مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    محترفات التنس عندنا في الرياض!    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    على يد ترمب.. أمريكا عاصمة العملات المشفرة الجديدة    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    الشركة السعودية للكهرباء توقّع مذكرة تفاهم لتعزيز التكامل في مجال الطاقة المتجددة والتعاون الإقليمي في مؤتمر COP29    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    المالكي مديرا للحسابات المستقلة    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    أسرة العيسائي تحتفل بزفاف فهد ونوف    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    أكبر مبنى على شكل دجاجة.. رقم قياسي جديد    استعادة التنوع الأحيائي    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    العريفي تشهد اجتماع لجنة رياضة المرأة الخليجية    أجواء شتوية    المنتخب يخسر الفرج    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    قراءة في نظام الطوارئ الجديد    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    الرياض .. قفزات في مشاركة القوى العاملة    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    الذاكرة.. وحاسة الشم    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    إرشاد مكاني بلغات في المسجد الحرام    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" تنشر على حلقات مفكرة الفنان الراحل الكبير . محمد عبدالوهاب في أوراقه الخاصة : الأخيرة
نشر في الحياة يوم 26 - 07 - 1993

* الموسيقى العربية كالاخلاق العربية ليست لها خطوط واضحة
* لا بد أن يتوافر في الفنان "جهاز نقدي" يوجه مسيرته لكي ينجح
* التلحين موهبة والتوزيع الموسيقي تصنعه المعاهد و... جهل الموزع بقواعد التوزيع عندنا خسارة كبيرة
محمد عبدالوهاب بقلم محمد عبدالوهاب. هكذا يمكن اختصار مضمون الاوراق الخاصة للفنان الراحل التي تنشرها "الوسط" على حلقات. هذه الاوراق لم تنشر من قبل اذ لم يكن عبدالوهاب راغباً في ان يطلع عليها احد طوال حياته، وهي بخط يده. وقد اوصى عبدالوهاب زوجته السيدة نهلة القدسي بتسليم هذه الاوراق الى الكاتب والشاعر المصري فاروق جويدة الذي امضى اشهراً في قراءتها واعدادها للنشر. وتكتسب هذه الاوراق اهمية خاصة اذ انها تكشف جوانب غير معروفة من حياة عبدالوهاب كما تكشف آراءه في الناس والمشاهير والحياة والحب وأمور ستفاجئ الكثيرين من محبي فنه.
"الوسط" اتفقت مع الكاتب فاروق جويدة على نشر جزء كبير من هذه الاوراق على حلقات. وفي ما يأتي الحلقة التاسعة والاخيرة:
يوجد بيننا من يتساءل لماذا لا يفعل الملحن العربي ما يفعله الملحنون في الغرب. ففي الغرب يوجد ملحنون لا يوزعون الحانهم بل يوزعها موزع آخر. فلماذا ننتقد ذلك اذا حدث في مصر.
وأقول في الغرب يعيش الملحن والموزع في بيئة واحدة ويسمعان الحاناً واحدة. وحياتهما الاجتماعية واحدة. واحساسهما وشعورهما وتربيتهما واحدة. لذلك عندما يوزع احد الغربيين لحناً لآخر فالشعور واحد والارتباط واحد. اما نحن في مصر فالملحن العربي ذو الاحساس العربي منفصل عن اخيه الذي تعلم التوزيع الغربي. فنحن نعطي الحاننا لموزعين اجانب حتى لو كانوا مصريين لم يؤمنوا بالبيئة العربية ولا بالمشاعر العربية، ولا بالتراث العربي. وعندما نسمع توزيعهم لاعمالنا نشعر بانفصالها عن اللحن الاصلي، لأن الموزع يريد اثبات علمه فيحشي الجملة اللحنية "الورات" لابراز عضلاته العلمية من دون ايمان منه بما وراء هذا اللحن من عمق بيئة واحساس متفرد.
