أمير نجران يكرّم مدير فرع هيئة حقوق الإنسان بالمنطقة سابقاً    وزير المالية: استخدام كل دولار بفعالية يوفر تريليون دولار عالمياً    بريطانيا تعجل بنشر استراتيجية لتعزيز قطاع الصلب بسبب رسوم جمركية أمريكية    وكالة الوزارة للأنظمة والشؤون القانونية تعزز التعاون مع أمانة تبوك    الكرملين: واشنطن وموسكو تركزان على السلام    ارتفاع عدد قتلى تدافع بمحطة قطارات نيودلهي ‬إلى 18 على الأقل    إسرائيل تنتهك الهدنة.. 3 قتلى من رجال الشرطة في رفح    رينارد يستدعي «سعود» لمواجهتي الصين واليابان    مي كساب: تأجيل عرض «نون النسوة» إلى بعد رمضان    آل الشيخ: نعتزُّ بموقف السعودية الثابت والمشرف من القضية الفلسطينية    نائب وزير الخارجية يستقبل سفير روسيا الاتحادية لدى المملكة    انطلاق اختبارات الفصل الدراسي الثاني في مدارس تعليم الرياض    جمعية الذوق العام تنظم مبادرة "ضبط اسلوبك" ضمن برنامج التسوق    السعودية تعرب عن دعمها الكامل للإجراءات التي اتخذها لبنان لمواجهة محاولات العبث بأمن مواطنيه    "الإحصاء" التضخم في المملكة بلغ 2.0%    الذكاء الاصطناعي ودور المترجم البشري    قبيلة "القصادة" تحتفل بزواج الشاب سفر قصادي    "كبدك" تقدم الرعاية لأكثر من 50 مستفيدًا    أمطار رعدية وسيول في عدة مناطق    قمة «IAAPA» في الرياض.. مركز عالمي للوجهات الترفيهية    مرموش.. صاحب أسرع هاترك عربي في البريميرليج    الجبير: التحديات البيئية والتغير المناخي يؤثران على جميع نواحي الحياة بما فيها الأمن والاستقرار العالمي    وزير الرياضة يتوّج «رولاند» بلقب الجولة الرابعة من سباق جدة    الشنقيطي: سنستمر في الصدارة    في ختام الجولة 20 من دوري روشن.. الاتحاد يعزز صدارته ل " روشن" برباعية الوحدة    رسميا.. الهلال يطالب بحكام من النخبة لإدارة مبارياته    السجن والإبعاد لمقيم بتهمة التستر في التموينات    قائمة المدعوين ل«الحوار السوري» تثير الجدل    السجن لمدة شهرين للمخرج المصري محمد سامي    انتقلت إلى رحمة الله في المنامة وصلي عليها بالمسجد الحرام.. مسؤولون وأعيان يواسون أسرتي آل زيدان وآل علي رضا في فقيدتهم «صباح»    الأرصاد: الأجواء معتدلة في رمضان    23 ألف مخالف في قبضة الأمن خلال أسبوع    العدالة الصحية    جدد رفضه المطلق للتهجير.. الرئيس الفلسطيني أمام القمة الإفريقية: تحقيق الأمن الدولي يتطلب دعم مؤتمر السلام برئاسة السعودية    عدم تعمد الإضرار بطبيعة المنطقة والحياة البرية.. ضوابط جديدة للتنزه في منطقة الصمان    استمع إلى شرح موجز عن عملهما.. وزير الداخلية يزور» الحماية المدنية» و» العمليات الأمنية» الإيطالية    «نبتة مصاص الدماء» تزهر في روسيا    فحص يتنبأ بخطر السرطان بدقة 90%    فجوة الحافلات    «ليب».. أحلام تتحقق    تآلف الفكر ووحدة المجتمع    جبال السعودية حصن فلسطين    تحول الإعلانات إلى قوة ناعمة    تكساس تشهد أسوأ تفش للحصبة    "أبواب الشرقية" إرث ثقافي يوقظ تاريخ الحرف اليدوية    843 منافس في مسابقة شاعر الابداع بعنيزة    برعاية محافظ الزلفي: تعليم الزلفي يحتفي بيوم التأسيس    عبدالعزيز بن سعود يزور وكالة الحماية المدنية الإيطالية    قصة الدواء السحري    بينالي الفنون الإسلامية    احتمالات اصطدام الكويكب 2024 YR4    عيد الحب: احتفاء بالمعنى الأزلي للحب    قصة نجاة في الصحراء !    