الفكرة أميركية. وهي تندرج ضمن رؤية اجمالية للسلام في الشرق الأوسط، يمكن اعتبارها ضمن المسلسل الذي انطلق في مدريد، ترمز الى ذلك الرئاسة المشتركة - اسمياً - لكل من الولاياتالمتحدة وروسيا. ولكن على خلاف مدريد، فإن الحديث في الدار البيضاء سيدور أساساً على الاستثمار في البنى التحتية، والتكنولوجيا، والسياحة، والأسواق المالية، والمياه، والتبادل التجاري. أي كيف يمكن ترتيب العلاقات بين دول المنطقة، وبين هذه والأطراف الدولية المختلفة من دول ومنظمات، على أساس المصلحة المشتركة للجميع، في اطار التنافس السلمي على الأسواق والخبرة وتقاسم الفوائد. والسلام هنا هو ذلك المسلسل الذي انطلق ويبدو أنه لا رجعة فيه. الى حد ما، يتعلق الأمر باعطاء الأولوية للاقتصاد وصولاً الى أن ينتج عن ذلك تأثير على السياسة. في مدريد كانت المراهنة على أن الأطراف المجتمعة، وقد قبلت ان تجتمع على رغم الكثير من التحفظات المتبادلة، ستعتاد على أن تلتقي وتتحاور لعله ينتج عن ذلك تبادل تدريجي للقبول بالآخر. لنذكر انه في مدريد كان الفلسطينيون، وهم الجسم الرئيسي للقضية، حضروا بشكل مموه. ولكن ديناميكية الحوار التي حلت محل منطق القطيعة أفرزت حقائق أبرزها تبادل الاعتراف بين اسرائيل ومنظمة التحرير. وهنا يمكن القول ان المراهنة لم تكن في غير محلها. أما الآن فالمراهنة على أن الاشتراك في مؤتمر اقتصادي للحكومات ولأرباب العمل من حوالي ستين دولة سيطور الحوار من الاطار الأفقي - السياسة ورسم العلاقات في المستقبل - الى الاطار العمودي - مشاريع مشتركة بين الأطراف المعنية في المنطقة وبين هذه والأسرة الدولية - وذلك بمعنى ان السلام الحقيقي يجب أن ينعكس على الشعوب، ولا يقتصر على الدول. وان العامل الاقتصادي سيسهل الوصول الى التقدم السياسي. وان المسلسل الذي بدأ في مدريد يجب أن ينتهي الى تعايش وتعاون بين دول المنطقة، وبتزكية من الأسرة الدولية. وليس سهلاً التسليم بانتقال كل هذا من حيز النظرية الى حيز الواقع. فمن جهة، مسلسل مدريد يسير ببطء. وليس سهلاً أن نتصور أن طرفاً رئيسياً في هذا المسلسل كله وهو الدولة الفلسطينية، ما زال غائباً من الناحية النظرية ومن الناحية القانونية، وان كان هذا الطرف موجوداً في الواقع وبدأ يحتل حيزاً في الفكر كطرف سياسي لا بد منه. وهناك أيضاً المسار السوري الذي يتبلور ببطء، وقد لا يتخذ اتجاهاً حاسماً إلا بعد الانتخابات الاسرائيلية والأميركية. فهل جاءت قمة الدار البيضاء الاقتصادية قبل أوانها؟ اذا نظرنا من زاوية ان الكأس فارغة الى النصف فإنه يجوز أن نتصور أن العامل الاقتصادي مشروط بالعامل السياسي، أي يجب تحقيق تقدم هناك ليتأتى السير بوتيرة معقولة هنا. وإذا نظرنا من زاوية ان الكأس ممتلئة الى النصف، فيجوز ان نتصور ان الجانب الأميركي العازم على خلق وقائع في سياق ديناميكية السلام، لا يبذل كل هذا الجهد لكي يسجل انه ليس في الامكان ابدع مما كان. والذين سيحضرون قمة الدار