والموزع المقيم في مصر لم يندمج في بيئته المصرية، وكل ما يسمعه هو الموسيقى الغربية، انه انسان ذهب الى اوروبا باختياره وربما عن طريق وساطة ولم يستمع الا الى موسيقى غربية، ولما حضر الى مصر ظل غريباً. اما الموزع والملحن الغربيان فيستمعان من طفولتهما الى موسيقى واحدة. هي موسيقاهم.
ولهذا لا يزال التوزيع الموسيقي في مصر عاجزاً عن مهمته المثلى، فهنا نعتبر ان التوزيع تحلية للحن الاصلي وليس جزءاً منه.
وأنا اعتبر ان التوزيع السليم جزء من اللحن بحيث اذا حذف هذا التوزيع اشعر بأن هناك نقصاً ما وان اللحن لم يتم بصورة كاملة.
وفي مصر يعتبرون اللحن مثل الشقة والتوزيع عبارة عن كرسي هنا وكرسي هناك، وفازة هنا وفازة هناك، وستارة دانتيل على الشباك. وربما صارت الشقة اجمل لو اننا لم نحشر هذه "الحليات" في هذه الاماكن، لذلك اريد ان يكون التوزيع عضواً من اعضاء جسم اللحن كجسم الانسان مثلا ذا فقد الانسان رجله او يده او انفه او اذنه او عينه يحس الناس ان الانسان الذي امامهم نقص فيه شيء ما. وهذا هو التوزيع السليم يجب ان يكون استمراراً لجسم اللحن وتكوينه بحيث لو توقف التوزيع احس بأن اللحن ليس لحناً كاملاً... وهذا يرجع ايضاً الى تفكير الملحن عندما يلحن فاذا فكر في اللحن ككل ولم يفصل الجملة الاساسية عن التوزيع استمعنا الى لحن لا ينفصل عن توزيعه، لحن له نسيج متماسك سليم.
والسبب في لجوء الملحن العربي الى حشو لحنه بجمل لحنية متعددة وكثيرة، هو عدم ادخال الهارموني او علم التوزيع كما يقولون على الجملة اللحنية.
فمثلاً لو ان هناك جملة او جملتين او ثلاث جمل عزفت كما تعزفها الآن الفرق العربية اي كل آلة تؤدي الجملة كما تؤديها الالة الاخرى تماماً... الكمان مثل القانون مثل الناي مثل الشلو مثل العود كلها متشابهة. لو سمعنا هذه الجمل الثلاث مثلاً واعادوها ثلاث او اربع او خمس مرات لما استغرق سماعها اكثر من دقيقتين او ثلاث على الاكثر. ثم بعد ذلك سنمل قطعاً سماعها وهنا يلجأ الملحن الى تغيير الجملة لجملة اخرى... واخرى، ليستغرق الوقت المطلوب او المعتاد عليه المستمع.
اما اذا دخلت على هذه الجمل الثلاث على الهارموني ففي كل مرة نسمع فيها هذه الجمل سيؤلف الموزع لها مصاحبة هارمونية في كل مرة نسمعها، ويدخل في كل مرة حياة جديدة ودماً جديداً وطعماً جديداً بحيث ان الجمل الثلاث التي استغرق سماعها ثلاث دقائق عند عزفها بالطريقة العربية الموجودة الآن يمكن ان نسمعها من دون ملل لمدة ربع ساعة.
ومن الجدير بالذكر ان الالحان الموسيقية الموزعة هي مثال لقيمة التخطيط للجماعة والتزامها وحسن ادائها. وعندما يضع الموزع لكل فصيلة من الفصائل الالية او حتى لآلة واحدة ما حدد لها اللحن. وعندما نسمع مثلا فصيلة من هذه الفصائل تعزف ما حدد لها من دون مصاحبة الفرقة لها ربما سمعنا شيئاً لا معنى له. شيء تافه لانه لم تصاحبه الفرقة كاملة. كل يؤدي ما حدد له عند ذلك فقط نحس بالجمال الذي لا يتجزأ، نحس بالعلم، والذوق الذي استطاع ان يختار من العلم ما يجسد ويجمل اللحن الأساسي.
