تعرفون قصة ذلك القاضي الذي استحلته ذبابة وأخذت تقفز على أنفه الذي اتخيّله كبيراً وأذنيه وحاجبيه اللذين أتخيلهما كثيفين ووجنته وفمه حرام ان أتخيله عريضاً وجبينه ويديه، وهو رزين رصين في مجلسه لا تتحرك فيه الا عضلات فمه عندما يتفوه بالضروري من الكلام؟ بقيت الحشرة تحرق أعصاب القاضي برشاقتها الكريهة حتى خرج عن وقاره ورفع يده ليطردها وهو يقول: "أحرجتني فأخرجتني". هذه القصة هي أصل العبارة البليغة التي تختصر الكثير بكلمتين، بحسب أحد اساتذتي، الشاعر الراحل جوزف نجيم. أتساءل كيف كان القاضي سيحرج ويخرج لو كان يعيش في زمننا ويرى مفهوم أصحاب المراكز العالية، مثله، للرزانة. الرؤساء الأميركيون يبلغون حد السخرية من الذات في طاعتهم أخصائيي العلاقات العامة الذين يهمهم تأمين شعبية الرئيس بأي طريقة كانت. وصحافية أميركية من أصل لبناني قالت للرئيس الراحل ريتشارد نيكسون: "أنت كاذب" في مؤتمر صحافي. الأكاديميون الباحثون كتبوا مجلدات عن مادونا التي تبنت لغة الشارع مثل شباب الجيل وتمرّدت على الممنوعات الاجتماعية وغير الزمنية. هذه المغنية نقلت الأفعال الحميمة الى المسرح، وجعلت الرموز الدينية ديكوراً وزينة، ووقفت ضد التمييز العنصري بتعاونها مع السود والهسبانيين وتصويرها علاقتهم بامرأة بيضاء أمراً عادياً وطبيعياً. اذاً، لم تعد الصدارة لأصحاب العلم والمعرفة المتعاليين الرزينين بل لقوى التغيير وان كان بعض ممثليها يتخذ "القرارات" وهو يرقص ويغني. أميركا أوصلت ممثلاً الى أعلى مركز سياسي فيها، ولم تجعل الرصانة أحد مقاييس نجاح رؤسائها في التعبير عن هيبة القوة الأولى في العالم. والفواصل الخفيفة في الخطب والتصريحات تقليد راسخ، وهي تتطلب تحريك الجسد بخفة، والابتسام والضحك، لا رفع اليد فقط لطرد حشرة بغيضة. كل ذلك، يا للعجب العجاب، من دون ان يتّهم أحد الرئيس الأميركي بأنه خفيف لا يصلح لتمثيل وزن بلاده. قصة القاضي قديمة لكن روحها ليست بعيدة عنا. بعض سياسيينا كان، وما زال ربما، يظهر في مقابلات تلفزيونية وهو جامد الوجه والرقبة، ويجهد وهو يحاول الكلام من دون ان يحرك فمه لأن قلّة الحركة دليل على الرزانة، وهذه إشارة الى السلطة والمركز الهام، أو الفهم والعلم وبرجهما العاجي. استوحى القاضي وأمثاله النصبية وتشبهوا بالتمثال كأنهم يطالبون في حياتهم بالمجد الذي يستحقونه ويحضروّن له. لكن البعد عن القاعدة وحركتها ومشاغلها اليومية إنكار لا طائل منه للحياة كما يكتشف الناس الهامّون من سياسيين وغيرهم ينفعلون بالأفكار الكبيرة والجوهرية. فهؤلاء لا يقودون القاعدة دائماً بل ينقادون لها في مسائل تراوح بين انهاء التدخل العسكري في بلاد ما والتلطف بإظهار الجانب الشخصي الذي تسميه الصحافة العربية الانساني و"الاعتراف" مثلاً بالمغنين الذين يؤثّرون في الشباب أكثر منهم. الرئسي الياس الهراوي ذكر اسم مغنٍ شاب هو وائل كفوري مع اسم فيروز في لقاء مع الشباب، وأولم لوردة عندما زارت لبنان. واذا كان الرئيس اللبناني لا يعتبر الرزانة مقياساً للأهمية، فإن الوزير وليد جنبلاط كان أكثر اهتماماً بالتصريح عن الحرب الطويلة في بدايتها ووسطها وبعد نهايتها. ومع ذلك لم يفته ان يلاحظ في مقابلة تلفزيونية تغيّر مراكز الثقل، اذ قال ان جورج وسوف ووائل كفوري غنيّا في بيت الدين وجمعا أكثر من خمسة عشر ألف شاب وشابة. واستنتج: "هؤلاء أكبر منا". هنا تعبير جديد في لغة البلاد المتخلفة يراه المصاب بعقدة المكانة تنازلاً، غير انه اعتراف ببؤر الجذب الأخرى مهما كانت "خفيفة"، وبزعامات قد تحلو منافستها عكس الزعامات الزميلة.