الحيوانات تمرض نفسيا وعقليا    الشام وخطوة الاتصال اللحظي أو الآني    مفتاح حل المشاكل    عبدالعزيز بن سعود يزور وحدة العمليات الأمنية المركزية الإيطالية    أمير الباحة يعزّي الزهراني بوفاة ابنه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دموع اللبناني في مطعم "أبو خريستو" وغناء عربي على شرفة الزعيم الاسرائيلي . زاروا الأراضي المحتلة وعادوا منها بحسرة وتساؤلات : مشاهدات على هامش الوجه الآخر ل "الحلم الاسرائيلي"
نشر في الحياة يوم 31 - 10 - 1994

بين "مهرجان حيفا السينمائي العاشر" الذي استقبل مبدعين ومثقفين من تونس ولبنان والمغرب ومصر... وعرض أفلاماً عربية، ومهرجان عكا المسرحي حيث قدّم فرنسوا أبو سالم مسرحيته الجديدة مع "فرقة الحكواتي" الفلسطينية قبل الانتقال الى مهرجان ليل في فرنسا، تقصر المسافة ويتخذ الحضور العربي شكل ظاهرة جديدة تنطوي على شيء من الغرابة، وكثير من التساؤلات. وجاء الحدث الثقافي مناسبة لزيارة مدن عربية، ولقاء مثقفين من كلا الجانبين، ومواجهة هذا الآخر البعيد الباحث عن نقاط لقاء، ومعاينة المشهد الاسرائيلي من الداخل بوجهيه المتناقضين: من جهة حفنة خجولة من المبدعين والمثقفين المتحمّسين للسلام، ومن الاخرى الجيش والمستوطنين والاطفال الذين ليس ما يلعبون به غير الحجارة.
إنها دولة صغيرة، مبانيها متواضعة، طرقاتها لا تخلو من الحفر، زحمة سير دائمة وزمامير ترتفع وكأننا في أي مدينة عربية. هنا أيضاً يشقون أوتوسترادات جديدة لا تؤدي الى مكان! دولة عادية لا علاقة لها بالصورة الخارقة التي نسجتها المخيلة العربية لتخفي عجزها وهزائمها المتكررة. أي أننا لسنا في ولاية نيويورك، بل في بلد من الشرق الأوسط بزحمته وفوضاه وضجيجه. وعلى الرغم من شعور الحذر والعداء الذي لا مفر من أن يعتري الزائر العربي للوهلة الأولى، سرعان ما نقبل الفكرة: نحن في اسرائيل!
"قد يشعر الزائر العربي، اذا تحرر من أي موقف مسبق، بمتعة خفية هنا - يقول الصحافي الفرنسي بجوارنا - لأنه يظن نفسه في بلده، مع فارق أساسي هو أن الديموقراطية أرحب، والتحرر أكثر تجذراً والمؤسسات فعّالة لا تخنقها البيروقراطية". هناك أيضاً الوجه الآخر لهذه "المعجزة" نذكّر زميلنا، وهذا الوجه الآخر ليس مشرّفاً لاسرائيل، ولكن تلك مسألة أخرى.
إنها دولة صغيرة، الكل يعرف الكل، المدن تشبه الى حد كبير تونس وضواحي الاسكندرية وبيروت، وأين الغرابة في ذلك فهي مدن عربية! تسمع الخبر ذاته سبع مرات في اليوم من سبعة مصادر مختلفة. كيف يمكن للموساد أن ينشط الى هذا الحد المرعب، وسط كل الاخبار المتضاربة في عالم مولع بالاسرار؟...
