لا جدوى من البحث عن مظاهر انتصار في صنعاء بعد مضي شهرين على حرب الصيف الماضي. فالجميع يبدون حرصاً على تجنب "عرض العضلات". ويردد مسؤولون في السلطة والجيش والحزب الحاكم جملة واحدة: "لقد انتصرت الوحدة". وتسأل محدثيك بالحاح: "لكن القوات الحكومية هي التي حققت هذا الانتصار"، فيأتيك الجواب: "انها قوات وحدوية قبل أن تكون حكومية"، فتقرر البحث عن شيء آخر علّه يُرشد الى الآثار الحقيقية التي خلفتها حرب الصيف الماضي على العلاقات اليمنية - اليمنية. لم يعرض الحكم اليمني مدرعاته وآلياته في الذكرى الپ32 لثورة 26 سبتمبر أيلول، واكتفت السلطة، في المناسبة الوطنية الأولى بعد الحرب، بحفلة تخريج للضباط في الكلية الحربية في العاصمة. ولم توجه الدعوة الى الصحافيين كما جرت العادة في مثل هذه المناسبات. وفهم الجميع ان الدولة عازمة على طي صفحة الماضي بسرعة والنظر الى المستقبل. في مساء اليوم نفسه اقيمت حفلة فنية في "المركز الثقافي". وفي المناسبتين أذيعت خطبٌ عن "الوحدة" تخللتها عبارات قاسية ضد الانفصال و"الانفصاليين" من دون تسمية هؤلاء. فلم يذكر السيد علي سالم البيض بالاسم ولم يأتِ أحد على ذكر المهندس حيدر أبو بكر العطاس أو السيد سالم صالح محمد أو غيرهم، وإذا ورد ذكرهم فبطريقة مخففة جداً. نُزعت صور البيض من الساحات العامة وزجاج السيارات، لكن صنعاء لم تغرق في بحر من صور الفريق علي عبدالله صالح، فصور الرئيس تجدها هنا وهناك من دون مبالغة مرتبطة بالحرب. فلا أحد يرغب في اعطاء الهزيمة والانتصار طابعاً شخصياً. ويُصرّ الجميع على حصر الانتصار بپ"الوحدة" والهزيمة بپ"الانفصال". ولعل ذلك يتمّ عن خبرة في مخاطبة مشاعر اليمنيين وفي معرفة حساسياتهم وردود فعلهم. ولا يرتسم هذا السلوك في الخطب وحدها فهو أصبح سياسة رسمية منذ أن انتهت الحرب في 7 تموز يوليو الماضي. فقد بادر رئيس الجمهورية - وكان حينذاك رئيساً لمجلس الرئاسة - الى الاتصال هاتفياً في مناسبات عدة بعدد من القيادات الاشتراكية من بينها البيض والعطاس وجارالله عمر وغيرهم، ودعاهم للعودة الى صنعاء. وعلى رغم حصر "قانون العفو العام" بحدود زمنية معينة، فإن الرئيس ومساعديه كانوا يوسّعون هذه الحدود، وما زالوا حتى الآن عازفين عن حصرها علّ ذلك يؤدي الى طي صفحة الحرب الى الأبد. أما الذين عادوا والذين لم يغادروا البلاد من الحزبيين فلم يتعرضوا لأعمال انتقامية. وفي هذا الصدد قال الرئيس صالح في لقاء خاص مع "الوسط" قبل أيام: "لا تسألونا نحن عن الأعمال الانتقامية اطرحوا السؤال على الاشتراكيين. اطلبوا منهم أن يقدموا دليلاً واحداً على عمل انتقامي استهدف شخصاً واحداً. نحن لم ننشأ على الحقد والانتقام وانما على التسامح والوئام. لقد أصدرنا قانون العفو العام وسط لهيب المعارك حرصاً على حقن الدماء. وهذه حالة نادرة في بلدان عرفت حروباً وشهدت صراعات كالصراع الذي شهدناه". لا محاكم ولكن... لا يعيش الاشتراكيون في صنعاء وسط رايات الانتصار لكنهم لا يخضعون في المقابل لپ"محاكم التفتيش"، وبعضهم يشارك في المقايل اليومية التي يحضرها "مؤتمريون" أو "اصلاحيون". علي صالح عباد المعروف بپ"مقبل" انتخب أميناً عاماً للحزب خلفاً للبيض، فأصبح المسؤول الأول عن الحزب ونائب رئيس البرلمان. وهو يحتفظ بحراسة شخصية، لكن مشاكله وشكاواه ليست من النوع الشخصي. هل يخضع الاشتراكيون لپ"محاكم تفتيش" وهل يتعرضون لأعمال انتقامية؟ في رده على السؤال ينفي المسؤول الاشتراكي وقوع أعمال انتقامية بعد الحرب، ويقول: "... عندما منح الرئيس علي عبدالله صالح وسام الوحدة لمحافظتي شبوة وأبين في 26 أيلول سبتمبر اتصلت به هاتفياً وقلت له لا يجوز أن تمنح أبين وسام الوحدة وأن تبقي في السجن 15 حزبياً ما زالوا محتجزين منذ اندلاع الحرب. فاستغرب ذلك وأمر باطلاقهم. وبالفعل اطلقوا في اليوم التالي". وينفي "مقبل" وقوع أعمال انتقامية بعد الحرب، لكنه يصف بعبارات مأسوية تفاصيل دقيقة عن خضوع منزله للتفتيش والدهم خلال الحرب. ويتحدث عن اهانات لحقت بحراسه وعن تجريدهم من السلاح وفقدان بعض المجوهرات الشخصية من منزله بعد اعادة قسم منها. راشد محمد ثابت عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الذي جمّد عضويته في الحزب منذ أربع سنوات، كان وزيراً للوحدة ووزير دولة لشؤون مجلس النواب سابقاً يؤكد بدوره عدم وقوع أعمال انتقامية. ويقول أن احداً لم يخبره عن عمليات قتل متعمد أو اغتيال سياسي أو عمليات تعذيب وقعت من جراء الحرب. لكنه يتحدث هو أيضاً عن دهم منزله في صنعاء وتدمير منزله الثاني في عدن واحتلاله راجع الوثيقة وقد رفع مذكرة الى المعنيين بالأمر في 28 أيلول سبتمبر، فاسترجع منزله في عدن لكنه لم يسترجع حاجياته وأغراضه. لا محاكم تفتيش، لا أعمال انتقامية، لا اغتيالات سياسية، لا أعمال تعذيب ولا سجن تعسفياً. هذه اللاءات يؤكد عليها يحيى منصور أبو أصبع عضو المكتب السياسي للاشتراكي. لكنه كغيره من المسؤولين الحزبيين يتحدث عن تجاوزات مماثلة حصلت خلال الحرب. ويتحدث نواب الحزب وأعضاؤه عن أعمال نهب وسرقة خصوصاً في عدن. لكنهم يجمعون على أن الحكم لا يرغب في الوقوع في مطب الانتقام والانتقام المضاد، خصوصاً ان مثل هذا المطب يُلحق أذى بمستقبل البلاد ويؤسس لنزاعات محلية لا تنتهي. ويعترف المسؤولون في صنعاء بوقوع تجاوزات خلال الحرب، لكنهم يميلون الى التقليل من شأنها. وعندما تحدثهم عن أعمال النهب والاحتلال والتدمير يحيلونك على الحزبيين أنفسهم. ويتحدثون عن تصفية حسابات محلية بعضها يعود الى فترة "الحكم الشمولي". وإذا كان هؤلاء يرغبون في غسل أيديهم من كل تجاوز ممكن وبالتالي جعل انتصارهم مجرداً من كل عيب، فإن مسؤولين آخرين يعترفون بوقوع التجاوزات. لكنهم يردون اسبابها الى ظروف الحرب. ويحلو لهؤلاء عقد مقارنة بين ما حصل في كانون الثاني يناير 1986 وما حصل خلال سقوط عدن في تموز يوليو الماضي لتبيان الفارق بين "التسامح والانتقام". وفي الحالتين يؤكد هؤلاء أن الدولة تعالج يومياً الآثار الناتجة من الحرب وتسعى الى تعويض المتضررين وأن هذه المهمة ليست سهلة. حادثة العيدروس على رغم ندرة الأعمال الانتقامية، بشهادة الاشتراكيين أنفسهم، تظل حادثة "العيدروس" وتدمير الأضرحة والقبور في عدن العلامة الفارقة الوحيدة في فترة ما بعد الحرب، فهل يمكن النظر اليها بوصفها دليلاً على تنامي التيار الأصولي في عدن، وبالتالي على نوعٍ آخر من الانتقام، أم انها حادثة معزولة انتهت بضبط مسببيها؟ يبدو الرئيس علي عبدالله صالح حاسماً في رده على هذه المسألة فهو يؤكد ان الدولة "ضبطت منفذي الاعتداء على بعض القبور وأودعناهم السجن وهم يخضعون الآن لتحقيقات قضائية لمعرفة دوافعهم. وقد طلبنا اصلاح الأضرار الناجمة عن الاعتداء وعادت الأمور الى نصابها". ويعتبر ان الحادث "صغير جداً ولا يستحق الضجيج الذي اثير حوله". وإذا كان الرئيس لا يرغب في الخوض في تفاصيل هذا الحادث، معتبراً انه قد دخل في مسؤولية القضاء، فإن مصادر أمنية رفيعة المستوى أكدت لپ"الوسط" ان منفذي الحادث يمثّلون مجموعة متطرفة وصغيرة ولا علاقة لهم بالتجمع اليمني للاصلاح، وانهم تحركوا بأمرٍ من قائدهم وهو داعية يرفض كل المظاهر الموجودة في هذا العالم والتي لا تشبه ما كان قائماً في القرن الهجري الأول. وترى المصادر نفسها ان افراد هذه المجموعة يمثلون انفسهم ولا يعبّرون عن تيار اسلامي في اليمن، بدليل ان أياً من ممثلي التيار الاسلامي المعروف لم يتعاطف معهم قبل تنفيذ حادثة العيدروس وخلالها وبعدها. والمخاوف من نمو التيار الاسلامي ليست متصلة بحادث "الأضرحة" وانما بمشاركة "الاصلاح" في الحكم. فالذين ينظرون من الخارج الى التطورات اليمنية يؤكدون ان "التجمع اليمني للاصلاح" يعمل على "أسلمة اليمن" وعلى نشر الاصولية في البلاد. وهنا ايضاً لا يقيم الرئيس اليمني اعتباراً أساسياً لهذه المخاوف فهو يقول: "قضية الاصوليين والاسلاميين وما شابه من التسميات مضخّمة كثيراً في الخارج. ما هو الخطر الذي يشكّله الاصوليون وعلى من يقع هذا الخطر؟ اذا كان المقصود بذلك التجمع اليمني للاصلاح فهو حزب كغيره من الاحزاب الكبيرة في اليمن. واذا أردنا العمل بمبدأ الديموقراطية كيف يمكننا السماح بوجود حزب اشتراكي او ليبيرالي او قومي عربي وحظر حزب يعمل سياسياً بمنظور اسلامي، خصوصاً اذا كان هذا الحزب يمثّل تياراً مهماً لدى أبناء اليمن؟". ويستدرك الرئيس: "أما الحديث عن أسلمة اليمن فهو حديث ساذج لأن اليمن بلد اسلامي واليمنيين مسلمون منذ فجر الاسلام وهم كانوا في طليعة المشاركين في الفتوحات الاسلامية. والاصلاح حزب مؤمن بالثوابت الوطنية وبمبدأ التداول السلمي للسلطة، ويلتزم الدستور والقوانين. اما المتطرفون الذين يخرجون على القوانين، سواء كانوا من اليمين او اليسار والذين يسعون الى إحداث الإرباكات وإعاقة جهود بناء الدولة فهؤلاء يتولى القضاء أمرهم. فلماذا التهويل والخلط وبث مخاوف لا مبرر لها؟". الموقف الاميركي وفي حديث الرئيس اليمني رغبة واضحة في إرساء قواعد لعبة سياسية داخلية لا تتحكم فيها النزعات الانتقامية والثأرية، لكنها تظل لعبة محكومة بنتائج الحرب. وهنا يعود الرئيس قليلاً الى الوراء للإشارة الى إحدى خلفيات الحرب المتصلة بالموقف الاميركي من الحزب الاشتراكي. ويقول صالح ان الحزب "بنى أوهاماً كبيرة على الموقف الاميركي وأخطأ في تقدير هذا الموقف. فقد أكد لي السفير الاميركي في صنعاء ان بلاده لم تشجع الحزب على الانفصال وانما كانت تحضّه على التخلي عن التفكير الشمولي والتزام اللعبة الديموقراطية. وان