يقام في مصر، كل صيف نشاط تعليمي ثقافي باسم "مهرجان القراءة للجميع"، بعد أن يكون تلاميذ المدارس فرغوا من امتحاناتهم وراحوا يستعدون لقضاء اجازة طويلة تمتد بضعة أشهر. ولا شك في أن هذا النشاط مشروع جليل يربط الناشئين بالقراءة الذاتية بعيداً عن المقرر التعليمي، ويغرس في نفوسهم منذ وقت مبكر التطلع الى المعرفة، ويعصمهم من ملل الفراغ الطويل وما قد يفضي اليه أحياناً من سلوك غير قويم. لكن شعار هذه الحملة، "القراءة للجميع"، يظل يثير تساؤلاً يتصل بقضية ذات شأن كبير في الوطن العربي، وبمستوى المعرفة والثقافة لدى مواطنيه. فما المراد ب "الجميع"، ومن هم هؤلاء الذين تشملهم تلك العبارة؟ هل هم تلاميذ المدارس الذين يحسنون القراءة بالفعل ونريد أن نوجّههم الى مزيد منها بدافع شخصي غير مفروض؟ لا ينبغي أن ننسى، والحالة هذه، أن نسبة هؤلاء غاية في الضآلة بالقياس الى عدد المواطنين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة أصلاً، ويمثلون ظاهرة تبدو في هذا العصر قرينة للتخلف الحضاري، تعطل قدرات الفرد وتَئِد مواهبه، وتحدّ من مدى انتفاع المجتمع من نشاط أفراده حين تحول الاميّة بينهم وبين العلم والمعرفة والثقافة. لذلك كان من المنطقي قبل أن نرفع شعار "القراءة للجميع"، أن نعدّ "الجميع" للقراءة! و"محو الامية" شعار مرفوع في الوطن العربي منذ سنين طويلة، يطفو من حين الى حين في وسائل الاعلام أو الهيئات التعليمية والثقافية، فيكثر الكلام عنه والتخطيط له ثم يغيب بعد قليل في عالم النسيان... وقد أضعف من احساسنا بضرورة انتشار التعليم المدرسي انتشاراً نتخيّل معه أن المشكلة تضاءل حجمها، مع أن حجمها في الحقيقة يزداد يوماً بعد يوم، بازدياد السكان وتعذر اتاحة "التعليم الاساسي" للجميع، في كثير من أقطار الوطن العربي. ولعل من الاسباب التي تخفف من حدة شعور المواطن العاجز عن القراءة والكتابة بسيّئات الاميّة، أن وسائل الاعلام الحديثة - المسموعة والمرئية - تعطي الاخير شعوراً بأنه في غنى عن القراءة والكتابة. وهو وهم يدركه القارئ القادر الذي تفتح القراءة أمامه عوالم فسيحة من المعرفة وممارسة سهلة ناجحة للحياة. فاذا كانت القراءة ضرورة لازمة للفرد لكي يزوّد نفسه بالحد الادنى من المعرفة وبالقدرة الاساسية على الحياة مع الآخرين، فانها في ما يتصل بالمستوى الارفع للادب والثقافة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكثير من مشكلات حياتنا الثقافية والابداعية، بوضع الكتاب، وبالصلة بين المبدعين والمتلقين. ومن المعروف أن مستوى توزيع الكتاب العربي - حتى على مستوى الرواية وهي أكثر الانواع الادبية رواجاً - لا يتجاوز بضعة آلاف نسخة من الكتاب الواحد، في بلاد يبلغ تعداد سكانها مئات الملايين. ولا تزال ظاهرة "الكتاب الفائق التوزيع" SELLER - BEST غير معروفة في العالم العربي كما هي الحال في المجتمعات القارئة، وهي التسمية التي تطلق على كتاب يحقق نجاحاً واسعاً، فيقرأه مئات الالوف، ويعاد طبعه من حين الى حين. وهذا الكساد في توزيع الكتاب، تسبّب في نشوء أوضاع غير سليمة تتصل بالمبدعين والدارسين، وعلاقتهم بالقراء. فالشاعر الموهوب أو الروائي الكبير أو الناقد المعروف، لا يستطيع أن يحقق وجوده بعمل متميز، تتفاعل آثاره بضع سنوات ريثما يهتدي الى موضوع جديد فيتفرغ له ويعطيه ما يستحق من وقت وجهد. فهو معرّض، في حال طال الامد بين كتابيه السابق واللاحق، لخطر نضوب معينه وشحوب صورته وتراجع حضوره لدى القراء، ويكون ظهر اسم جديد غطّى عليه ومحا صورته من ذاكرة هؤلاء القراء. هكذا بات عرفاً سائداً أن يقاس عندنا وجود الأديب أو الدارس بغزارة