«الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    إسماعيل رشيد: صوت أصيل يودّع الحياة    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    ألوان الطيف    ضاحية بيروت.. دمار شامل    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    أهمية قواعد البيانات في البحث الأكاديمي والمعلومات المالية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    تطوير الموظفين.. دور من ؟    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



واشنطن فوجئت ولم تفاجأ . عرفات ورابين يسقطان جدار الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني - المنظمة تسلك طريق اريحا والمرارة السورية لا تلغي المفاجآت
نشر في الحياة يوم 13 - 09 - 1993


الخميس 9 أيلول سبتمبر 1993:
ياسر عرفات يرأس في تونس اجتماعا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي جدول الاعمال بند وحيد هو الاعتراف باسرائيل.
اسحق رابين يستدعي مجلس الوزراء الاسرائيلي الى جلسة استثنائية في القدس، وفي جدول الاعمال بند وحيد هو الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية.
وكما في تونس كذلك في القدس انتهى الاجتماع بالموافقة. انها ساعة الاعتراف المتبادل. ساعة انطلاق "الانقلاب الكبير".
أجيال بأكملها لم تكن تعتقد بأن هذه الساعة ستأتي. وكثيرون بنوا حساباتهم وسياساتهم على ان هذا النزاع هو مجرد نزاع مزمن وان كل الحرائق تنطفىء وتبقى ناره مشتعلة ولو كمنت. لكن العالم تغير وكان على الشرق الاوسط ان يتغير هو أيضا.
لا شيء بعد هذه الساعة سيشبه ما قبلها. انها للشرق الاوسط أكثر أهمية وأشد خطورة مما كانته لاوروبا والعالم ساعة انهيار جدار برلين والاتحاد السوفياتي. فماذا يبقى من جدار برلين العربي - الاسرائيلي حين يتقدم الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ليعلن سقوطه، ويرد رابين بتأكيد هذا السقوط؟
وقبل اعلان الموافقة النهائية من تونس والقدس، كان الرئيس الاميركي بيل كلينتون يؤكد توصل الطرفين الى اتفاق الاعتراف المتبادل، ويشير الى صفحة جديدة في العلاقات بين الولايات المتحدة ومنظمة التحرير.
رجفة في تونس ورجفة في القدس وذهول في عواصم كثيرة. فالرجل الذي اعلن الاعتراف باسرائيل هو الرجل الذي قاد الثورة منذ الرصاصة الاولى. والرجل الذي اعلن الاعتراف بالمنظمة هو نفسه الجنرال الوافد من أكبر حروب الدولة العبرية وهو الذي توعد بكسر عظام الفلسطينيين! وبين الرجلين ثالث هو شمعون بيريز كان هذه المرة مهندس الاختراق الكبير. ومعهم وارن كريستوفر وزير الخارجية الاميركي، وزير خارجية العالم الجديد الذي نجح أخيرا في ادخال عملية مدريد مرحلة سباق المسارات فكان الاختراق على الجبهة الاسرائيلية - الفلسطينية... برعاية العراب النرويجي يوهان يورغان هولست الذي لم تفته المشاركة في اللحظة التاريخية... من القدس.
بعد الاعتراف المتبادل صارت المسألة أبعد من "غزة - اريحا أولاً". فهي قبل كل شيء نهاية لنحو نصف قرن من النزاع، وهي ايضا نهاية لقاموس ولغة تخاطب وتوازنات، خصوصا ان الاختراق الجديد تم في جوهر النزاع، أي في عقدته الفلسطينية وبعد 15 عاما على اختراق كمب ديفيد.
لم تكن رحلة الوصول الى الاعتراف المتبادل سهلة وهي استلزمت قرارات مؤلمة. فعرفات يعرف ان "سلام الشجعان" قد يكون مكلفاً، ورابين يعرف الثمن وان كان واثقاً من "ان السلام يصنع مع الاعداء".