البيضاء تجاوبوا مع العزم الأميركي الواضح، وأدركوا ان الولاياتالمتحدة تراهن على أن الاقتصادي يسرّع السياسي، أو على الأقل يسهّله. وبعد التخوف من الكرونولوجيا، هناك تخوف من أن يكون كل هذا تمهيداً لترتيب تفوق اسرائيلي، وهذا وارد اذا لم تكن بقية الأطراف - والعربية على الخصوص - جاهزة للتحرك بمنطق الغات، أي التحرك في اطار المنافسة الحرة. ولكي تربح الأطراف العربية الرهان يجب أن تكون جاهزة لاقتصاد السوق، ويجب أن تكون ملفاتها مغرية، لأن قمة الدار البيضاء ستكون سوقاً للمشاريع، وكل من كان له مشروع جاهز، ومردوديته مدروسة، سيجد شريكاً. وقد تخوف أرباب العمل المغاربة الذين طالما اعتمدوا على دعم الدولة وحمايتها من أنهم ليسوا جاهزين للحوار والمشاركة. وإذا بقي الوضع هكذا فإن من يغنم السوق هو الذي يكون جاهزاً لخوضها. وهل اسرائيل جاهزة؟ يلاحظ ان أهم بند في الاقتصاد الاسرائيلي هو الصناعات العسكرية. وهذه لن تقوى على الانتشار في البلاد العربية، لأنه منذ خمسين سنة تقوم في البلاد العربية بنيات مختلفة لا تتقبل الصناعة العسكرية الاسرائيلية. وبعد بند السلاح لا يبقى للاقتصاد الاسرائيلي - المعتمدة على المعونة الأميركية - الا مقومات قليلة تجعله في حجم البرتغال وبولونيا، وانتاجها الخام يمثل عشر الانتاج الخام في اسبانيا وثلث بلجيكا ونصف فنلندا و55 في المئة من الانتاج الخام لتركيا، وهو اقتصاد ليست له الا موارد بشرية محدودة وانتاج زراعي ومعدني محدود أيضاً، ولكنه متفوق في الخبرة والتسيير وفي استعمال التكنولوجيا، ولكنه تفوق نسبي. وباستثناء المقدرة في سوق الأموال فإن الاقتصاد الاسرائيلي له مقومات محدودة. وهكذا ففي المحصلة هناك انشغالان: صواب المراهنة على أن قمة الدار البيضاء الاقتصادية قد تؤدي الى تسهيل الجانب السياسي، والتخوف من تصدّر اسرائيل لخريطة الشرق الأوسط غداً. والمراهنة ستجيب عنها الوقائع المقبلة المرتبطة بتطوير غزة - أريحا، وبالمسار السوري. والتخوف سيظل قائماً إذا ثبت ان الاقتصاديات العربية غير جاهزة لما بعد الغات. وخلف هذا - في تصوري - ان أميركا تضيق - وستزداد ضيقاً - بالثلاثة آلاف مليون دولار التي تقدمها سنوياً لاسرائيل، وستطلقها للسباحة في بحر السلام. وقمة الدار البيضاء أخيراً هي محطة وليست غاية. وفي وثيقة تتحدث عن الغاية من القمة نقرأ ما يأتي: انه من المهم ان نعرف ما هي قمة الدار البيضاء، غير أنه من المهم ان نعرف ما ليس في قمة الدار البيضاء: انها ليست مؤتمراً للمانحين بل لشركاء في مشاريع. وهي ليست مركزة على بلد أو منطقة بل هي سوق مفتوحة للقادر على دخولها، وهي ايضاً ليست مؤتمراً للسلام، وهي أخيراً ليست مكاناً للحديث عن مرارات الماضي. ولو لم نكن طرفاً، لجاز لنا ان ننتظر لنرَ. لكن بما أننا معنيون بمسلسل يبدو أن لا بديل له، فإنه لا بد من الانتباه والاستعداد ليتم تصريف السياسي والاقتصادي معاً. * كاتب وسياسي مغربي ونقيب الصحافيين المغاربة.