لا يكف المسؤولون السعوديون، وفي مقدمهم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، منذ انخفاض اسعار النفط سنة 1986، ثم الغزو العراقي للكويت صيف 1990 وما حمّلته حرب تحرير الكويت للخزينة السعودية من نفقات مادية قاربت 60 مليار دولار، عن التطرق الى واقع الاقتصاد السعودي. ولا يترددون في الحديث عن ضرورة خفض النفقات او عصرها. واذا لم يكن للسعودية خيار الحرب في اي وقت مضى، بل فرضت عليها حرب العراق - ايران التي دامت ثماني سنوات ثم حرب تحرير الكويت، ومضاعفات الحروب الاهلية في اليمن ولبنان وأفغانستان وغيرها... فإنها وقفت في الصف الأمامي لئلا يسقط العراق، وتخندقت في الصف الذي حال دون ان تصبح الكويت المحافظة العراقية التاسعة عشرة. وكلفتها كل هذه المواقف نفقات مادية وبشرية فاقت التوقعات سواء في الحرب العراقية - الايرانية او في حرب تحرير الكويت التي ادخلت عنصر القوة الدولية الى المنطقة لدواع استراتيجية وأمنية يصعب تجاهلها. وبالتالي تحملت المملكة القسط الأكبر من فاتورة حرب عبثية أثرت في جدول مشاريعها ومسؤولياتها الوطنية والدولية الى اليوم. وأوضح الملك فهد في حديثه الاسبوع الماضي الى المواطنين ان حرب الخليج "أكلت الرطب واليابس... واذا كانت الدولة تحملت مبالغ طائلة من النفقات فهذا واجبنا على كل حال ولا يمكن ان نتأخر عن جيران لنا"، مؤكداً انه لولا قيام بلاده بواجبها ودورها لما أمكن صد صدام حسين وبالتالي تحرير الكويت. مواصلة ضبط الانفاق وتقول مصادر موثوق بها في وزارة المال السعودية ل "الوسط" ان "القيادة السعودية عازمة على مواصلة سياسة ضبط الانفاق بل زيادتها قوة خلال العامين المقبلين حتى يتم التخلص نهائياً من آثار الأعباء المالية لحرب الخليج". وأشارت الى ان عجز الموازنة في السنوات الماضية "أمر معروف للجميع وتعلنه الحكومة عند اقرار موازنتها السنوية التي تحدد العجز الذي ستموله بالاقتراض بواسطة اصدار سندات، الى جانب الاقتراض الداخلي لتغطية العجز. وهو ما يفعله الكثير من دول العالم". وتضيف المصادر ذاتها ان القرار السعودي، العام الماضي، بخفض الانفاق الحكومي بنسبة 20 في المئة "سيليه مزيد من الاجراءات خلال موازنة 1995 اضافة الى التوجه نحو تحويل ملكية الدولة في بعض المؤسسات مثل الخطوط الجوية السعودية والاتصالات الى ملكية القطاع الخاص. وهي خطوة سبق للادارة السعودية اتخاذها على صعيد بعض الشركات والمؤسسات مثل الشركة السعودية للصناعات الاساسية "سابك". وكان حجم الانفاق والايرادات في موازنة 1994 بلغ 160 بليون ريال 42.67 بليون دولار بانخفاض نسبته 20 في المئة عن العام 1993. لكن المهم في رأي الملك فهد هو "ان نحافظ على قوة اقتصادنا في حدود الامكانات المالية المتوافرة وهو ما تقتضيه الحكمة وسداد الرأي ومن ذلك المحافظة على قيمة الريال السعودي كما هي من دون أي تعديل". وفي الوقت الذي يقر السعوديون بوجود مصاعب مالية فان المملكة ترى ان في وسعها الاستمرار في اقتراض الأموال لتغطية جوانب النقص في العائدات من دون الاضرار بالوضع المالي للبلاد في الخارج. القطاع الخاص يعوّض وتتفق آراء بعض المحللين الاقتصاديين في وزارة المال وبعض البنوك السعودية على امكان "ان يعوّض القطاع الخاص في المملكة انخفاض الانفاق العام الناتج من خفض الموازنة العامة للدولة". ويشير هؤلاء الى ان الخفض في صورته الاجمالية "يتماشى مع المنهج الذي أقرته استراتيجية التنمية لخطة المملكة اعتباراً من خطة التنمية السادسة التي تركز بقوة على سياسة واضحة ليتسنى فتح المجال امام مبادرات القطاع الخاص في مجال الاستثمار والتمويل معاً لمشروعات الخطة للقيام بدور قيادي في خطة التنمية". واستبعد احد المحللين في سياق حديثه الى "الوسط" ان يكون "الخفض السابق واللاحق انتهاجاً لسياسة انتقائية تستهدف خفض الانفاق في الاقتصاد الرأسمالي، لكنه تعبير عن سياسة تبادل المواقع بين القطاعين"، مشيراً الى بيانات وزارة المال