نقفه ليست مدينة عادية. فهي تذكر الاريتريين بأعوام الصمود الطويلة وكأنها كانت القلعة التي حمت حلم الاستقلال يوم كانت القوات الاثيوبية تحاول اقتلاع هذا الحلم من جذوره. ونقفه هي عاصمة اقليم الساحل الواقع في اقصى شمال اريتريا المتاخم لحدود السودان الشرقية. ويعتبر هذا الاقليم الاكبر اريترياً اذ تبلغ مساحته نحو 949،15 كيلومتراً مربعاً، وتقع عاصمته على ارتفاع 1750 قدماً فوق سطح البحر، والمدينة محشورة بين سلسلة جبال الساحل الشاهقة، ولا سيما جبل ظقاد ومرتفعات رورا حباب. لدى وصولي الى ابواب المدينة توارت اشعة الشمس الذهبية كلياً خلف الجبال العالية، وراحت نقفه تنزلق ببطء الى جوق ليل مرصّع بالنجوم فوق القمر المتألق، وذلك قبل ان يبدأ رذاذ الرطوبة في السقوط على هيئة حبات سبحة ذهبية مخترقة اضواء قاعة المؤتمر الثالث لپ"الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا" الذي عقد في العاشر من الشهر الفائت في هضبة دقدق المشرفة على مدينة نقفه. نقفه الرمز يعتبر ثوار اريتريا نقفه عاصمة صمودهم في وجه جحافل القوات الاثيوبية المدعومة آنذاك من قبل ما كان يعرف بپ"الاتحاد السوفياتي". ويذكر ان هذه المدينة كانت اولى المدن الاريترية التي حررتها قوات "الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا" في 23 آذار مارس عام 1977، وفشلت كل محاولات اثيوبيا لاستعادتها عبر وحداتها البحرية، وقواتها البرية، وفرق المظليين، وعليه فلا غرو اذا سعت الحكومة الاثيوبية ابان عهد الكولونيل المخلوع منغستو هيلا مريام الى تدمير نقفه بإمطارها بوابل من القنابل العنقودية والنابالم، بغية اغتيال ذلك الرمز بكل ما يحتويه من دلالة نفسية وسياسية وعسكرية، وتحولت نقفه مع مرور الزمن كابوساً يؤرق حكام اديس ابابا والخبراء العسكريين السوفيات. صحيح ان سلاح الطيران الاثيوبي، ومدافع القوات البرية الثقيلة والبعيدة المدى دمرت مدينة نقفه عن بكرة ابيها لكن ما بقي من المسجد وسائر البيوت يشهد على الدمار الذي تعرضت له عاصمة اقليم الساحل اكثر من اي مدينة اريترية بما فيها ميناء مصوع الذي حاولت الوحدات البحرية والجوية الاثيوبية دفنه في أغوار البحر الاحمر، بعدما تأكدت لديها استحالة استعادته من ثوار اريتريا عام 1990. وأياً كان الامر، فان شرارة الثورة الاريترية انبعثت من جديد من تحت ركام مدينة نقفه حيث تمركزت قوات "الجبهة الشعبية" اثناء قيامها بانسحابها الاستراتيجي من كل المدن التي حررتها مع نهاية عام 1978 ولغاية عام 1979، ثم بدأت الجبهة حرب الاستنزاف التي دامت خمس سنوات وتوجت في خاتمة المطاف بانهيار اكبر جبهة عسكرية اثيوبية في شمال شرق الساحل في 21 آذار مارس عام 1984. ومع انهيار هذه الجبهة العسكرية انهار نهائياً مشروع النظام الاثيوبي السابق لاستعادة نقفه من الاريتريين وتصفية ثورتهم. وكان الرئيس الاثيوبي السابق منغستو هيلا مريام يعلم قبل غيره ان شرارة نقفه تملك كل مؤهلات التحول الى لهيب كبير ما لم يتم اخمادها في مهدها، ولهذا السبب سخّر منغيستو كل امكانات اثيوبيا الضخمة في سبيل ذلك، ولكن هيهات فان ثوار اريتريا بدأوا من جديد مسيرتهم الطويلة بفك الحصار عن نقفه في عام 1984 فاتحين الطريق البحري الى مرمى تخلاي، ثم حطّموا جبهة نادوراز في آذار مارس عام 1988، واستولوا على مختلف الوان الاسلحة الحديثة التي استخدموها في تحرير ميناء مصوع