"مهرجان حيفا السينمائي" يستقبل هذه السنة لأول مرة أسبوعاً للأفلام المغاربية. وضمن هذا الاطار وصلت وفود عربية من المغرب وتونس ومن مصر. من أشهر عدّة، يمكن الاتصال مباشرة بالمغرب وبتونس من اسرائيل، ولكن الاتصال في الاتجاه الآخر ما زال غير ممكن من تونس، بل لنقل إنه ما زال "قيد الدرس". لكننا هنا، ومنذ اللحظة الاولى، وسط دوّامة اتصالات من نوع آخر: من تل أبيب يتصل فنّان اسرائيلي يساري غاضباً، ليعلمنا أن عمران متزنا رئيس بلدية حيفا الذي سيحتفي بالوفود العربية، هو "أول جنرال قمع الانتفاضة"! لكن زميلاً له سرعان ما يلفت انتباهنا حين نسأله، خلال مكالمة أخرى مع القدس الغربية، أن الجنرال المذكور، وهو من الوجوه الصاعدة في حزب العمل، كان خصماً لدوداً للمستوطنين اليهود.
ناديا الحيفاوية تخبرنا أن الرجل كان على رأس مظاهرة التضامن مع الفلسطينيين بعد مجزرة الحرم الابراهيمي في الخليل. ويأتي من يضيف أن متزنا أقام اخيرا حفلة تكريم لأبو مازن في بلدية حيفا، بعد أن رفض رئيس بلدية صفد استقباله... وهكذا سرعان ما يخيل للعرب الموجودين هنا، أن وراء كل اسرائيلي، تاريخاً حافلاً بالغموض والتقلبات.
مهرجان انتخابي في طنطا؟!
افتتاح المهرجان يتخذ طابع احتفال وطني. يصل عمران متزنا رئيس بلدية حيفا بقميص أبيض، رفع أكمامه وكأنه خارج لتوه من المصنع، ثم يعبر سياسيون ومفكرون ينتمون الى آفاق مختلفة: الرجل المربع القامة، بقميصه الفضفاض، هو رئيس مجلس النواب. السيدة المنكوشة الشعر، كأنها هاربة من ألبوم "سيمبسون فاميلي"، هي شولاميت الوني. كانت "شولا"، كما يسمّونها هنا وزيرة للثقافة. ولكن الكلمة ذاتها في العبرية تعني أيضاً التربية، لذا أثار وجودها في هذا المنصب احتجاجاً عنيفاً من قبل الأحزاب الدينية المتزمتة. إذ كيف يعقل أن تتولى امرأة يسارية منفتحة على العرب زمام "تربية الأجيال"؟ هكذا انتقلت شولاميت الى وزارة الفنون والتقنيات. اللبناني القادم بجواز سفر أميركي يلاحظ باعجاب ! غياب ربطات العنق والساعات المرصعة بالألماس وروائح السيجار الكريهة والغطرسة التي نلمحها لدى أدنى موظف حكومي في أفقر دولة عربية…
الوفد التونسي بدا حذراً لا يريد أن يقع في أي فخ. منذ اللحظة الأولى أعلن للصحافيين الاسرائيليين الذين يتتبعونه، أنه آت تضامناً مع مشروع السلام ومع الشعب الفلسطيني. نقاط على الحروف تجاهلتها وفود عربية أخرى. المخرج المغربي محمد عبد العزيز تازي وصل مع فيلمه "بحثاً عن زوج امرأتي"، مع أنه كان صرّح سابقاً انه لن يذهب الى اسرائيل... المثقفون الاسرائيليون تساءلوا من هو حسام الدين مصطفى راجع البرواز في مكان آخر من الملف الذي وصل برفقة صحافيين مصريين بشعرهم المصفف وأحذيتهم البرّاقة... ثم أكد الوفد المصري في لقاء صحافي، أن مصر تملك أحد أهم التلفزيونات العالمية المقصود القناة الفضائية، وأن الصناعة السينمائية تعرف ازدهاراً مضطرداً... فتساءل بعض الألسن الخبيثة من حولنا "أنحن في حيفا وسط الصحافة العالمية أم في مهرجان انتخابي في طنطا؟!".