صفحة كاملة من تاريخ الشرق الاوسط طويت ودفعت سريعا الى التاريخ. لكن رحلة ما بعد الاعتراف تبدو هي الاخرى مثقلة وملبدة. ففي يوم الاعتراف لوحت اوساط فلسطينية في دمشق بايجاد بديل من المنظمة. وتسارعت التساؤلات عن موقف الفلسطينيين داخل الاراضي المحتلة وخارجها. وظل السؤال الكبير هو عما ستفعله سورية خصوصا ان المرحلة الجديدة في المنطقة هي بالتأكيد مرحلة ما بعد الاعتراف المتبادل بين اسرائيل ومنظمة التحرير. فدمشق كانت قبل الاعتراف وتبقى بعده المعبر الالزامي للاعتراف الشامل والسلام الشامل. وخيار سورية سينسحب في الضرورة على خيار لبنان، في حين يبدو الاردن جاهزا لتحقيق اختراق أقل صعوبة في المسار الاسرائيلي - الاردني.
وبعد موافقة المنظمة واسرائيل على الاعتراف المتبادل وترجيح الثالث عشر من الجاري موعدا لتوقيع الاتفاق بين الطرفين، تحدثت مصادر ديبلوماسية عربية عن محاولات فرنسية لجمع عرفات ورابين.
وكانت منطقة الشرق الأوسط أمضت الأيام الأخيرة على وقع الأنباء المتعلقة بخيار "غزة - أريحا أولاً" خصوصاً بعدما أكدت المعلومات التي تسربت عن المفاوضات السرية الشاقة التي سبقته أنه وضع فعلاً الأساس لانقلاب كبير يتخطى المسار الفلسطيني - الاسرائيلي الى عملية السلام بمجملها. وأظهرت عملية التسويق السريعة التي قادتها الحكومة الاسرائيلية والقيادة الفلسطينية والادارة الأميركية ان هذا الخيار حصل على المظلة الكافية للتحول الى عنصر ثابت ورئيسي في عملية السلام. وبدا الخلاف على المفردات طبيعياً امام استحقاق بحجم الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير واسرائيل، كما بدا التوقيع قرارا لا عودة عنه حتى ولو استلزمت "حرب المفردات" اضافة بضعة أيام الى نزاع بدأ قبل أكثر من اربعة عقود.
ورأت مصادر ديبلوماسية غربية ان هذا الخيار اجتاز امتحان الولادة ونجح في نقل الاسئلة الى المسارات الأخرى. فقد صار واضحاً ماذا تريد منظمة التحرير وماذا تنوي ان تفعل، والسؤال يدور الآن على ما ستختاره سورية وتالياً لبنان وكذلك على خيارات الأردن.
مصادر ديبلوماسية عربية قالت ل "الوسط" ان ما ظهر من معارضة وتحفظات عن خيار "غزة - أريحا أولاً" كان أقل مما هو متوقع. فالانتقادات تركزت بمعظمها على الطريقة التي استخدمتها المنظمة أكثر مما تركزت على ما انتهت اليه المفاوضات. أي ان معظم المنتقدين أخذ على المنظمة عدم اطلاعه على مسار الاتصالات ولم يرفض حقها في التوصل الى اتفاق مع اسرائيل ولم يشكك في شرعية تمثيلها لشعبها ومصالحه.
مرارة سورية
طبيعي ان تشعر دمشق بقدر من المرارة حيال اندفاع المنظمة في خيارها الذي يجعل أي تنسيق جديد بين دول الطوق مشروطاً بالانطلاق عملياً من خيار غزة - أريحا وانعكاساته. وكان على دمشق ان تأخذ أيضاً في الاعتبار اتساع حجم التأييد الدولي ل "غزة - أريحا أولاً". فأوروبا دعمت هذا التوجه وهي مطالبة بمساهمة مالية لانجاحه. ووزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي رحبوا خلال اجتماعهم في الرياض ب "مشروع الاتفاق الذي تم التوصل اليه بين الجانبين كخطوة أولى في سبيل التوصل الى حل عادل ودائم وشامل للقضية الفلسطينية والنزاع العربي - الاسرائيلي على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338 ومبدأ الأرض في مقابل السلام وتحقيق الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الأراضي العربية المحتلة وفي مقدمها القدس الشريف، وتأمين الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني بما في ذلك حقه في تقرير المصير وإرساء قواعد ثابتة لضمان الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط".