اميركا كانت تنصح الجميع بالحفاظ على التوازن السياسي بين الاحزاب اليمنية الأساسية. لكن الحزب فهم ذلك بطريقة خاطئة". وأكد الرئيس اليمني ان حكومته تنظر الآن الى المستقبل، وان الماضي لا يشكّل هاجساً لدى اليمنيين الا بمقدار ما يفيدهم في ترسيخ الوحدة الوطنية وتدعيم الديموقراطية. والنظر الى المستقبل يطرح اسئلة عدة عن الاصلاحات الاقتصادية والادارية ومحاربة الفساد وتوفير فرص عمل للخريجين ومعالجة الآثار التي خلفتها الحرب. اصلاحات اقتصادية يقول الرئيس صالح ان الحكومة اليمنية الجديدة ستعمل على تنفيذ اصلاحات اقتصادية شاملة تأخذ في الاعتبار متطلبات العصر ورفع انتاج الاقتصاد، وان ذلك يتطلب إعادة النظر في دور القطاع العام. ويعطي مثالاً على ذلك بقوله: "لنأخذ حالة محددة. في عدن فندق معروف اسمه غولدن مور يملكه القطاع العام، ويضم 400 موظف. ان اية محاولة لاصلاحه تصطدم بعدد موظفيه الذين يفيضون عن حاجته. وهو يحتاج الى دخول هائلة لكي يربح ويلبي رواتب موظفيه. وهذه الدخول لا يمكن ان تأتي الا لفنادق من المستوى الرفيع. لذا فان غولدن مور محكوم عليه بالفشل والخسارة الدائمة. اذن لا بد من بيعه للقطاع الخاص والشركة التي تشتريه تتولى تعويض عماله وتسييره بطريقة ناجحة. وهذا المثال يصحّ ايضاً على نماذج من القطاع العام في كل مناطق البلاد وليس في عدن وحدها كمصانع البسكويت والمصانع الاخرى التي تملكها الدولة وتشكّل عبئاً على الاقتصاد". وينهي الرئيس: "ما يهمنا ليس الحفاظ على مؤسسات اقتصادية فاشلة وانما دفع عجلة الاقتصاد الى امام والا تتحول المؤسسات العامة الى عبء على الاقتصاد الوطني". وتؤكد مصادر اقتصادية في صنعاء ان الترجمة العملية لهذا الكلام ستؤدي الى تحرير القطاع العام بنسبة 30 في المئة وفي صورة تدريجية خلال السنوات المقبلة، وان هذا التوجه يتناسب مع النصائح التي قدمتها المؤسسات المصرفية الدولية الى اليمن. كنديان أوكسي حديث الاصلاح الاقتصادي يشمل النفط بطبيعة الحال 400 مليون دولار سنوياً. ويلاحظ مراقبون محليون أن الحرب تركت آثاراً طفيفة على النفط، وان صنعاء لا تعاني من مصاعب حقيقية في علاقتها بالشركات النفطية. وهذا ما يؤكده الرئيس اليمني عندما يقول: "لا توجد لدينا مشاكل إلا مع شركة واحدة بادرت الى تحويل 370 مليون دولار الى عدد من القادة الانفصاليين. ونحن نعدّ ملفاً عن هذه القضية لمتابعة الموضوع. أما الشركات الأخرى فتعمل في اليمن في صورة طبيعية". الشركة التي لم يرغب الرئيس في تسميتها هي "كنديان أوكسي" التي كانت تعمل في مجال تسويق النفط في عدن والتي انتهى عقدها مع الحكومة اليمنية في تموز الماضي ولم يجدد ربما للسبب المذكور. الأمر الذي حمل "أوكسي" على اقامة دعوى والمطالبة بتعويض مقداره 44 مليون دولار. وفي باريس أكد مصدر نفطي ل "الوسط" انه لا يوجد دليل على تعامل طوعي بين الشركة وبعض القادة الاشتراكيين. ورجح أن تكون الشركة خضعت لضغوط اشتراكية. ورأى انه لا يوجد من حيث المبدأ ما يستدعي اعادة النظر في العلاقة بين الحكومة اليمنية والشركات النفطية بعد الحرب. الفساد ولا يستوي الحديث عن الاصلاح الاقتصادي مع اغفال الحديث