الاموال التي كانت ترسل الى الجيش في آخر عهد امين الجميل وما هو مصدرها؟
- صحيح، كانت ترسل اموال الى العماد ميشال عون في أواخر عهد امين الجميل، مصدرها رفيق الحريري نصف مليون دولار شهرياً وكان الغرض منع تشرذم الجيش بسبب الحاجة المالية والتحاق افراد منه بالميليشيات. وللإنصاف فإن عون كان ينفقها في مكانها ولم يبدد منها قرشاً وكنا نطّلع على التفاصيل. وتوقفت هذه المساعدات عندما عُين عون رئيساً للحكومة وانقسم البلد سياسياً.
يصعب على اللبنانيين ان يتصوروا ان تكون لشخص ما علاقة قوية الى هذا الحد مع رفيق الحريري من دون ان يحاول الافادة منه مالياً؟
- ربما هذه هي القوة. فحين يدخل هاجس الاستفادة المالية لا تبقى للعلاقة قوتها. انا طلبت الكثير لمساعدة الآخرين. وللإنصاف اقول ايضاً ان الحريري ساعد كثيرين من دون ان يعرف من هم. مفهومه للمال غير مفهوم الاغنياء الآخرين. ذات يوم كان هناك مستشفى للراهبات في عجلتون يحتاج الى ترميم وتجهيز فجاءه وفد من الراهبات، وقلن له ان التكاليف تبلغ مليوناً و200 ألف دولار فقال لهن: اجمعن نصف المبلغ من المنطقة الشرقية وانا اقدم النصف الثاني. ذهبت الراهبات وكانت حصيلة جهودهن 25 ألف دولار فقال الحريري سأفترض انكن جمعتن نصف المبلغ وهذا هو النصف الآخر.
قوة الحريري وضعفه
هل غيّرت السلطة الحريري؟
- السلطة تغيرت بالنسبة الى رفيق الحريري وليس ان السلطة غيّرته.
قصدت هل ان الحريري الذي رأيته في 1993 هو نفسه الذي تعرفت اليه في 1983.
- قطعاً لا.
اذن السلطة غيّرته؟
- ربما في اتجاه الأحسن من حيث النضج السياسي وغير ذلك.
ما هي نقطة القوة لدى الحريري؟
- في اعتقادي الخاص - وربما كان للناس رأي آخر واتهامات - أن المرء اذا كان لا يريد شيئاً يصبح قوياً جداً. ليست لدى الحريري طموحات شخصية او مالية في لبنان.
لديه طموحات سياسية. كان يريد ان يصبح رئيساً ناجحاً للحكومة.
- اسمح لي بأن اعلن ان القول برئيس دائم للحكومة هو هرطقة. لا يجوز ان يقال ان شخصاً لا يمكن وجود بديل منه. فأخطر ما يمكن ان يقال عن رفيق الحريري هو ان لا بديل منه. كانت للحريري نظرة الى السلطة وتغيّرت. السلطة تغيّرت بالنسبة اليه. كان يعتقد بأن السلطة شيء في حين انها شيء آخر. تبين له ان في استطاعته بناء قصر في شهرين في حين يحتاج الآخرون الى سنة لبنائه لكن في لبنان اموراً صعبة لا يمكن انجازها او لا يمكن انجازها في وقتها على الأقل. ولا اعتقد بأن لدى الحريري طموحات مالية. فما ضحّى به لتثبيت السلطة في لبنان وعدم تشرذم الجيش ومساعدات الطلاب والمؤسسات الخيرية والاجتماعية يفوق مردود اي توظيف. طبعاً مع وجود اسم الحريري وظّفت اموال كثيرة في لبنان.
ما هي نقطة ضعف الحريري؟
- لعل نقطة ضعفه هي تفاؤله الدائم. هذا الكرم الذي لديه وما يفعله مع العالم ربما كان له علاقة بالتفاؤل.
انا عندي مشكلة مع الاثنين الهراوي والحريري وهي مشكلة الاعتراف بما اصبحت عليه علاقتنا واحدنا بالآخر، خصوصاً لجهتي انا، فحين اجلس مع الياس الهراوي لا استطيع ان اتصور نفسي اخاطب الياس الهراوي الرئيس بل اخاطب الصديق الياس الهراوي. والسبب بسيط هو ان السياسيين يحظون باحترام وانبهار في اوساط الناس الذين لا يعرفونهم اكثر مما يحظون لدى من يعرفونهم من قبل. ولنقل ان الشائعات نصفها صحيح ونصفها خطأ بمعنى اننا كنا نتشاور ثلاثتنا في كل شيء، لكن ذلك لم يعد وارداً الآن بمثل ما كان من قبل. وهذا الواقع يدفع الى الاستنتاج ان احدهما كان يمكن أن يتصرف بشكل آخر لو كنت الى جانبه. وهذا الاستنتاج، طبعاً، ليس صحيحاً وليس حقيقياً.