افتتح الاسبوع المغاربي في اطار تظاهرة خاصة بعنوان "سينما الجوار"، وسط حشد من الشخصيات الرسمية، وبحضور سفير مصر في اسرائيل. وغصت القاعة تلك العشية بمئات المشاهدين من فلسطينيي حيفا اضافة الى عدد ملحوظ من اليهود العرب أغلبهم اسرائيليون من أصل تونسي، ذلك أن الفيلم الذي اختير لافتتاح التظاهرة هو "صمت القصور" الذي لفتت صاحبته مفيدة التلاتلي الانظار في مهرجان كان الاخير. وفي حيفا لاقى العمل اعجاباً ساحقاً: خرج البعض وقد تعتعه الحنين الى ماضٍ بعيد، فيما بدا اعتزاز البعض الآخر واضحاً بهذا الفيلم العربي الذي يتميّز بلمسة عصرية تجعله مختلفاً عن الميلودراما المصرية التي يبثها التلفزيون الاسرائيلي كل يوم جمعة! وفي السياق نفسه، كان فيلم تونسي آخر هو "عصفور السطح" لفريد بوغدير، قد عرف خلال عرضه في حيفا خلال الدورة الماضية نجاحاً مشابهاً، وصنّف في رأس قائمة الافلام التي حققت نجاحاً شعبياً في اسرائيل.
عن أبعاد المقاطعة الثقافية ونتائجها تحدث الى "الوسط" المنتج المعروف أحمد بهاء الدين عطية الذي جاء الى حيفا ضمن الوفد التونسي، متسائلاً: "ألم يكن من الأفضل عدم عزل الملايين من الفلسطينيين واليهود المتحدرين من أصل عربي عن ثقافتهم الأم؟ أليس مطلوباً أن يشعر هؤلاء أن لهم نتاجاً فنياً حياً من مستوى عالمي لا يخجل من حاضره؟...". نظراً الى اقامته المحدودة هنا، وضع أحمد عطية في قائمة أولوياته زيارة القدس ومن ثم ياسر عرفات في غزة. بدا لنا فناناً ورجل أعمال يتحسس أهمية الرموز، ويعرف توقيت مبادراته وتحديد درجة السرعة التي يجب أن يقدم بها على خطوات جديدة. لم يأتِ بشراهة من يريد عقد "اتفاقيات العصر" السينمائية.
لا تدخل في خانة "الخيانات"!
بنينا وإليان تديران "مهرجان حيفا السينمائي". نلتقيهما في كل مكان. نظرات بنينا تعيد الى الذاكرة المناضلات اليساريات في أوروبا الستينات. الوجود العربي يُفرح تقاسيم وجهها. تحاول أن تنسى المهرجان بضع لحظات لتتكلم عن ماضٍ ما وقفت فيه ضد التمييز والحروب. ولكن حاجز اللغة يمنعها عن ذلك، فتكتفي بنظرات الإخاء التي تحاول من خلالها أن تتواصل مع مدعويها. إليان فرنسية مولد، تتذكر بحنين صداقاتها العربية على مقاعد الجامعة في فرنسا. لم تكن تتحمل رتابة الأيام في أوروبا، ولا تعصّب الجالية اليهودية في مدينتها الفرنسية. وصلت سنة 1974 الى حيفا. بلد جديد، فرصة جديدة. هنا أخذت تشعر أنها "في عالم ينمو ويتطور"، وترى طموح أجيال صاعدة فقدتها سماء أوروبا الرمادية. لم تشأ إليان السكن في القدس رغم جمال المدينة، كأنها ترفض في قرارة نفسها أن ترى "الوجه الآخر للحلم الاسرائيلي"، أن تعاين العنف العنصري والتزمت الديني، أن تفقد أوهامها وتدنّس مبادئها الطوباوية…