والاقتصاد الوطني التي أوضحت احتفاظ القطاع الخاص بفاعلية في رفع معدلات نمو الناتج المحلي على رغم الانخفاض في عائدات النفط. وبيّن ان السياسة المالية للحكومة السعودية "تأخذ في الحسبان اتجاهات الاقتصاد العالمي المتوقعة والتي قد لا تكون في مصلحة النفط خصوصاً ان رياح اسعار النفط وعائداته التصديرية قد لا تحقق زيادتها الا من خلال زيادة الانتاج والتصدير، الأمر الذي تتحاشاه المملكة لئلا يحدث انهيار اكبر في اسعار عائدات الدول المصدرة". ولعل من المفيد الاشارة الى تضاؤل امكان حدوث "آثار انكماشية" على اتجاهات النمو المرتقبة في خطة التنمية السادسة بعد خفض الموازنة، ذلك ان تطبيق هذه السياسة يفتح المجال امام القطاع الخاص لقيادة مسيرة التنمية في المرحلة المقبلة بعدما اكملت الدولة ما يلزم من مشروعات المرافق والبنية الاساسية بكلفة بلغت 900 مليار دولار مع الحفاظ على استقرار مستويات المعيشة محلياً وسعر صرف الريال امام العملات الأجنبية. الاقتراض سياسة صحيحة ويقول وزير المال والاقتصاد السعودي السيد محمد أبا الخيل: "ان قيام حكومة ما بالاقتراض لتواصل تنفيذ برامجها الانمائية ولتحريك الطلب الداخلي هو افضل من فرض ضرائب او رسوم لتمويل العجز. واذا كان كثيرون في الولاياتالمتحدة وأوروبا وهي دول صناعية ومتقدمة يرون انها سياسة صحيحة ويعترضون على اي اتجاه لزيادة الضرائب لتمويل العجز، فإنه اكثر من صحيح في دولة نامية تحتاج الى استمرار زخم النمو فيها". وتساءل: "ألم تمول المانيا معظم نفقات توحيدها - على ضخامتها - بالاقتراض؟". وأكد أبا الخيل: "ان معظم الدين العام في السعودية هو من الداخل ولا يمثل ما اقترضته السعودية من الخارج سوى مبلغ محدود جداً لا يزيد على 4500 مليون دولار، وهو مبلغ ليس له اي مغزى لدولة مثل السعودية. وحتى اجمالي الدين العام في السعودية بكامله لا يصل الى اكثر من 52 في المئة من اجمالي الانتاج الوطني، وهو أقل من الحد الأعلى الذي حددته مجموعة الدول الأوروبية المشتركة كمعيار للسلامة المالية". ويستفاد من معلومات متداولة بين الدوائر الاقتصادية في السعودية ان "عملية اعادة توظيف الاموال الخاصة بعد حرب الخليج تباطأت بعد حرب تحرير الكويت، كما تراجعت الودائع الحكومية نتيجة تدني عائدات النفط والتزامات الحكومة الضخمة، ومن بينها - على سبيل المثال - صفقة شراء حوالى 50 طائرة من شركتي "بوينغ" و "مكدونال دوغلاس" لمؤسسة الطيران المدني بقيمة تتراوح بين 6 و7 مليارات دولار، والتي لا يزال التمويل يقف حجر عثرة امام اتمامها". واذا كان حديث العاهل السعودي عبّر عن الكثير من الهموم الاقليمية والسياسية الداخلية والخارجية، فانه لم يخف طبيعة البلد وواقعه وكيف انه نسيج واحد، وبالتالي فان اي مؤثرات ايجابية او سلبية تقع ضمن هذه الدائرة لا تستثني احداً. فقد شهد المواطن السعودي احداثاً هائلة في تسارع التنمية التي شملت قطاعات كبيرة في البلاد. وعايش تطورات ساخنة على الساحتين العربية والدولية ودفع قسطه من تلك الالتزامات. لكن الشيء الذي لا يقبل الجدل او النتائج التي تخل بطبيعة حياته هو ان الأمن مساو للوجود، وكانت مصاريف الحرب جزءاً من خطة دفاعه عن استقلاله وسيادته وحريته. شراكة المصير الواحد واذا كانت في كل بلد عناصر لا تعتقد بخطأ سلوكها او تفكيرها فان السلطة في المملكة ظلت بعيدة عن سياسة القمع والتطرف مع هذه العناصر لأنها تقيم علاقاتها الوطنية على مرتكز "شراكة المصير الواحد". ولكن ان يصبح الصدى الخارجي صاحب التأثير في مثل هذه العناصر فتحاول ان تخلق بلبلة او تعمم مفاهيمها بطرق معاكسة فان الرادع الشرعي هو الحكم في مثل هذه القضايا، وتحقق ذلك في اكثر المواقف من دون ان تجر الدولة الى منزلقات ترفضها ولا تؤمن بجدواها. وفي هذا الاطار قال الملك فهد في اشارة الى القبض على 157 شخصاً لتجاوزهم توجيهات هيئة كبار العلماء وما نتج عن تصرفاتهم "من اثارة تجمعات والدفع ببعض من غرر بهم للاخلال