جاء انهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية ليضع المانيا في واجهة الأحداث. ذلك ان البلد الذي ترابط فيه "قوات الحلفاء" كان بلدين، وهو الباب الفاصل، جغرافياً، بين شرق أوروبا وغربها، ما يعطيه دوراً خاصاً في عملية الانفتاح والتحول. وإذا كانت المانيا توحّدت واستطاع اقتصادها القوي مواجهة اعباء السنوات القليلة الماضية، الا أن اعباء السنوات المقبلة هي الأصعب. من هنا أخذت الانتخابات النيابية الأخيرة أهميتها، خصوصاً مع ظهور أحزاب جديدة بدأت تنافس الأحزاب العريقة. ففي السبعينات حصل الائتلاف المسيحي المؤلف من الحزب المسيحي الاجتماعي الواسع النفوذ في اقليم بايرن الجنوبي، والحزب المسيحي الديموقراطي، اضافة الى الحزب الاشتراكي الديموقراطي، على حوالي 90 في المئة من أصوات الناخبين. وبات على هذه الأحزاب الرئيسية ان تقبل مع مطلع التسعينات بنسبة 70 إلى 80 في المئة من الأصوات، أي فقدان حوالي 15 في المئة لمصلحة أحزاب أصغر حجماً، وأقل نفوذاً، مثل حزب حماة البيئة "الخضر"، و"الاشتراكية الديموقراطية" الحزب الوريث للشيوعية الحاكمة في المانياالشرقية سابقاً، اضافة الى "الجمهوريين" أبرز الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تتمتع بنفوذ نسبي قياساً الى توجهاتها السياسية المعادية للدستور. الحزب الاشتراكي الديموقراطي، أعرق الأحزاب السياسية الألمانية، الذي قاد البلاد في فترة البناء والانماء خلال السبعينات، يقود المعارضة حتى السادس عشر من الشهر الجاري، وإذا تمكن من الحصول على الغالبية المطلقة، وهو احتمال ضعيف للغاية، يكون عايش خلال وجوده خارج الحكم أحداثاً جساماً تركت آثارها العميقة على خريطة أوروبا والعالم، مثل سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي وتوحيد شطري المانيا، ويكون عاد الى السلطة إذا عاد نتيجة مشكلات اقتصادية لا تقل أهمية عن تلك التي اضطرت مستشار المانيا السابق الاشتراكي هيلموت شميدت الى الاستقالة، ومغادرة السلطة بسببها. لكن ليس بوسع الاشتراكيين الديموقراطيين تحقيق عودة مريحة الى الحكم حتى بعد غياب عقد ونصف عقد من الزمان، ولذلك أسبابه التي لن يكون عدم الاستقرار السياسي داخل حزبهم الا واحداً منها. فهذا الحزب الذي يضم أوسع قاعدة شعبية تعتمد على العمال والفلاحين، ويبلغ عدد أعضائها حوالي 890 ألفاً، شهد انسحاباً "هادئاً" لزعيمه السابق بيورن أنغهولم، في أيار مايو عام 1993 بسبب أزمة سياسية جرت فصولها في اقليم شليسفك هولشتاين، عندما كتم معلومات عن هيئة تحقيق وأدلى بمعلومات خاطئة. وكان أنغهولم اضافة الى مسؤولياته الحزبية مرشح الحزب الاشتراكي لمنصب المستشار. وليس هناك شك في أن أنغهولم كان يملك فرص نجاح كبيرة، وقد أدى انسحابه الى اهتزاز صورة الحزب الاشتراكي خصوصاً أنه لا يمكن مقارنته بخليفته رودولف شاربنك في الجاذبية وبريق الشخصية، اضافة الى مقومات الزعامة، على رغم تقارب الاثنين في السن حيث يبلغ عمر الزعيم الاشتراكي الحالي المرشح للمستشارية 47 عاماً. غير أن مشكلة الاشتراكيين لا تكمن في شخص المرشح وحده الذي يمتلك خبرة سياسية وحزبية واسعة، اذ هو عضو في برلمان مقاطعة راين لاندبنالتس منذ العام 1975 اضافة الى توليه منصب رئاسة الوزراء في المقاطعة نفسها بعد فوز حزبه عام 1991 للمرة الأولى على الحزب المسيحي الديموقراطي منذ عام 1947. لكن مشكلة الحزب ترتبط باخفاقه منذ العام 1984 عندما خرج من الحكم، في التصدي للائتلاف الحاكم بشكل يقنع الناخبين بضرورة التغيير مرة أخرى. وهو ما أوضحته نتائج الانتخابات البرلمانية خلال الدورات الثلاث الماضية. ويؤكد الاشتراكيون في برنامجهم الحكومي، المقرر تنفيذه في حال فوزهم في الانتخابات، أنهم سيحولون دون اجراء زيادات في الضرائب، وفي الانفاق العام للدولة، وسيلغون ضريبة التضامن لتمويل النمو الاقتصادي في الأقاليم التي كانت تشكل المانياالشرقية سابقاً، ويخرجون البلاد من استخدامات الطاقة الذرية في انتاج الكهرباء حتى نهاية التسعينات، مع تأكيد استخدام الطاقتين المائية والشمسية في الانتاج الكهربائي. في الوقت الذي يؤكد الائتلاف المسيحي الليبرالي الحاكم أنه سيعمل، في حال التجديد له لدورة برلمانية أخرى، على تخفيف الاعباء عن الأسر، وتعزيز الأمن، وانشاء المزيد من