في عام 1990، قبل تحرير كل اجزاء اريتريا في 24 نيسان ابريل 1991. وهكذا استحقت نقفه عن جدارة اسم عاصمة "الصمود والتحدي" ليس من قبل ثوار اريتريا وحدهم، بل من جانب الشعب الاريتري كله. نقفه ومؤتمر المستقبل اكثر من مسؤول اريتري قال لپ"الوسط" انه لم يكن من باب الصدفة اختيار مدينة نقفة لعقد المؤتمر التنظيمي الثالث لپ"الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا" وانما كان ذلك من باب الوفاء للشهداء الذين احتضنتهم تربة الساحل طيلة سنوات حرب التحرير العصيبة، ولسكان هذه المدينة الذين التفوا حول الثوار كالأم الرؤوف، ووقفوا معهم دون كلل في السراء والضراء، وعليه فان نقفه التي كانت بداية انطلاقة مسيرة تحرير كل المدن الاريترية، كان لا بد وان تكون ايضاً المدينة التي ينطلق منها مشروع اعادة بناء اريتريا سواء كان ذلك على الصعيد السياسي او الاقتصادي او الثقافي او الاجتماعي. وأضافوا ان نقفه يجب ان تبقى أبد الدهر حية نابضة في المخيلة الجماعية ليس للجيل الحالي، وانما للأجيال المقبلة ايضاً، لأنها البذرة الأولى والثمرة الاخيرة. ابتسامة ابناء نقفه على رغم افتقار اطفال نقفه الى كل شيء اي المنازل والمدارس والمستشفيات والألعاب والحلويات... الخ فانهم في حالة انشراح دائمة، فسألتهم "الوسط" عن مصدر غبطتهم فقالوا دون تردد نحن نعيش الآن في أمان وسلام وتركنا خلفنا شبح الخوف من ازيز الطائرات، وخصوصاً القنابل، فها نحن كما ترى نصول ونجول مع مواشينا دون خوف او وجل. ويرى حاج علي ادريس آدم رئيس مجلس الشعب في اقليم الساحل، الذي التقته "الوسط" في مدينة نقفه "ان اطفال هذه المدينة عاشوا عن كثب ويلات الحرب، وخرجوا من بين فكي الموت الاكيد، ولهذا تجدهم يحبون الحياة ويقدرونها حق تقدير، ولا شيء في هذه الدنيا يكدر عليهم لذة العيش مع انهم لا يملكون شيئاً مقارنة مع بقية اطفال المدن الاريترية الاخرى، هذا دون الذهاب بعيداً، وهذا هو سر ابتسامتهم العادية والعفوية في تقديري". وتابع: "اذا كان اطفال نقفه يستقبلون المستقبل بابتسامة واعدة، فان الطبيعة هي الاخرى لم تعد تطيق الألوان الشاحبة، وأمست كما ترى تكتسي بأزهى الألوان وأبهرها احتفالاً بعيد نقفه الذي هو عيد الوطن بأسره، فنقفه هي القطرة الأولى في نهر الوطن الهادر". صعوبة الحياة ليس كل شيء زاهياً ووردياً في نقفه، بالعكس فان الحياة هناك بالغة الصعوبة، وقاسية الى أبعد الحدود. ومعركة توفير لقمة العيش اليومية ليست اقل ضراوة من أي معركة اخرى في مدينة ما زالت لغاية الآن تعيش على وتيرة المعارك في سبيل البقاء اليوم، بعد نهاية المعارك من اجل الوجود بالأمس. فها هو المقاتل الاريتري صالح محمد صالح البالغ من العمر 28 عاماً من الذين شملهم التسريح من الجيش الاريتري في شهر آب اغسطس الفائت، يحاول جاهداً تثبيت اقدامه في مدينة نقفه التي ولد فيها في ظل ظروف اقتصادية غير مواتية. قال صالح لپ"الوسط": "لست نادماً على ترك الخدمة العسكرية، لأنني لم التحق بالثورة الاريترية لاحتراف الجندية، وانما لطرد المستعمر من تراب الوطن. والآن وبعد تحرر كل شبر من ارض اريتريا الغالية، أجاهد وبالمستوى نفسه في سبيل توفير حياة مدنية عادية لي ولجميع افراد اسرتي الموجودين بشرق السودان، وتحديداً في بورتسودان". ورداً على سؤال عن قصة تركه الجيش ومتاعب انخراطه في الحياة المدنية، قال صالح محمد صالح: "ابلغتني