والتوزيع اسلوب وذوق في اوروبا غالباً ما يقوم مؤلف الجملة او الجمل التلحينية بتوزيع اعماله الموسيقية لأنه اقدر الناس على فهم ما يليق لعمله من علم الهارموني، لذلك نرى ان اسلوب كل منهم واضح وتعرفه فوراً، كالرحابنة مثلاً لانهم هم الذين يوزعون الحانهم لذلك نجد لهم اسلوباً تعرفه على الفور كأسلوب الاديب او الكاتب المتميز.
واما في مصر فلا يوجد اسلوب واضح للتوزيع الموسيقي حيث يتغير الموزع مع كل لحن بسبب جهل المؤلف الاصلي بقواعد اللحن الهارموني واضطرارنا لاختيار موزع يقوم بذلك في اغلب الحالات.
وسوف تظل الميلودية او الجملة اللحنية التي يقوم الموزع بتوزيع لها هي الاصل والدليل. ويمكن لجملة موسيقية واحدة ان يوزع لها اكثر من توزيع مع عشرات الموزعين وتظل الجملة اي الميلودية هي هي لا تتغير. ومعنى هذا انها الاصل. ودليل آخر اننا اذا اضفنا لجملة موسيقية توزيعاً، وأردنا ان نسمع التوزيع بمفرده من غير الجملة "الميلودية" فسوف لا يفهم السامع منها اي شيء. فهي بالنسبة اليه سمك لبن تمر هندي.
وما دام اللحن الميلودي لا يمكن ان تمسه او تغير فيه فسيظل هو الاصل اما التوزيع فيمكن ان تغيره وتجمله ويمكن ايضاً ان تفسده.
ويستطيع التوزيع ان يبرز محاسن اللحن تماماً كصورة جميلة تختار لها بروازاً او مكاناً يبرز جمالها، اي اطار يزيدها حسناً. ولكن اذا لم نجد البرواز ولا المكان هل تختفي الصورة من الوجود. ابداً... فالصورة هي الخلق الاصلي للعمل الفني، والتوزيع علم يدرس في المدارس، وكل من تعلمه يمكن ان يضع توزيعاً لجملة او جمل موسيقية، كل يختار من العلم حسب ذوقه. لكن لا يمكن لكل من تعلم التوزيع ان يؤلف جملة ميلودية موسيقية او غنائية، لان تأليف الجملة موهبة، اما التوزيع فعلم في كل مدرسة وفي متناول اي انسان، فاذا لم يهب الله لمن يتعلمون التوزيع هبة تأليف الجملة الموسيقية سيظلون يتسكعون على ابواب الموهوبين لان ابداع الجملة الموسيقية موهبة، اما اضافة الهارموني للجملة فهو علم تحصيل.
ومع تمسكي بأن على الموهوب ان يتعلم علم الهارموني حتى لا يضطر الى اعطاء لحنه لمن درس علم الهارموني، وقد يضع هارموني من غير فهم لمضمون الجملة اللحنية، او انه يذهب بعيداً عن تصور واضع اللحن الاصلي. اقول على الرغم من هذا فانه توجد حقيقة لا حقيقة غيرها وهي انه يمكن لأي انسان ان يتعلم الهارموني. لكن لا يمكن لأي انسان ان يبدع جملة موسيقية الا اذا كان موهوبا. والدليل على ذلك انه يوجد مئات المتعلمين والدارسين لعلم الهارموني لكن، ملحني الجملة الموسيقية او الغنائية يعدون على اصابع اليد الواحدة.
ولا يوجد ولا يسمع هارموني من دون ميلودي. لكن يوجد ويسمع ميلودي من دون هارموني والميلودي او ما نسميه الجمل اللحنية لا تدرس في مدارس لكنها هبة. لكن الهارموني يدرس في المدارس والمعاهد.