وتسود المسار السوري - الاسرائيلي مرحلة ترقب. وتدرس دمشق، بعد اعلانها ان الشعب الفلسطيني ومؤسساته تقرر ما تراه مناسباً، تأثيرات الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي في مبدأ الحل الشامل والمسارات الأخرى، والوضع الاقليمي العام، في ظل الاندماج الاقتصادي الذي ينص عليه الاتفاق بين اسرائيل والفلسطينيين. ويمكن تلخيص الموقف السوري بالآتي:
1- ان سورية متمسكة بالحل العادل والشامل على كل الجبهات على أساس القرار 242 و338 لأن أي حل منفرد لن يكتب له البقاء بل يهدد المنطقة بمزيد من العنف.
2- ان موقف الشعب الفلسطيني حاسم في تقرير موقف سورية من الاتفاق، وتبقى له الكلمة الأولى والأخيرة.
3- ان سورية دعت القيادة الفلسطينية الى درس نتائج هذا الاتفاق على مستقبل القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في أرضه "لأن حقوقه لا تسقط بتقادم الزمن مهما طال الاحتلال... لكن التوقيع على ما يمكن ان يهدد هذه الحقوق يجعل من الصعب على الشعب الفلسطيني المطالبة بهذه الحقوق في المستقبل.
4- ان التغييرات في موازين القوى لمصلحة اسرائيل لا يعني التفريط بالحقوق العربية لأنه لا يمكن للقوى الكبرى العودة الى سياسة حافة الهاوية في الشرق الأوسط الأمر الذي يهدد المصالح الغربية في المنطقة.
5- نصحت سورية القيادة الفلسطينية بالتعاون مع كل القوى الفلسطينية، خصوصاً الفصائل العشر حتى تضمن دعماً شعبياً لهذا الاتفاق.
6- ان الحديث الاسرائيلي - الفلسطيني عن تقدم أو اتفاقات في المسار السوري هو محاولة لاضفاء اجواء ايجابية على المفاوضات برمتها لتمرير الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي.
7- ان الحديث عن موضوع السيادة السورية على الجولان وإقرار اسرائيل بها من دون التزام الانسحاب الكامل وفي مقابل التطبيع الكامل "غير مقبول وغير معقول" لأن السيادة السورية على الجولان لم تسقط لا في القانون السوري، ولا في القانون الدولي خصوصاً ان مجلس الأمن اعتبر قرار اسرائيل ضم الجولان لاغياً وباطلاً.
وتراقب الأوساط الديبلوماسية في واشنطن طبيعة الاتصالات الأميركية مع الجانب السوري لتأكيد التزام واشنطن الحل الشامل ودور الشريك الكامل، وهما عاملان أصبحا موضع تساؤل في دمشق بعد الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي الذي تم التوصل اليه من دون أي دور فعلي لفريق مدريد الأميركي.
وقارن مراقبون عرب في واشنطن بين موقف دمشق من الاتفاق الحالي وموقفها من اتفاق 17 ايار، اذ أعلنت في البداية ان الأمر منوط بالشعب اللبناني ومؤسساته ثم أظهرت معارضتها الواضحة له حتى تمكنت من إسقاطه.
وتقول مصادر غربية ترافق المفاوضات ان شعور سورية بالمرارة لا يلغي احتمال حصول مفاجآت على المسار السوري - الاسرائيلي خصوصاً إذا وفرت واشنطن الضمانات اللازمة. ولم تستبعد المصادر احتمال قيام وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر بجولة جديدة في الشرق الأوسط.
واشنطن فوجئت؟
أما الادارة الأميركية فتصرفت على أساس انها فوجئت بالاتفاق الاسرائيلي - الفلسطيني فوجدت لزاماً عليها الانتقال السريع الى تسويقه ودعمه. ماذا لو أطلقنا فرضية أخرى تزعم ان الولايات المتحدة كانت مطلعة تماماً على ما يجري وانها لم تكن "الشريك الكامل" في المفاوضات بل "المتواطئ الكامل" مع اسرائيل؟ تستند هذه الفرضية على التساؤلات الآتية:
أولاً - عمر المفاوضات المباشرة بين منظمة التحرير واسرائيل ثمانية أشهر. وليس معقولاً أن يمر حدث بهذه الأهمية وطوال هذه المدة من غير أن يصل الى مسامع واشنطن. قد لا تكون الادارة مهتمة بنشاطات يقوم بها شمعون بيريز، غير ان الأمر يتغير عندما يكون ذلك في مستوى الحوار المباشر مع منظمة التحرير.