الجهات الرسمية في الحكومة الاريترية بقرار اعفائي من الخدمة العسكرية، وذلك ضمن خطة تسريح الدفعة الأولى من الجيش الشعبي الاريتري، وتقاضيت ما يعادل ألف دولار كمساعدة، ريثما اعثر على عمل ما في أي مرفق مدني. فبادرت على الفور بدراسة سوق نقفه الاقتصادي لمدة شهرين كاملين، ثم قررت في نهاية الامر فتح محل لبيع عصير الفواكه، وهو المحل الوحيد في كل المدينة الذي يقصده كل الناس". ولم يرد صالح على سؤال عن دخله الشهري، واكتفى بالقول "لا توجد خسارة، والحالة مستورة" ولكنه وكغيره من تجار نقفه خاصة، وتجار اريتريا عامة، يشكو من عبء الضرائب المفروضة عليه من قبل الحكومة. ورفعت "الوسط" شكاوي التجار في مدينة نقفه الى حاكم اقليم الساحل محمد سعيد ناود رئيس اللجنة التنفيذية لجبهة تحرير اريتريا - التنظيم الموحد - سابقاً فأوضح: "شكاوي الناس من ثقل وطأة الضرائب الحكومية لا يمكن وضعها في سلة واحدة. فهناك شكاوي معقولة يجب اعادة النظر فيها، وهناك شكاوي باطلة، ولذا ارتأينا تكوين لجنة مؤلفة من ممثلي التجار، وقسم الضرائب، وجهاز المالية، بغية ايجاد حل يأخذ في الاعتبار مصالح جميع الاطراف". وواصل "هناك اعتقاد خاطئ لدى بعض المواطنين الذين يعتقدون بأنه يكفي فتح بقالة لكي يتحول المرء الى تاجر بين عشية وضحاها... ولدرجة ان الدكاكين المفتوحة اصبحت اكثر من عدد سكاف المدينة نفسها". حصار المتاعب عن أبرز مشاكل اقليم الساحل، ومدينة نقفه خاصة، قال ناود: "متاعب اقليم الساحل لا تحصى ولا تحصر، وتأتي في مقدمة تلك المتاعب مسألة عدم وجود شبكة مواصلات بين كل اجزاء الاقليم من ناحية، وبين هذا الاقليم وبقية اقاليم اريتريا من ناحية اخرى". وأضاف "ومعروف في عصرنا الحالي انه لا يمكنك عمل أي شيء كان في ظل غياب الاتصالات والمواصلات، ناهيك عن الاقدام على طرق ابواب قضايا شائكة مثل قضية اعمار المدينة، والشروع في مشروع تنمية الاقليم بأسره". ويذكر ان عدد سكان مدينة نقفه الآن يقدر بنحو 3500 نسمة. علماً أن السواد الاعظم من هؤلاء الناس لا يعتبرون من سكان المدينة الاصليين، بل وفدوا اليها حديثاً. وسألت محمد سعيد ناود ما اذا كانت لدى الحكومة الاريترية سياسة مبرمجة لاستقبال سكان اقليم الساحل الموجودين في مخيمات معسكرات اللاجئين بالسودان، فأجاب: "أعربت السلطات الاريترية عن رغبتها في عودة كل اللاجئين الاريتريين الى ديارهم في اقرب فرصة ممكنة، ولكن المشكلة كل المشكلة تكمن في توفير السكن والمدارس والعمل والمراكز الصحية... الخ لما يزيد على نصف مليون شخص، وهذا ما يفوق طاقة الحكومة الاريترية على الاقل في المرحلة الراهنة. وعلى سبيل المثال احب ان الفت نظرك الى عدم وجود اي مستشفى في عاصمة الساحل، وأقرب مركز صحي الى نقفه يوجد في منطقة طبرا الواقعة على بعد 73 كلم... ولا نملك سيارة اسعاف واحدة عند الضرورة، والحبل على الجرار". وزبدة القول في رأي ناود "تحتاج اريتريا الى تضافر كل الجهود المحلية، والى دعم كل الدول الشقيقة والصديقة حتى يقف اقتصاد البلاد على قدميه قبل ان يطير بجناحه...". تركت مدينة نقفه مع شروق الفجر ودون خشية مطاردة طائرات اثيوبيا العسكرية، وخلفي شعار المؤتمر الثالث لپ"الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا" القائل "لننهض لصنع المعجزات في زمن السلم، كما فعلنا في زمن الحرب". ذلك هو السؤال الكبير، هذا ان لم نقل التحدي