لذلك فان التوزيع الموسيقي يجب ان يكون مجنداً لخدمة الميلودية وليست الميلودية مجندة لخدمة التوزيع او علم الموسيقى. وهذا يرجع الى شخصية الموزع ومبلغ الدفعة الشعورية التي يشعر بها الموزع نحو الميلودية او اللحن الاصلي. هناك اغنيات نجحت بتوزيع ومن غير توزيع. وأغنيات اتعبها التوزيع وأرهقها وغير من طابعها. كل هذا يدل على مبلغ الشخصية الموزعة ومدى ثقافتها.
والهارموني اصوات مختلفة في مواقعها وبأزمان مختلفة، لكنها لعلم الهارموني علم التآلف وتعزف في وقت واحد، وهذه التركيبات رغم انها مختلفة لكنها نغمات جميلة. وكذلك آلات النقر عند الأوروبيين، فاذا كان هناك مثلاً اربع او خمس او ست آلات نقر، كل آلة تنقر زمناً يختلف عن الآخر كل آلة لها مكانها المختار لها، ولا يشذ عنه بحكم التركيبة الموضوعة بحيث تعزف الآلات النقرية مع بعضها وتعطي معاً شيئاً على الرغم من هذا الاختلاف. ونحن هنا لا نستعمل آلات النقر بصورة محددة فكل واحد يستخدمها على "كيفه".
وبعد هذا كله يبقى الفارق ان الملحن تصنعه الموهبة وان الموزع من صنع المعاهد.
والملحن هو الذي يبدع شيئاً من العدم، والموزع هو الذي يستلهم من هذا الشيء ما يحتاج اليه او ما يضيفه لتجميله.
الملحن هو صانع الصورة، والموزع هو صانع البرواز. فلا يوجد صانع برواز قبل ان يوجد رسام الصورة. والموزع يجب ان يكون له ذوق فلا يضع ما تعلمه في المعاهد للحن من دون ذوق. لكنه يختار مما تعلمه ما يزيد اللحن جمالاً كبرواز الصورة تماماً اذا لم يكن لائقاً بها يشوه جمالها وتكون الصورة من دونه افضل.
لهذا انصح الفنانين العرب الذين يدرسون علم الهارموني في الخارج ان يغيروا مفهوم ما تعلموه عندما يضعون توزيعاً لموسيقانا العربية كمثل من يصنع بذلة لشخص معين ثم يلبسها شخص آخر قبل ان يجعلها صالحة لجسمه، وهذا ما يحدث في معظم الاحيان في توزيع الالحان العربية.
و"الميلودي" او الجملة الاساسية في اي عمل موسيقي او غنائي هي كالوجه في جسم الانسان، والهارموني للجملة الموسيقية هي كأعضاء الجسم، فلا يمكن لانسان ان يصادق اعضاء جسم لكنه يصادق الوجه، فملامحه دائماً في خاطره وهو شاشة العاطفة التي يتعرف الانسان منها على ما في صدر صاحبه.
فالانسان لا يستغني بأعضاء الجسم عن الوجه، كذلك الموسيقى لا يمكن لانسان ان يستمع الى هارموني لجملة "ميلودية" ويستغني بها عن الجملة التي وضع لها اللحن الهارموني، فالجملة الموسيقية غناء او موسيقى، هي التعبير الواضح لاحساس من وضعها وتصادقه في العمل الموسيقي.
وفي بعض الحالات يمكن ان اعتبر التوزيع الموسيقي للحن الاصلي هو عملية اكتشاف. فالذين تعلموا ودرسوا علم الهارموني على مستوى واحد من العلم والمعرفة وعرف كل واحد منهم تفاصيله مثل الآخر، ومع ذلك اعطي جملة موسيقية لاحد الموزعين وأعطي الجملة نفسها لآخر وأجد ان لكل منهما اسلوباً مميزاً. وكل منهما اختار من الهارموني ما لم يختره الآخر فكل منهما ابدع من هذا العلم "التوليفة" التي تناسب هذه الجملة.