وننتقل الى سهرة عربية في بيت الممثل الفلسطيني البارز سليم ضو في حيفا. كل الوجوه الفنية العربية المحلية حاضرة: محمد بكري، مكرم خوري… ف "حيفا - يشرح لنا صديق فلسطيني - هي عاصمة العرب الثقافية في أراضي ال 48! وزيرة الفنون ألوني أعلنت أن وزارتها ستباشر هذه السنة بانشاء قاعة مسرح عربي يليق بتاريخ المدينة. التأثر يظهر على وجوه "الضيوف" العرب. يشعرون أنهم في بيتهم، وأهل البيت يؤكدون لهم أن زيارتهم تروي الغليل، ويطمئنونهم ساخرين الى كونها لا تدخل في خانة "الخيانات العربية"... السينمائي الاسرائيلي اليساري عمّوس جيتاي هو أيضاً من المدعوين. إنه ابن أحد أهم المهندسين المعماريين في مدرسة "الباوهاوس". لا أحد كعمّوس يعرف أسرار حيفا. يأخذك الى مبانيها "الباوهاوس" المهملة في وسط المدينة، يصطحبك الى الأحياء العربية: وادي النسناس الذي ما زال يضج بروائح الشرق، وادي الصليب الذي سُّمرت مبانيه وأصبح ديكوراً للأفلام هنا صوّر مثلاً فيلم جيتاي المعروف "أستير". بيوت عريقة فقدت سكانها، ذاكرة تأبى أن تندثر... حيفا الحديثة مزيج من مصايف لبنان، وأوروبا الشرقية سابقاً. أما في حيفا العربية، فأنت في المدينة.
أم كلثوم أم مايكل جاكسون؟
ليل حيفا حار. في احدى الحدائق بعد انتهاء عروض الأفلام يدور حوار بين مثقفين اسرائيليين يذكر بأدبيّات السبعينات. هل ثقافة اسرائيل شرقية أم غربية؟ أي خيار ممكن بين أم كلثوم ومايكل جاكسون؟
ويلاحظ أحد الحاضرين عقم هذه النقاشات: "ألا يمكن للثقافة أن تكون مختلفة الوجوه؟". بين المتحمّسين للخيار الشرقي في هذه الجلسة الليلية، وسط الصيف الحيفاوي الذي يمتد، الفنان شلومو الباز وعفير برونشتاين مدير عام "المركز الدولي للسلام في الشرق الأوسط". أما شرق هذا الاخير، فتوقف عند "ألف ليلة وليلة"… إحدى مسؤولات وزارة الثقافة تسأل جارها عن أخبار وليد جنبلاط ! ثم يبتعد الحديث ليصل الى المقارنة بين الوجودين السوري والاسرائيلي في لبنان. أحد المدعوين يقول إن اللبنانيين أكثر تذمراً من الوجود السوري. فتنتفض سيدة كانت تنصت للحديث من دون ان تتفوه بكلمة: "ليس علينا تفضيل احتلال على آخر، علينا شجب كل الاحتلالات لأنها كلها تؤدي الى طرق مسدودة".
إنها أليزا سافير مسؤولة الشؤون الثقافية في وزارة الخارجية الاسرائيلية، وزوجة أوري سافير أبرز أعضاء الوفد الاسرائيلي في مفاوضات السلام. لا شيء يوازي حماس اليزا لسلام مبني على العدل يحمل في طياته الازدهار الاقتصادي لجميع شعوب المنطقة. تشرح أنها مولودة في تونس، ولا تخشى الفلسطينيين ولا العرب... وتصر على أنها تحلم ب "غد أفضل للجميع". صحافي مغربي يحدثها عن سياسة الخطوة خطوة، فتجيبه أن المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية كلفت الدولة الاسرائيلية حتى اليوم حوالي 50 بليون دولار: "هذا ما كان بنى ثلاث دول للفلسطينيين". نتابع الحديث بصمت واستغراب، فقلّة بين الحاضرين العرب يعرفون أن أليزا سافير فقدت زوجها الأول في معارك سيناء، وأخاها في حرب لبنان...