المطروح ليس في مدينة نقفه وحدها، بل في عموم الساحة الاريترية، وان الكثير من الامور يتوقف حول كيفية الاجابة عليه بصورة عملية في غضون الأيام المقبلة. دور المرأة في حرب التحرير إبان تواجد "الوسط" في مدينة نقفه لاجراء تحقيق عنها، صادف وان افتتح الاتحاد الوطني للمرأة الاريترية معرضاً يبرز دور المرأة الاريترية في فترة الكفاح المسلح، علاوة على مختلف الاعشاب الطبيعية التي يستخدمها سكان ريف اريتريا للعلاج من كل الوان الاوبئة، والصناعات اليدوية التقليدية، والأحجبة التي يعتقد البعض بأنها تصون من عين الحسود. تحدثت المقاتلة نور محمد عن دور المرأة الاريترية في حرب التحرير الى "الوسط" فقالت: "خلال سنوات النضال استطاعت المرأة الاريترية بفضل "الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا" من كسر كل الحواجز التي كانت تحول دون انعتاقها، وتفتق قدراتها الابداعية في شتى الميادين. فأبلت بلاء حسناً في القتال، وقدمت تضحيات جسيمة ليست اقل مما قدمه الرجل". وتابعت: "الشيء المؤسف، الآن وبعد تحرير الوطن غدت تظهر بعض الآراء الغريبة والتي تفيد بأن على المرأة ان ترتاح، وتعود الى دائرة الشؤون المنزلية الضيقة. وأنا بدوري اتساءل اذا كان ذلك حقاً من باب الاشفاق على المرأة كما يبدو الامر لأول وهلة، فلماذا يا ترى لم يتم التعبير عن ذلك الاشفاق على المرأة عندما كانت تموت في خندق واحد مع الرجل في احلك مراحل حرب التحرير. لا وألف لا، فان مكانة المرأة الطبيعية ليست قاصرة في القضايا المنزلية، وان دورها ليس محدوداً في تفريخ الاطفال وتربيتهم فحسب، بل عليها اليوم ان تناضل اكثر من أي وقت مضى في سبيل تعزيز موقعها في الحياة العملية، والذود عن حقوقها كاملة رغم أنف الرجل لو اقتضى الأمر ذلك". ثم استدركت قائلة: "لا أقول ذلك من باب التجني على الرجل، لأن مواقف الرجال من هذه المسائل تختلف باختلاف عقلياتهم، ولكن وكل ما في الامر لا يمكن ان ينهض المجتمع الاريتري من كبوته من دون مساهمة المرأة في كل الحقول من دون اي استثناء. والمفاضلة لا يجب ان تكون بالجنس وانما بالقدرة على العمل والعطاء ليس إلا". سألت "الوسط" آمنة مسؤولة فرع "الاتحاد الوطني للمرأة الاريترية" ما اذا كانت تربط حجاباً على كتفها خوفاً من عيون الزوار أو "الحساد"، فردت بابتسامة عريضة "لا، انا لا أؤمن بهذه الخزعبلات، ولكني لا أذكر وجود مثل هذه الاشياء في بعض الاوساط الاريترية، ولذا ارتأينا عرضها باعتبارها ما زالت موجودة، وتمثل جزءاً من عموم تراث هذا الشعب". ثم واصلت "الوسط" زيارتها للمعرض وتوقفت لدى القسم الخاص بمراسم الزواج، وطرحت على سعدية آدم جملة اسئلة حول هذه المسألة تحديداً، فقالت: "في السابق لم يكن احد يأخذ برأي الفتاة ما اذا كانت راغبة في الزواج من فلان أو علان، او انها تريد مواصلة تحصيلها العلمي... بل والأدهى من كل ذلك فان فتاة في مقتبل العمر كانت تكره على الزواج من عجوز أشمط يريها "نجوم النهار" كما يقول أهلنا هنا، ولا يسمح لها بالطلاق. واذا حدث وتم طلاقها فانها نادرآً ما تجد من يخطبها بحجة انها فقدت بكارتها. وهكذا كانت المرأة الضحية الأولى والاخيرة لعقول متخلفة صاغتها تقاليد بالية وعقيمة". وأضافت: "والآن بفضل دور المرأة البارز في عملية تحرير الارض من المستعمر، وتحرير الانسان من رواسب الماضي، بدأت المرأة تنتزع حقوقها في الحياة الكريمة.