اذاً هو وجد لهذه الجملة ما يناسبها باستعداده لاكتشاف المناسب من هذا العلم الكبير. بمعنى ان اختياره فيه ابداع وذوق. كالباحث الكيميائي الذي يكتشف من الاعشاب الموجودة توليفة تعالج مرضاً معيناً. الاعشاب موجودة لكنه اكتشف من مزج بعضها ببعض دواء جديداً انه شيء من الاكتشاف والابداع هكذا الهارموني "ذوق" و"ابداع".
أجمل ما في الموسيقى
أحب الالحان التي فيها اسئلة وأجوبتها، اي ان توجد جملة تسأل، ثم تجيبها جملة اخرى بجواب مقنع. مثل هذا الاسلوب من الالحان يمتع العقل ايضاً. فالفرق بين الانسان والحيوان هو العقل، والعقل دائب السؤال ولا يرتاح الا بالاجابة المقنعة. وهناك تساؤلات مادية وتساؤلات فوق المادية. والاسئلة المادية يشترك فيها الانسان والحيوان. فتساؤل الجوع جوابه الشبع. وتساؤل الارهاق جوابه النوم.
اما التساؤلات العقلية كالمعرفة في كل نواحيها فهي من خصائص الانسان وحده، ولا يهدأ عن التساؤل ولا يرتاح الا بالاجابة المقنعة. وفي الموسيقى ايضاً النوع الرفيع منها هو النوع الذي يحمل الجملة المتسائلة والجملة المجيبة المقنعة والمريحة.
والموسيقى الرفيعة هي التي تخاطب القلب والعقل، لانها اذا خاطبت القلب فقط سرعان ما ينساها مستمعها لأن القلب اي العاطفة لها نزوات والعاطفة مذبذبة دائماً في تغير، والموسيقى التي تخاطب العاطفة اغلبها يخاطب الغرائز السطحية. وأيضاً تزول كما تتغير هذه الغرائز. اما العقل فهو الاستمرارية... التأمل... التفكير.
ولهذا تظل الموسيقى في العقل لأن له ارشيفاً يعبئ فيه ما يحبه ويتذكره كلما اراد، اما العاطفة فهي متغيرة يطير منها ما تحس به بمجرد ان تعيش لحظتها.
ان الموسيقى المخاطبة للعقل تمتع الانسان لأن الانسان عاطفة وعقل، فاذا جمع الانسان بين الاثنين كانت النتيجة بديعة.
في تقديري انه اذا وقفت القيود والاصول بيني وبين فني وحالت دون ان اصل الى الاجمل والاجدد فأنا لا اعيرها اهتماماً ولا آخذ بها على الاطلاق.
وهناك فنان يتمتع بأجهزة اصلاح داخلية، فهو ناقد ومعلم ويزداد خبرة على مر الزمن وفي داخله جهاز لتطوره. كل هذا يوجد فيه، في رأسه في صدره. وفنان آخر تجيء له هذه الاشياء من خارجه فلا بد لناقد ينقده لينتبه، ولا بد له من استاذ ليتعلم، ولا بد له من شيء يوقظه ليتطور. والفرق بين الاثنين كالفرق بين البحر و"البركة". فالبحر هو الذي يصنع امواجه، اما البركة فلا بد لها من احد يقذفها دائماً بالحجارة لتظهر لها امواج لا تلبث ان تتلاشى.
والحقيقة انني لا اهتم في حياتي بأي تقويم او اعجاب جماهيري لأي فنان. بل كنت اهتم بالفنان الذي يشدني انا شخصياً. كنت اهتم به واتابعه حتى اذا لم يحظ بأي اعجاب او تقدير من الجماهير.