المساكن، واجراء تحويل في طريقة الانفاق على الخدمات الأجنبية. وتركزت سياسة حكومة ائتلاف المسيحيين الديموقراطيين والليبراليين خلال عامي 1993 و1994 على تشريع قانون لمكافحة الجريمة يتضمن تشديداً للعقوبات المفروضة على الأعمال ذات الباعث اليميني المتطرف، وعلى عناصر الجريمة المنظمة. كما نجحت عام 1993 في ابرام قانون جديد يحجم القانون السابق الذي يمنح الملاحقين حقاً في اللجوء السياسي الى المانيا، بعد ضغوط عدة مورست داخلياً على الحزب الاشتراكي. وتشير الوقائع الى فشل حكومة المستشار كول في معالجة أزمة البطالة المتصاعدة حيث بلغ الرقم الاجمالي للعاطلين عن العمل حوالي 3.8 ملايين. وشهد هذا الرقم خلال العام الحالي وحده ارتفاعاً بلغ 400 ألف عاطل. والمثير في الأمر انه بينما كان معظم العاطلين عن العمل، حتى نهاية الثمانينات، غير مؤهل مهنياً، صار الكفاح المرير لزاماً على خريجي الجامعات والمعاهد العالية، من أجل الحصول على وظيفة مع بداية التسعينات. وفي حين كانت نسبة العاطلين عن العمل، خلال آخر سنتين من حكم الزعيم الاشتراكي شميدت المنتهي في العام 1982، لا تزيد على 3.8 في المئة، ارتفعت عام 1993 لتصل الى 7.3 في المئة. ونظراً الى أهمية هذه المشكلة وحساسيتها في الحياة الاجتماعية للسكان فانها تصدرت البرامج الدعائية للأحزاب المتنافسة. وأشار آخر استطلاع للرأي، نشر قبل اسبوع من موعد الانتخابات، الى امكانية فوز الائتلاف الحاكم بنسبة 49.5 في المئة من الأصوات، في حين حصل الاشتراكيون وحلفاؤهم الخضر على نسبة 43.5 في المئة. لكن هذه التوقعات ليست حتمية الحدوث، خصوصاً ان هناك استطلاعات أخرى أكدت تقدم الاشتراكيين وتراجع الليبراليين مع دنو موعد الانتخابات. والأمر المؤكد هو عدم امكان أي من الاحزاب المتنافسة تحقيق الغالبية المطلقة، وكان عليها جميعاً البحث عن شركاء محتملين، وسيكون موقف الاشتراكي أقوى من الديموقراطي المسيحي إذا بقي الليبراليون خارج البرلمان لفشلهم في الحصول على نسبة 5 في المئة، لكن هذه القوة ستتحدد في إطار الاختيارات المتاحة للائتلافات. وهي إما الائتلاف الكبير بينه وبين احزاب الحكم، ولكنه ائتلاف مرفوض من الديموقراطيين المسيحيين على أساس شروط الاشتراكيين الذين يصرون على تولّي مرشحهم منصب المستشار بدلاً من هيلموت كول. واما ائتلاف بين الاشتراكيين والخضر بتسامح من حزب الاشتراكية الديموقراطية الشيوعي، وهو ما رفضه معظم قادة الاشتراكي كبديل للتوصل الى السلطة. غير ان هذه الشروط وتصريحات الرفض ليست قوانين ثابتة، إذ طالما تمّ الحَنَثُ بوعود وعهود قُطعت قبل الانتخابات، وسلوك مسالك أخرى. والمعروف ان الكارتل الصناعي والاتحاد التجاري أيّدا مبكراً استمرار الحكومة وفق مناهجها المعروفة، وعبّرا عن الرغبة في عدم وصول الاشتراكيين الى الحكم بسبب "تعارض برامجهم مع المصلحة الاقتصادية، وطرحهم أفكاراً غير واقعية"، الأمر الذي دفع زعامة الاشتراكي، في حينه، الى التحذير من مغبّة انحياز رجال الصناعة، واحتمالات تأثير ذلك على قيام تعاون فعال في حال تغيير الحكومة. ويخشى الصناعيون في الدرجة الأولى من مغبّة تغييرات اشتراكية ضريبية، وقرارات لمصلحة العمال تدفعهم الى تغيير اساسي "مكلف في هذه الظروف". ومهما كان شكل الحكومة المقبلة، فان جوهر السياسة الخارجية من الثوابت، خصوصاً في اطار العلاقات ضمن الاتحاد الأوروبي أو مع الولاياتالمتحدة، وإذا حصل أيُّ تغيير مع وصول الاشتراكيين الى الحكم فانه لا يمس الا سطح التفاصيل. اما على الصعيد الداخلي فان المانيا مرشحة للدخول في مخاض جديد، وهو شأن طبيعي في بلد قاعدته الاقتصادية مفتوحة. وسيكون على الاشتراكيين بذل جهود مضاعفة مع رجال الصناعة وأرباب العمل، المحافظين بشكل عام. ويبقى الموقف في شأن حزب الاشتراكية الديموقراطية، الذي سيدخل البرلمان المقبل، ولن يكون في مقدوره التأثير على القرار السياسي أو الاقتصادي، طوال السنوات الأربع التالية، لكنه حزبٌ يستقطب مثقفين بارزين من شيوعيي المانياالشرقية السابقة، ولا زال الحزب الأول من حيث عدد الأعضاء في الأقاليم الألمانية الجديدة. وهو حزب لا يمكنه التعايش، علناً، مع الاتحاد المسيحي، في حين توجد امكانية للعمل المشترك مع الاشتراكيين، مستقبلاً، على رغم اصرار الحزب الاشتراكي، في بياناته، على نفي ذلك.