وتواصل انتاجه، بعدد كتبه وبمقدار تتابعها وتقارب مواقيت ظهورها. وأصبح صاحب الموهبة مطالباً بأن يسارع الى اصدار كتاب جديد قبل أن ينساه الناس ويمرّ الزمن على كتابه القديم الذي وُزّعت منه بضعة آلاف النسخ، ولم يُعد طبعه، فيما يعيش صاحب الكتاب الناجح في المجتمعات القارئة حياة راضية - مادياً وأدبياً - حتى يُوفّق على مهل الى وضع عمل جديد. فالاضافة الحقيقية الى التراث الانساني في الفكر والادب والفن لم تعد اليوم بالامر اليسير. والمجتمع الانساني يراكم خلاصة عطاء ممتد على آلاف السنين عبر مختلف اللغات والحضارات والاقطار والشعوب. ليس من الميسور لفرد مهما كانت موهبته ومثابرته أن يضع عشرات المؤلفات المرموقة بهذه السهولة. كما أن بعض الكتاب المتميزين، استطاعوا تحويل مسار الفكر والادب والفن في عصرهم بكتب قليلة - أو بكتاب واحد في بعض الاحيان. نظرة بسيطة الى أعمال كبار الشعراء والروائيين العالميين، تؤكد أن أيّاً منهم لم يحقق وجوده المرموق، ولا احتل شهرة عالمية، بعدد دواوينه أو رواياته، بل بمستواها وبما استحدثه عبرها من أساليب وأشكال ومضامين جديدة. ويدرك هذه الحقيقة، من يقرأ سيرة بعض الادباء العرب الكبار، ويطلع على نتاجهم الغزير، فاذا بمؤلفات هؤلاء تعتمد في أغلبها على الجمع أو النقل أو التكرار. وللمجلات الادبية في الوطن العربي تاريخ حافل بالعجز عن تحقيق ما كان يأمل اصحابها لها من رواج وتأثير، على الرغم من مستواها الرفيع أحياناً، ذلك أن "الرواج" مرتبط في النهاية بعدد القراء الذين يملكون الحد الادنى المطلوب من المعرفة والثقافة. هذا البحث غير المجدي من طرف بعض الادباء عن دائرة واسعة من القراء، قد ينعكس لدى فئة من الشعراء والروائيين انطواءً على النفس واكتفاءً بتجارب ذاتية ضيقة الافق وانصرافاً عن هموم المجتمع والعصر... وفي تلك القطيعة مع جمهور غير موجود، بداية تفسير لسلوك النقاد الذين ينحون الى مذاهب تنطوي على مواقف ذهنية لا تحفل كثيراً بالقارئ "الغائب"، بل تتجه الى صفوة قليلة من المبدعين والدارسين. على أن أثر الاميّة لا ينحصر في أزمة الكتاب ومستوى التأليف، فالموهبة الفطرية تظل قدرة كامنة حتى تتيح لها الظروف أن تخرج الى الحياة. ولا شك أن المواهب العربية في مجالات كثيرة ستظل محدودة في النطاق الضيق للذكاء العفوي والفطري، ما لم يتح للانسان في مجتمعنا أن يقرأ وأن يتعلم. ومن العجيب حقاً أن تبقى دولنا غافلة عن مساوئ الاميّة حتى اليوم، وألا يكون لكل بلد عربي مشروع لمحوها كما فعل كثير من الامم من قبل. مع العلم أن الوسائل أصبحت ميسورة، ومناهج التعليم معروفة، وفي كل قطر عدد كبير من المتعلمين بوسعهم التصدي للامية والعمل على محوها، وفي كل بلد عربي سلاح خطير هو التلفزيون، يمكنه أن يلعب دوراً فعّالاً على هذا الصعيد. والتلفزيون في مصر - وفي كثير من البلاد العربية - يقدم على مدى العام الدراسي "برامج تعليمية" تستغرق وقتاً لا بأس به من ساعات الارسال، وقد يكون من الافضل أن تُبثّ هذه البرامج عبر قناة خاصة على أساس برنامج مرسوم لتعليم القراءة والكتابة. وقضية الامية بعد ذلك لا تمس مشكلات الابداع والتأليف والكتاب والادب والثقافة فحسب، لكنها تتصل في الصميم بوجود الانسان العربي الذي لا يمكن ان يحقق كيانه الحضاري من دون أن تتهيأ له أسباب المعرفة والقدرة على التحكم الكامل بوجوده، بعيداً عن أدنى شعور بالنقص أو تخبط في مستنقعات الجهل. ولتحقيق هذه الغاية، لا بد له من ولوج هذا العالم السحري العجيب الذي اكتشفته الانسانية منذ آلاف السنين، فكان نقطة تحول خطيرة في حياة البشر: إنه عالم القراءة والكتابة. * كاتب وناقد مصري