المستنطق المستهاب
اي صورة رسمتها في اوراقك لفؤاد بطرس؟
- فؤاد بطرس ذو ثقافة سياسية واسعة ورجل قانون من المستويات العليا. عادل في تصرفاته، دقيق جداً في حساباته، سياسته كانت او غيرها، فاحص رهيب ومستنطق مستهاب. يرميك بوابل من الاسئلة المتلاحقة لا ليربكك بل ليضيء في الموضوع مدار البحث كل جوانبه وليتمكن من السيطرة على المشكلة فيحاول ان يجد لها الحلول الملائمة. من يلتقي فؤاد بطرس - وكان هذا هو وضعي - عليه ان يمتلك الموضوع جيداً والاّ سيتعرض لإستنطاق ما بعد استنطاق. فؤاد بطرس، على رغم التحليلات الموضوعية، يبقى متردداً في اعطاء قراره الى ان يستند الى معلومات تؤكد هذا التحليل.
حاز ثقة كبيرة لدى الياس سركيس، لأنه من اولئك القلائل الذين لا يريدون كسباً مادياً او عاطفياً. وهنا تكمن قوته. هكذا اصبح فؤاد بطرس وبحكم صواب نظرته الى القضايا، مطلعاً اطلاعاً كاملاً على كل شؤون الدولة وشجونها وبات اول وزير خارجية يصله البريد السري من مديرية المخابرات وباقي الاجهزة بناء على تعليمات رئيس الجمهورية، كي يتمكن، خلال الاجتماعات التي كانت تعقد لدرس المشاكل الحاصلة، من الاحاطة بالموضوع من كل جوانبه وإبداء رأيه متكلماً لغة واحدة ذات معطيات واحدة في موضوع واحد.
لا عاطفة لديه على الاطلاق، لا في السياسة ولا في الادارة. كان يقول رأيه صراحة عند تعيين احد اصدقائه في مركز مهم فيعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله. يشرّح صديقه بحسناته وسيئاته بطريقة تشعر معها بأن الرجل لا يحب الغش على الاطلاق خصوصاً عندما يتعلق الامر بمصلحة الوطن. يضيء للرئيس ال "مع" وال "ضد" لأنه يعلم ان مسؤولية تعيين هذا الشخص في ذلك المركز تقع في النهاية على الرئيس والحكومة وليست مسؤوليته شخصياً.
ضعفه عائلي، كسائر الرجال الكبار الذين يحصرون عاطفتهم بعملهم اليومي وكأنهم يفجّرونها تجاه عائلتهم. كنت اشعر بأن اي موضوع امني في منطقة سكنه كان يربكه من دون ان يفكر مرة واحدة هل هناك خطر على حياته بل ان همّه كان ينصبّ على عائلته. يسأل ويسأل ويفحص ويمحص ويطلب مني احياناً ان اشرح للسيدة الفاضلة زوجته لأطمئنها. عاطفته تجاه اولاده لا حدود لها. تعلّقه بهم يصل الى حدّ الارتباك ثم السيطرة من خلال مزيد من المعلومات كان يطلبها عندما تدعو الحاجة.
الواقعية لا الاحلام
هو من الرجال الذين لا يحلمون. لا مكان للحلم على الاطلاق في تحليلاته وآرائه. يستند الى الواقعية وواقع الحال ولا يعتقد ابداً بأن "محور العالم يمر حكماً عبر لبنان". يعتبر احياناً ان الذين يحلمون هم ديماغوجيون اكثر منهم حالمون. ففي الظروف التي يكون فيها واقع الحال مرّاً ومؤلماً يسعى فؤاد بطرس الى التفتيش عن الحلول الممكنة للخروج من مأزق كهذا بينما يجنح الآخرون الى الاحلام والافلام والجنون فيزيدون الامور تعقيداً لتصبح الحلول شبه مستحيلة بعدما كانت صعبة.