عن الفساد. فهذا الموضوع تجده على كل شفة ولسان في صنعاء. بعضهم يحصر الفساد بالحزب الاشتراكي من دون غيره، لكن هذا الكلام لا يُقنع أحداً. فالشارع اليمني يردد الكثير من الاشاعات عن قصص الفساد والفاسدين. ويغزل الخيال الشعبي قصصاً وروايات عن شخصيات ومؤسسات وموظفين كبار وصغار، بما يشكل ظاهرة مخيفة. والرئيس صالح يتحدث هذه الأيام عن الفساد في كل المناسبات العامة. وحدد لحكومته الجديدة شعاراً واضحاً ينص على محاربة الفساد حتى قيل في حكومة عبدالعزيز عبدالغني أنها حكومة تطهير البلاد من الفاسدين. ويرى الرئيس اليمني في الفساد "ظاهرة موجودة لدى الكثير من المجتمعات وهي موجودة عندنا وعند غيرنا ولا بد من القضاء عليه لئلا يستشري في المجتمع. ويتم ذلك عبر تقديم الفاسدين الى المحاكمة وفضحهم في وسائل الاعلام. والتشدد في تطبيق القوانين". فهل يتمكن الاعلام اليمني من فضح الفاسدين ومساعدة الدولة على محاكمتهم؟ صحافي يمني مقرّب من الدولة يعترف بأن هذه المهمة ليست سهلة لأن الفاسدين يملكون وسائل قوية للدفاع عن أنفسهم وأن محاربتهم تستدعي توافر ارادة حكومية قوية، خصوصاً أن السلطة في أعلى مراتبها ترغب في محاربة هذه الظاهرة. ويرى أن الشارع ومجلس النواب لن يتسامحا مع الحكومة الجديدة إذا فشلت في هذه المهمة. ويطالب نائب رئيس الوزراء عبدالوهاب الآنسي يمثل الاصلاح في الحكومة باصلاحات جذرية من بينها رفع الدعم عن المواد الأساسية، خصوصاً القمح والدقيق. ويرى أن "مافيا" حقيقية تستفيد من الدعم الرسمي للأسعار وليس الشعب. ويؤكد أن دعم الأسعار يلتهم عوائد النفط 400 مليون دولار وكان يلتهم من قبل أكثر من مليار دولار. ويروي الآنسي أن الدعم الرسمي للأسعار كان يفترض أن يحصل المستهلك على كيس القمح بسعر يبلغ 160 - 170 ريالاً يمنياً، لكن المواطن يدفع ثمن هذا الكيس 600 ريال. وهو مع ذلك لا يجده في الأسواق ذلك ان الوسطاء والفاسدين يلتهمون الدعم الرسمي ويعملون على زيادة سعر الكميات التي تنزل الى السوق ما يستدعي في نظره رفع الدعم وترك التجار يتنافسون بحرية تامة، عندها يستقر السعر عند حد معين، وتوفر الدولة كلفة الدعم لصرفها في مشاريع مفيدة، وبذلك تنتهي "مافيا" حقيقية تفيد من هذه العملية. لن يكون لدى الاصلاح ما يعوقه عن تنفيذ هذه المهمة ما دام ان أحد وزرائه يدير الآن وزارة التموين وان رئيس الجمهورية يرفع شعار محاربة الفساد ورئيس الحكومة مكلف تنفيذ هذا الشعار. ... يصعب حصر هموم اليمن بعد الحرب وهي تشمل السياسة والاقتصاد والمجتمع والادارة، لكن الهم الخارجي يظل طاغياً. فصنعاء تدرك أن كسب العالم بأسره لا يغنيها عن اقامة علاقة جيدة مع دول الجوار، لكن مسؤولين يمنيين تملكهم اليأس من المحاولات الفاشلة والمتكررة لتحسين العلاقات مع البلدان المحاذية، بدأوا يبحثون عن فكرة الاهتمام بالقرن الافريقي. وقد تبدو هذه الفكرة مغرية للوهلة الأولى، وقد تبدو ممكنة بعد ترسيخ النظام الجديد، لكنها في الواقع لا تستطيع تجاوز حقيقة متعلقة بالجغرافيا السياسية للجزيرة العربية، فسياسات الدول ستظل محكومة بجغرافيتها، على حد تعبير بونابرت، واليمن لا تشكل استثناء عن القاعدة.