عكا تبعد 22 كيلومتراً عن حيفا. وهي تحتضن مع نهاية كل صيف مهرجاناً مسرحياً يحول المدينة القديمة الى "وودستوك" شرق أوسطي. واذا كان بوسع الزائر أن يستشف ملامح حيفا العربية شرط أن يبذل بعض الجهد، فإن عكا القديمة لا تزال محض عربية. على مشارفها تقع مدينة حديثة وتافهة، كأنها مجموعة شوارع مهمّتها أن تؤدي الى أسوار عكا، الى قلبها النابض. قد تكون عكا أجمل المدن التي نبتت على ضفاف البحر المتوسط، على الرغم من كآبتها ومن اتلاف العديد من مبانيها منذ الاحتلال. يخيّل إلينا أننا لم نعد في اسرائيل. صوت فيروز يسيطر على الشارع، روائح الصعتر، أولاد في زي كشفي، مسجد الجزار، آثار الصليبيين، مطاعم أبو فؤاد وأبو جورج وأبو خريستو… فجأة يظهر اسرائيلي في أزقة المدينة، لم يبلغ سن الرشد بعد، يختال بمسدس ظاهر على خصره، فلا يأبه له أحد. ما زال جسماً غريباً في مدينة أصبحت اسرائيلية منذ 46 سنة!
"الحكواتي" في "خان العمدان"
في "خان العمدان" يتمرن فرنسوا أبو سالم وفرقة الحكواتي الفلسطينية. هذا المساء يقدمون العرض الثاني من مسرحيتهم "أريحا، سنة الصفر". البارحة كان الموقف غريباً بعض الشيء حين دخلت الى القاعة الوزيرة ألوني برفقة وزير الثقافة الفلسطيني ياسر عبدربه لمشاهدة العرض الاول. وصادف أن ترافق دخولهما مع المشهد الذي يظهر فيه على الخشبة ممثلون باللباس العسكري الاسرائيلي. في اللحظة نفسها كان جنود حقيقيون يدخلون القاعة لمرافقة الوزيرين، فاختلط الممثلون بالحراس، والتبس الأمر لوهلة على المشاهدين فلم يعد أحد يميّز أين تقف التمثيلية وأين تبدأ الحقيقة...
سكان عكا، هم، لا يشاركون فعلياً في المهرجان. محاولات عدة جرت في الماضي لاخراجهم من المدينة القديمة، واسكانهم في أحياء جديدة لا نكهة لها. بيد أن "الغيتو" العربي ما زال صامداً كما يقول فرنسوا أبو سالم مقارناً الوضع العربي تحت الاحتلال بوضع اليهود أيام الاحتلال النازي. مسؤول في وزارة الثقافة يؤكد سياسة الترحيل هذه، لكنه يستدرك أن "سياسة الدولة حيال عكا القديمة ستتغير في المستقبل القريب. هناك مشاريع عدة لترميمها من دون اخراج أهاليها".
في مطعم أبو خريستو، يدور الكلام بين العاملين فيه واللبناني صاحب الجنسية الأميركية. لكل أهالي عكا أقارب في لبنان، اللهجة لا تختلف والمأكولات كذلك. يشعر اللبناني بلذة في طلب الأطباق والدخول في تفاصيلها، فتنتصب اسرائيلية بين الحاضرين وقد ظنَّتْ أن "ضيفها" يعجز عن التفاهم مع "الغرسون". واذا بها تطلب بلهجة حازمة: "إخاد خوموس شتايم فلافل...". تطفر الدموع من عيني اللبناني. هذه الفتاة أرادت مساعدته ولكنها تؤذيه! من سخرية الاقدار أن كل ما هو جميل في اسرائيل عربي، وأن اسرائيل هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي حافظت على ذاك التراث العريق، اذ كل ما فيها من عربي جميل بغض النظر عن تصرفات الاحتلال. فكم أساءت حكوماتنا نحن التعاطي مع ثروة حضارية أخذت طريقها الى التلاشي والزوال.