فؤاد بطرس متهم بميله الى الغرب وبخاصة الى الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا، ويظهر كأنه يعطي وزناً كبيراً لقدرة الولايات المتحدة، في ذلك الوقت، على تفعيل الحلول. يصوّر النفوذ الفرنسي كواقع تاريخي ومستقبلي لا بد من اخذه في الاعتبار. وكان فؤاد بطرس يحب هذه التهمة لأنها تسمح له بحرية التحرك، لكن ايمانه كان مخالفاً تماماً لهذا الاتجاه. كان يعلم ان سياسة الولايات المتحدة تستند الى مصالح الولايات المتحدة ليس الاّ وبالتالي عندما يُطرح موضوع لبنان خصوصاً في ميزان المقارنة مع اية دولة من دول المنطقة فلبنان هو الذي تغدق عليه الرسائل المطمئنة المتعلقة بالاستقلال والحدود والسيادة فتبقى حبراً على ورق. وتفضّل الدولة الاخرى وبصورة خاصة وثابتة اسرائيل، وتساعدها على تنفيذ مصالحها حتى ولو على حساب لبنان. اما فرنسا، فصحيح ان لها تاريخها ووزنه، لكن العاطفة وحدها لا تكفي فقدرتها على تنفيذ شيء بسيط من عاطفتها تبقى قطعاً دون المستوى المطلوب. الا ان فؤاد بطرس، كسياسي لامع، كان يجب ان يصدق الآخرون عكس ما كان يعرفه هو، فيحسّن بذلك وضعه التفاوضي مع الآخرين فيأخذ منهم للبنان، مستعملاً اوراقاً قد تكون وهمية، ولكن لمصلحة لبنان والدفاع عنه كل شيء مسموح.
فؤاد بطرس "ينرفز"، هكذا يقال عنه. ان من يعرفه جيداً ومن يحضر معه مؤتمرات عربية وغيرها يتبين له ان النرفزة ايضاً لديه هي طريقة محاورة ومفاوضة، فهو "ينرفز" عندما تدعو الحاجة اثناء المفاوضات واثناء المناقشات للدلالة فقط على ردة فعل على ما يقوله الآخرون. ردة فعل تكاد تعبّر، بنرفزته، عن ضخامة وقع الكلام كأنه يقول لهم ان لبنان لا يحتمل ذلك على الاطلاق معطياً بذلك انطباعاً واضحاً ان هذا الكلام غير مقبول، او بالاحرى لا يُطاق. فؤاد بطرس، وزير الخارجية طوال مدة ولاية الرئيس الياس سركيس، كان يمثّل لبنان الذي يريده ان يكون وليس لبنان الواقع القائم. كان يحضر المؤتمرات ويتكلم ببراعة فائقة تشعر معها كأنه يمثّل بلداً كامل السيادة لديه جيش جرار وأبناؤه موحدون. كان يطلب مثلاً من الجيش، وكان اثناءها وزيراً للدفاع ايضاً، ان يتدبر أمره ويؤلف فرقة موحدة من جميع الطوائف للذهاب الى الجنوب، وتكاد هذه الوحدة العسكرية لا تتعدى الكتيبة اي خمسماية عنصر، فترى عندها فؤاد بطرس يتكلم في الامم المتحدة كأنه يستند الى قوة جبارة ويبدو في تدخله في الموضوع كأن لبنان سيّد نفسه لا ينقصه سوى تطبيق قرار الامم المتحدة لتهدأ الاحوال.
التشاؤم... ومبرراته
اما عن تشاؤم فؤاد بطرس المستمر، خصوصاً في تلك الحقبة من تاريخ الازمة اللبنانية، فلا غرو اذا ما امتنعت عن تفسير تشاؤمه لأن الاحداث التي تلت كفيلة بالاجابة هل كان تشاؤمه تشاؤماً ام قراءة صحيحة واضحة ورؤية سليمة لمستقبل الأحداث. ان النتيجة التي وصل اليها لبنان منذ عام 1982 لكفيلة بردّ هذه "التهمة" او "السيئة" اذا جاز التعبير.
عرفت فؤاد بطرس في الضيق والبحبوحة السياسية، عرفته في المؤتمرات والمفاوضات، في أحلك الظروف وأدقّها، من توليه وزارتي الخارجية والدفاع اثناء ولاية الرئيس سركيس، الى ما بعد وفاة سركيس، فوجدت فيه بطلاً وطنياً، ومقاوماً سياسياً ومجاهداً لمصلحة لبنان، يتعذر على كل من يعرفه جيداً ان يرى مثله في اي مقاومة عسكرية. وأعترف بأنه يكره الاعمال العسكرية والقتل والتدمير. وهذه لم تعط النتائج الوطنية المشرفة التي اعطتها صلابة فؤاد بطرس السياسية. هكذا عرفته، وهكذا أنقل بكل امانة من هو فؤاد بطرس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.