ثانياً - دخل اسحق رابين، رجل أميركا في المؤسسة الاسرائيلية، على خط التفاوض المباشر منذ ايار مايو الماضي. هذا ما أكده هو شخصياً قبل أيام، فهل يعقل ألا يكون رئيس الوزراء الاسرائيلي قد أبلغ حلفاءه الأميركيين بوجود قناة خلفية، علماً أنه يؤكد انه لم يتورط شخصياً في الموضوع الا بعدما كانت المفاوضات حققت تقدما وبعدما لمس جدية المحاور الفلسطيني؟
ثالثاً - شهدت الجولتان التاسعة والعاشرة تصلباً أميركياً ملحوظاً تمثل في الموقف من قضية المبعدين أولاً وفي "الورقة" الأميركية التي قدمت في نهاية الجولة التاسعة بالتشاور مع الجانب الاسرائيلي فقط. واستمر هذا التصلب في الجولة العاشرة التي انتهت، هي الأخرى، بورقة أميركية جديدة، رفض الجانب الفلسطيني التعامل معها ثم تراجع عن رفضه فنشأت عن ذلك أزمة الوفد المفاوض.
لقد صرح أحد أعضاء هذا الوفد، قبل أيام، في واشنطن بأن المواقف الأميركية بدت للفلسطينيين "ليكودية". وقيل في ذلك الوقت ان واشنطن تراجعت عن برنامج "حزب العمل"، وفي ختام الجولة العاشرة رفع نائب رئيس الوفد الفلسطيني صائب عريقات مذكرة الى القيادة الفلسطينية في تونس جاء فيها ما حرفيته: "ان المفاوضات لن تكون كما كانت بعد التدخل الأميركي في نهاية الجولة التاسعة... أما موقف ادارة كلينتون فقد حسم لمصلحة المنهجية الاسرائيلية، وان المفهوم الأميركي للمرحلة الموقتة هو اعتماد المفهوم الاسرائيلي، وكذلك الحال بالنسبة الى المرحلة النهائية، وتكون ادارة الرئيس كلينتون قد تحللت من أي مواقف أو تطمينات أعطتها ادارة الرئيس بوش للجانب الفلسطيني خصوصاً، والعرب عموماً". ويختم عريقات بالتأكيد "نستطيع القول ان عملية السلام في شكلها المتعارف عليه قد انتهت". لقد قيل، في تلك الأيام، ان الموقف الأميركي تعرض ل "أسرلة" كاملة وبالمفهوم اليميني المتطرف للكلمة.
رابعاً - لم تنفذ الوعود التي كانت اعطيت للفلسطينيين، غداة أزمة المبعدين، من أجل حضهم على استئناف المفاوضات. وبخلاف ذلك زاد الحصار السياسي والمالي على نحو يوحي بأن المقصود منه دفعهم الى حافة اليأس.