ان الجمهور الآن يحن الى القديم من الغناء والموسيقى، ويخيل الي ان من بين اسباب ذلك حالة السخط الطبيعي الذي يتولد عند كل انسان على الواقع الموجود. الطبيعة البشرية تفرض السخط على الحياة الحاضرة مهما كانت. وهذا السخط يجبر الانسان على ان يتحسر على القديم فيحن اليه. لا يمكنه ان يعيش في المستقبل لانه غير موجود وليست له معالم واضحة، واما القديم فله معالمه.
الانسان بطبعه ساخط على حاضره، ولهذا يظل يبحث دائماً عن الامس، عن القديم.
والعرب يهاجرون الآن الى مصر للاستمتاع بها ومشاهدة الفنانين وبالاخص سماع المطربين والمطربات المصريين وكان المتعهد يقدم في بعض الاحيان مطربا عربيا ينتمي الى العرب الحاضرين تحية لهم. وهذه الفقرة الغنائية كانت تعتبر ثانوية ووجودها او غير وجودها لا قيمة له. والآن انقلب الحال فأصبح المهاجرون العرب يقدم لهم المطربون غير المصريين كأساس للحفلة كطلال مداح. ومحمد عبده. وأصبحت الفقرات الغنائية من المصريين فقرات ثانوية وربما لا تكون.
والمتعهد لا يهتم بالحفلات ناجحة او غير ناجحة وأيضاً بمن يقدمه. وأخشى مع التعود وعدم وجود البديل ان يتعود المصريون على هذا النوع من الغناء ونصبح مستوردين بعد ان كنا مصدرين.
وكثيراً ما أسأل نفسي ما قيمة هذه اللحظة المؤثرة الممتعة للناس وأقصد بها لحظة اقامة حفلة في التلفزيون او الراديو على الهواء. ما هو التأثير النفسي على الجمهور ان يرى او يسمع حفلة لحظة ادائها. لو اننا سجلنا هذه الحفلة، اي حفلة، كما هي او صورناها بالتلفزيون بكاملها، ثم اذعناها على الناس بعد ذلك والناس تعلم انه تسجيل سوف لا يهتم الجمهور فلا يتمتع. سوف لا يتأثر. لانها ليست اللحظة التي يريدها... لحظة الوجود... لحظة الحضور... لحظة الاحساس والتفاعل بين الفنان والجمهور.
الفنان والبيئة
والفنان اكثر الناس تأثراً بالبيئة ويظهر هذا التأثر في فنه، لأن مشاعره وأحاسيسه كورق النشاف اي سائل يمر عليه يلتقطه بعكس الورق الغلاسيه مثلاً فأي سائل يمر عليه يسقط من فوقه لأنه لا يمتصه. لذلك فان الورق النشاف يستعمل في تنشيف ما يكتب بالحبر.
وهكذا احاسيس الفنان تمتص البيئة واذا غير الفنان بيئته وانتقل الى بيئة اخرى، ومكث فيها وقتاً طويلاً فانه يتأثر بالبيئة الجديدة ويظهر ذلك في فنه يظهر فيه شيء جديد ولو سألته عن هذا الجديد فانه يعجز عن تفسيره.
وهذا شيء طبيعي، فأي انسان يدخل غرفة شديدة البرودة يعطس بعد فترة. وأي انسان يدخل غرفة شديدة الحرارة فانه يعرق. ولهذا فان تأثير البيئة في الفنان عميق للغاية.