حنين الى بلد وهمي
في شقة متواضعة من حي هامشي في تل أبيب، يسكن نسيم زويلي سكرتير عام حزب العمل الاسرائيلي وأحد أقطابه اليساريين، وهو من مواليد مدينة المهدية التونسية... الحفلة في بيته جمع بين ديبلوماسيين أجانب، وسياسيين من اسرائيل ومجموعة من المثقفين العرب... زويلي خجول، ينظر الى الوفد التونسي بشيء من الارتباك. في أية ظروف غادر المهدية؟ لن يجسر أحد على طرح السؤال. أمام أولاد موطنه الأول، يفقد زويلي خصوصيته التونسية. ها هو رجل بلا ماض، رئيس حزب حاكم في اسرائيل. ستظل السهرة حنيناً الى بلد وهمي. يغني التونسيون على شرفة زويلي أم كلثوم، فيروز، حبيبة مسيكة، شيخ العفريت. كل هذا الغناء العربي على شرفة الزعيم الاسرائيلي في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ في الانتخابات المقبلة لا شك في أن الحي برمّته سيقترع لصالح أحزاب يمينية معادية للسلام المشحون بكل هذا الضجيج! لكن ما هم، فزويلي يعيش الليلة نشوة خفية، غير مألوفة، ويعتريه فرح غريب مغلف بالصمت والحيرة...
في القدس الشرقية، يستحيل الا يشعر المرء أنه في مدينة محتلة. الأعلام الاسرائيلية على بعض مباني الأحياء العربية منفّرة عدائية تبعث على الاشمئزاز. الجنود في كل مكان، مستوطنون لم يغادروا بعد طور المراهقة علت جبهتهم حبوب الشباب، يختالون في شوارع المدينة برشاشات لا تنجح في التخفيف من الذعر الساطع على محياهم... البارحة استطاع أحد الفلسطينيين انتزاع بندقية مستوطن، جاعلاً اياه أضحوكة للجميع...
دينا "جسم غريب"؟
السهرة التالية ستكون في القدس الغربية لدى مثقفين اسرائيليين. نتجاذب أطراف الحديث مع يهودية مصرية هي دينا توليدانو التي غادرت القاهرة سنة 1964. "لكن ما الذي أتى بكِ الى هنا؟"، يسأل أحد الحاضرين العرب بسذاجة مصطنعة. كانت دينا طالبة في احدى المدارس الخاصة، متفوقة على الدوام في مواد الأدب العربي ومن ثم في التربية المدنية: الاشتراكية، الاستعمار، العروبة... دروس حفظتها عن ظهر قلب. "بيد أن الموجة القومية الصاعدة لم تعد تحتمل وجود هذا "الجسم الغريب". شيئاً فشيئاً غدت دينا ضحية لنوع من "التمييز العنصري" حسبما تروي لنا. لم يعد بامكانها تمثيل المدرسة في المسابقات، أو الجلوس في الصف في المقاعد الأمامية لدى مرور المفتشين من وزارة المعارف. هكذا وجدت هذه الفتاة الصغيرة نفسها من حيث لا تدري رمزاً للعدو الصهيوني الغاشم!
غادرت دينا الى اسرائيل ولم تعد تتفوه بكلمة عربية واحدة. أرادت طمس الماضي الأليم... بعد زيارة السادات الى القدس، عادت اللغة الأم تلقائياً اليها. أنجبت فتاة أسمتها ياسمين... والليلة دينا محاطة بعرب من أقطار مختلفة. تقف وتغني: "ساكن قصادي وبحبه"، ثم تنهيها بپ"هللت للفرحة".قصادها، جلس فلسطيني كئيب يبكي على ليالي تونس...