خامساً - لا يمكن تفسير حجم الاعتداء الاسرائيلي على لبنان انطلاقاً من "اتفاق الكاتيوشا" التي جرى التوصل اليه عشية جولة وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر في المنطقة. كانت أهداف العدوان متشعبة. وأصبح في الامكان اليوم بعد انكشاف أمر المفاوضات السرية ومدى التقدم الذي كانت أحرزته عند حصول القصف الاسرائيلي الواسع وغير المسبوق، أصبح في الامكان القول ان أحد الأهداف هو توجيه رسالة الى سورية لئلا تعترض لاحقاً على ما يتم الاتفاق عليه بين الفلسطينيين والاسرائيليين. لقد كانت واشنطن على علم بهذا العدوان وشجعته فهل يعقل ألا تكون موافقة على اهدافه السياسية وألا تكون مطلعة على ما يدور في أوسلو؟
سادساً - زار وارن كريستوفر المنطقة بعد العملية الاسرائيلية في لبنان. وصل من أجل تنظيم وقف اطلاق النار في جنوب لبنان ومن أجل البحث في مصير الرد الفلسطيني على المذكرة الأميركية المقدمة في الجولة العاشرة. وأدى الرد الفلسطيني الى اشتعال أزمة الوفد المفاوض ولكن في الوقت الذي اطفئت هذه الأزمة جرى تمرير الرد الفلسطيني الذي يتضمن، للمرة الأولى في وثيقة رسمية، اقتراح "غزة - أريحا أولاً". وتسلم كريستوفر الرد ومن المؤكد انه ناقشه مع رابين. وهنا ثمة احتمالان لا ثالث لهما: اما ان رابين وكريستوفر تناقشا في المذكرة الأميركية والرد الفلسطيني وتطرقا الى أوراق عمل وتعديلات واقتراحات تتناول كلها قضية "انتقال السلطات" و"المرحلة الانتقالية في الضفة والقطاع" متجاهلين تجاهلاً كاملاً ما ورد في الاقتراح الفلسطيني عن "غزة - أريحا أولاً"، واما انهما تطرقا الى هذا الموضوع بالتفصيل واستمع الوزير الأميركي من رئيس الوزراء الاسرائيلي الى شرح واف للمفاوضات الخلفية والشوط الذي قطعته، واقتراب الطرفين من التوقيع على اتفاق تاريخي بينهما. لقد كانت "وثيقة أوسلو" شبه جاهزة في ذلك الوقت، ويستبعد جداً ان يكون رابين مهتماً بوضع كريستوفر والجانب الأميركي في موقع سخيف الى هذا الحد حتى ان الوزير الأميركي وقبله دنيس روس يفاوض في موضوع في حين ان القضية كلها هي في مكان آخر. لا يمكن رابين ان يهزأ من الأميركيين.
سابعاً - زار كريستوفر اسرائيل ثم توجه الى سورية ثم عاد الى تل أبيب ومنها الى دمشق ثانية، ولم تكن زيارته الثانية لدمشق ذات موضوع. ولم يعلن سوى انه حمل اسئلة وعاد باجوبة. وليس سراً ان "اتفاق الكاتيوشا" كان انتهى. وليس من باب المغامرة القول ان عودة كريستوفر الى سورية هدفها الايحاء بأن الجولة الحادية عشرة ستشهد اختراقاً على المسار السوري - الاسرائيلي، وهذا الايحاء يكفي وحده لدفع ياسر عرفات نحو مغادرة آخر تحفظاته والاندفاع نحو التوقيع على الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي، وهو الأمر الذي حصل في 20 آب اغسطس الماضي.
وقد تكشف الأيام لاحقاً ان الوزير الأميركي وضع المسؤولين السوريين أيضاً في اجواء "أوسلو" وان هذا ما يفسر كلام الرئيس حافظ الأسد اللاحق عن حق الفلسطينيين في التقدم نحو حل والمعارضة الهادئة والمعتدلة التي أبدتها سورية حيال الاتفاق الاسرائيلي - الفلسطيني: اعتراض على الانفراد وليس على المضمون والقول ان من حق الفلسطينيين اختيار الطريق التي يرونها مناسبة.
تقود هذه المقومات كلها الى طرح السؤال الكبير: هل كانت واشنطن على علم بتفاصيل المفاوضات الاسرائيلية - الفلسطينية ما قادها الى انتهاج سياسة "ليكودية" ترمي منظمة التحرير في أحضان حزب العمل؟ الجواب مهم لأنه يضيء على السياسة الأميركية في المنطقة ويكشف ان انحيازها الى اسرائيل ربما كان أكثر مما ينسبه بعضهم اليها. فاما ان الولايات المتحدة كانت تعلم من الجانب الاسرائيلي ومن الجانب المصري الذي كان الفلسطينيون يبلغونه بكل تقدم وتتواطأ، وهذه مصيبة. واما انها كانت تواكب من غير اطلاع كاف على التفاصيل، وهذه مصيبة أعظم لأنها تعني أنها أوكلت لاسرائيل الملف الفلسطيني وتعقيداته والحلول الممكنة له.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.