ان الالحان العربية منبثقة من اخلاقهم. فالخلق العربي ليست له خطوط واضحة. فالاخلاق العربية تعتمد على المجاملة الكثيرة ذات اللف والدوران والزخرفة الكلامية والفهلوة وسرعة الخاطر وخفة الدم والحس المادي. كل هذا يتجلى في الحاننا. الزخرفة الصوتية المستمرة زخرفة العازف خصوصاً "العزف المنفرد"، حيث نلاحظ في عزفه "الرغى" المستمر في الجمل اللحنية، ومخاطبة الحس المادي ومخاطبة الحس الجسدي بتصفيق الايدي وضرب الارض بالارجل والصفير والزعيق، بعكس الالحان الغربية فانها تحاكي اخلاقهم. الخطوط المضيئة الاعمدة الواضحة. الاعتماد على اسس واضحة اكثر من التفاصيل. انها تشدك الى التفكير البعيد اكبر مما تشدك الى متعة اللحظة الحاضرة، واعترف اننا بدأنا، ولكن امامنا الكثير لنغير خلقنا فتتغير موسيقانا.
والفنان عندي هو الذي ينهار امام الجمال ولا يفكر في اي شيء دونه، فمثلاً لو قتل شخص انساناً هو اقرب الناس الي وأحبهم لدي وذهبت لاقتله وكان هذا القاتل فناناً عازفاً مثلاً او مطرباً مثلاً، وفوجئت بأنه يؤدي فنه وأحسست بجمال تأديته وأقنعني، عند ذلك سأركع على قدميه اقبلهما اعجابا وحباً هذا اولاً. وثانياً: فليفعل الله ما يشاء.
لقد دخل علي شاب طالب في مدرسة التجارة المتوسطة وقال لي انه يحب الغناء ويريد ان يكون مطرباً، وانه في خلاف مع اهله لأنهم لا يريدونه مطرباً وسيضطر لأن يتركهم اذا لم يوافقوا على ان يكون مطرباً.
فقلت له اسمعني صوتك. واسمعني. واذا بصوته قبيح فأحسست بمسؤوليتي اذا انا جاملته فسيترك اهله، ولا ينفع ان يكون مطرباً. فقلت له يا بني الحقيقة ان صوتك قبيح ولا يصلح للغناء. فرد عليّ قائلاً معلهش الماكياج يصلح كل حاجة.
وأذكر اننا كنا نجتمع عند روز اليوسف، وكان بيتها جلسة ادبية وسياسية اجتماعية يحضرها العقاد والمازني وحفني محمود والتابعي وابراهيم المصري وغيرهم. وكان لنا صديق قديم لأولاد الذوات يذهب عندهم ويمتعهم بأساليبه، وكان مشهوراً بمهارته في تقليد الشخصيات الكبيرة المعروفة في مصر فهو يقلد حيدر باشا وحفني محمود والعقاد وتوفيق دياب وطلعت حرب وغيرهم، وكان يغني فقد كان عضواً في نادي الموسيقى، لكن صوته لم يكن جميلاً ورغم هذا كان يصر على الغناء لهم والناس تقبل منه هذا لأن دمه كان خفيفاً.
وذات يوم استدعته روز اليوسف، وكان العقاد لم يره ولكن يسمع عنه ويعلم انه يقلده، وحضر وقلد جميع الشخصيات المعروفة ومنهم العقاد بمهارة وخفة دم بدرجة ان العقاد كاد يغمى عليه من الضحك ثم فاجأنا الصديق بأنه استدعى ثلاثة عازفين كان اصطحبهم معه للغناء وأراد ان يغني وجاملناه طبعاً بالقبول والاستحسان. وغنى لكن غناءه كان قبيحاً وبعد ان انتهى نظر اليه العقاد وقال له يا استاذ. قال للعقاد نعم. وانتظر الصديق الثناء عليه وعلى صوته من العقاد، فقال له العقاد يااستاذ ما دمت بارعاً بهذه الدرجة في التقليد، لماذا لا تختار مطرباً جميل الصوت وتقلده.
والحقيقة اننا يمكن ان نقول: فلان مغن اي انه يحترف الغناء. وقد يكون مغنياً بارعاً او مغنياً قوالا فقط. وهذا لا قيمة له. اما اذا استعملت كلمة فلان مطرب فهنا قد حددت مهنته وقدرته اي انه مغن يطرب، اي انه مغن يملك من الاحساس والصدق ما يجعله يطربك.