سجن يدعى أريحا
في أريحا "المحررة" يصوّر المخرج الاسرائيلي الشاب إيال سيفان فيلمه الجديد في مخيم عقبة جبر. سنة 1987، كان هذا المخيم مسرحاً لفيلمه الأول: "عقبة جبر، حياة عبور". اليوم الفيلم يحمل اسم "عقبة جبر، سلام بلا عودة". سيفان يصور المتغيرات التي طرأت على حياة المخيم، بعد أن أصبح حياً في أريحا أو ضاحية لها. البيوت التي تشيد، الأشجار التي تزرع أو ما يشبهها... وصول القوات الفلسطينية. ويحاول أن يعرف ماذا حلّ بأبطال فيلمه الأول؟ أهل عقبة جبر احتفظوا بهوية اللاجئ، وإن فقدوا مواصفاته. من وسط أريحا تنطلق طريق توصلنا الى قصر هشام، آثار مبعثرة تبعد ثلاث دقائق عن قلب المدينة... نمر بحاجز جديد: هنا تنتهي السلطة الفلسطينية، هنا نعود الى الأراضي المحتلّة. الشاب الفلسطيني الذي يرافقنا يمضي نهاره يعبر الحدود ذهاباً واياباً. العبور أصبح رياضته المفضلة، تسليته الوحيدة. فكيف يسلّي المرء نفسه حين يقطن سجناً في الهواء الطلق يدعى أريحا، حين يعيش في نوع من ال "ديزني لاند" استبدلت فيه القصور الوهميّة ببيوت من طين وسقوف من تنك؟
قد تكون مدينة الخليل من أجمل المدن الشرق أوسطية ومن أقساها في آن. الحقد ظاهر حتى في حجارة المدينة التي ما تزال تنهال على الجنود، وكأننا في أوج الانتفاضة. خمس دقائق في وسط المدينة تكفي ليشعر المرء بضيق في التنفس. أية شحنة من الحقد والكراهية من التعصب الديني تحث المستوطنين اليهود على البقاء؟ التآخي العربي - اليهودي بعيد عن هواء المدينة. هنا، لا أحد "يهلل من الفرحة" على طريقة صديقتنا المصرية!
في أحد الخنادق أسر الجنود أطفالاً لا يتجاوز عمر أكبرهم السبع سنوات. عقاب وحشي لا يمنع العسكري الاسرائيلي من تدخين سيجارة مع إحدى المستوطِنات، بينما الأطفال الفلسطينيون يرتجفون من الخوف وصراخ أمهاتهم يزداد حدّة. إنهم متهمون برمي الحجارة، ولكن هل هناك لعبة أخرى في هذه المدينة المحتلة؟! وجوه الاسرائيليين الداعية الى السلام تختفي في هذه البقعة من الأرض. لا أحد يرغب بدور الجلاد. نحن على بعض 25 كيلومتراً فقط من القدس. نحن في قارة أخرى.
نعبر بالمستوطنين ذوي النظرات الحاقدة، نصل الى عائلات "الأسرى". والد أحد الأطفال يطالب بالخلافة الاسلامية، ويمدح ما فعله هتلر. لا أحد يجسر على مقاطعته. على طريق العودة، يبكي الصحافي الأميركي بصمت، لأنه لم يرَ نفسه يعظ الفلسطيني ويلقنه درساً في التاريخ. لأنه لم يستطع أن يخبره كم كان هتلر وغداً... نمر أمام مستوطنة حديثة العهد على طريق بيت لحم، أسلاك جديدة تحيط بها، غطت أجزاء منها شعارات الكراهية... ينظر الأميركي الى هذه المستوطنات المسيجة ويتمتم انها تذكره بمخيمات الاعتقال والتعذيب...
في القدس، السلطة الوطنية الفلسطينية لا ترضي الجميع. أحقاد دفينة، وحساسيات تعود الى الظهور. بعض الصحافيين الفلسطينيين ينعت زملاءه بالخيانة والعمالة والانتهازية… الأجواء مشبعة بالخيبة، بالكراهية والألم... عشاء الوداع في "الأميركان كولوني" في القدس الشرقية. يسألني فلسطيني مقدسي لماذا جئت الى اسرائيل؟
- لألمس الفارق بين ما تقرأه العين وما تراه.
- ماذا قرأت؟ وماذا رأيت؟
- سأكتب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.