بالأمن وتعاملهم مع قوى خارجية": "اذا أراد احد ان يخرج عن نطاق المنطق والمعقول ويخرج عن العقيدة الاسلامية فلن نتردد بأي حال من الاحوال في ان نوقفه عند حده وندله الى طريق الصواب. ولا نعتمد بعد الله عز وجل الا على طلبة علم فطاحل فهم الذين يتوقفون عند هذا الشيء ولا نتخذ خطوة لها علاقة بالعقيدة الا بعد ان نرجع اليهم ... اما ان يأتي من يأتي ليحاول الاخلال وتملى عليه الشروط من خارج الوطن ويعتبر الثرثرة والكلام انه الاساس والقاعدة ويتهم طلبة علم فأظن انه ليس مطلوباً منا ان نقول ان هذا الأمر طيب". وكان الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية اكد ان "ما قامت به هذه الفئة يدل على ظواهر غير محصورة لا يمكن التسامح معها كونها عبثاً بأمن البلاد ودعوة الى الفتنة وذلك يعد خروجاً وعصياناً وهناك معلومات مؤكدة لدينا على اتصالاتهم الخارجية بالدلائل القاطعة". الأمير سلطان وتقول مصادر ل "الوسط" ان انشاء المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية برئاسة الأمير سلطان بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والذي يضم في عضويته عدداً من كبار المسؤولين السعوديين بينهم وزراء الداخلية والخارجية والمال والتعليم العالي والشؤون الاسلامية والأوقاف وغيرهم، انما يهدف الى التنظيم والاشراف على كل ما يتعلق بالدعوة واعتماد برامجها وخططها وتحديد وسائلها والتأكد من صرف المعونات وسبل الدعم بما يخدم الدين الاسلامي واظهار حقيقته المتسامحة البعيدة عن اي شكل من اشكال التطرف. ولم يخف الأمير سلطان بن عبدالعزيز لدى ترؤسه اول اجتماع للمجلس في حضور اعضائه كافة الثلثاء الماضي ان بلاده "تقف ضد الارهاب وضد كل من يمارس الارهاب وتحت غطاء ان هذا من الاسلام وهو ليس منه"، مؤكداً "ان المملكة لن تقدم اي مساعدة الى الجهات التي تمارس الانشطة السياسية وتحاول الدخول الى المعترك السياسي عن طريق التمسح بالدين الاسلامي وتمارس الهدم في مجتمعاتها". على أية حال، حديث الملك فهد تعرض للكثير من التنظيمات والتشريعات والمكتسبات، وكان من بينها الاهتمام الدولي بالمملكة منذ اعادة توحيدها على يد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود الذي جدد تاريخها ووضعها في واجهة القوى الصاعدة في العالم. وكان لاكتشاف البترول في زمن الصراعات الكبرى العالمية التي فجرت الحربين الكونيتين، الأثر الأهم لتأتي مراحل الانتقال الكبرى وتأسيس الدولة الحديثة بكل زخمها الاجتماعي وتفاعلاتها العالمية. ومن هنا كانت اشارة خادم الحرمين الشريفين الى اكتشاف النفط في بلاده حين قال: "في وقت من الأوقات لو برزت في بلادنا اشياء لها قيمتها مثل البترول او غيره، ربما ما تترك مستقلة فقد توضع اليد عليها من أجانب، لعلها جاءت ظروف ان يكونوا أقوى منا بالعدة والعتاد، كل شيء بقي في مكانه الى ان انتظمت الدولة وأصبح المواطن من الشمال الى الجنوب ومن الشرق الى الغرب وقد احس بالأمان والاطمئنان". هذه الحقيقة يستحيل تجاهلها في ظروف دولية مختلفة كانت مسألة السيادة فيها للقوة وحدها. وكانت بريطانيا وفرنسا تتصرفان كأن الكرة الأرضية اقطاعية مقسومة بينهما، لكن اختلاف القوى بعد الحرب العالمية الثانية وصعود السعودية كقوة اقليمية مستقرة وسط دول عربية محتلة او ناقصة السيادة جعل المملكة تلعب دوراً مختلفاً حتى اصبحت مركز الثقل العربي، وحتى في حالات الاضطراب السياسي في عقدي الخمسينات والستينات. فضلاً عن كونها المركز الروحي للمسلمين وجذر التاريخ العربي الذي شكل حضارة عريقة ربطت القارات الثلاث الرئيسية في العالم بذلك الاشعاع الكبير. بمعنى اوضح، اذا كان المركز الروحي للحرمين الشريفين بقي القوة الثابتة اسلامياً، فان النفط والموقع والمنهج السياسي العقلاني اضافت كلها قوة كبرى الى الناحية الروحية والاجتماعية لتصبح المملكة مركز استقطاب كبيراً للتيارات الحضارية الانسانية في الشرق والغرب في تحولاتها الحديثة.