لهذا فان العمل الفني الجيد كائن حي لا يموت، وربما لا يحدث شيئاً وقت ولادته ولكن انتظره فسوف يجيء دوره. والعمل الفني الجيد كانسان عبقري ولد. هو الآخر انتظره فسيجيء دوره في يوم من الأيام، ولهذا اقول دائماً اعثر على خاطر جميل تضمن له البقاء.
موزار: العذوبة والوضوح
لا شك ان من اكبر مزايا موزار ان موسيقاه واضحة وجمله الموسيقية مفيدة. والجملة الموسيقية عند موزار لها اول ولها آخر. لها بداية ونهاية.
لذلك فان اجمل ما فيه العذوبة الشديدة والوضوح.
كلمات ومواقف
اعجبني حوار بين عبدالعزيز فهمي ومكرم عبيد وكانا يترافعان ضد بعضهما في قضية كمحاميين، كل عن موكله. وكان مكرم يستشهد في مرافعته بآيات قرآنية كريمة ومكرم كان يحفظ آيات كثيرة من القرآن، وعندما استشهد بالآيات القرآنية في مرافعته قال له عبد العزيز فهمي يا مكرم باشا هل تؤمن بما تقول. اجاب مكرم على الفور اني اقول بما تؤمنون.
الانتماء للوطن مصدره نواح اجتماعية متعددة من اهمها الفن. ولقد فقد الشباب الانتماء الى بلده الى مصر ومن اسباب ذلك الفن، فلا يوجد في الغناء مثلا فن جاد يشبع ويطرب ويهز المشاعر ويرتبط به الشباب. وفي الوقت ذاته فان ظهور ما يسمى بالفن المتطور الذي هو نسخة سخيفة من الفن الأوروبي لم يجد الشباب بدا من الالتجاء اليه. لكنهم لم يجدوا انفسهم فيه. والذي حدث انه لم يجد في الأول معبراً عن واقعه ولم يجد في الثاني ذاته، لهذا ضاع الشباب.
فرقة ام كلثوم
البراعم التي تكتشف عن طريق فرقة ام كلثوم وتنجح، يجب ان تحتفظ بها الفرقة بدلاً من ان كل من ينجح فيها يخرج منها. وهكذا ستظل الفرقة وكأنها دائماً فصل ابتدائي لا يتقدم. لماذا لا تحتفظ بالنابغ منها ويكون للفرقة مستوى رفيع. يمكن للنابغين فيها ان يعملوا بها وفي الوقت نفسه يحترفون الغناء ويظهرون في الحفلات كفرقة رضا مثلاً وسيكون ذلك شيئاً جديداً لأنهم يقدمون في الحفلات انواعاً من الغناء الفردي لا يقدمها احد غيرهم.
اتقِ شر من احسنت اليه، حكمة بليغة عميقة. لكن يمكن لانسان ان يكون الاحسان له مستمراً ويسيء الى من يسيء اليه. اعتقد انه على الاقل لا يقدم على الاساءة خوفاً من انقطاع الاحسان عنه. ولكن عندما ينقطع يتذكر الذل وقلة الاحسان وما عاناه نفسياً من الذل وربما النفاق والخضوع من اجل الاحسان عليه من المحسن اليه فينتقم لنفسه بالاساءة الى من احسن اليه. لذلك جاءت حكمة الرسول بقوله اتقِ شر من احسنت اليه بدوام الاحسان اليه. حكمة بليغة رائعة.
الانسان والحيوان
ميز الله تعالى الانسان عن الحيوان بالعقل وجعل للعقل متعة لا تقل عن متعة الحس. فاذا اراد الانسان ان يتأكد من انه انسان فليسمع الجيد من الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية فاذا استمع وشدته الى آفاقها فليطمئن على نفسه فهو انسان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.