ستة اعوام مضت منذ ان غادرت الطبيبة البريطانية بولين كاتينغ مخيم برج البراجنة، حيث صمدت وسكانه طيلة الحصار الاسرائيلي الذي اطعمهم لحم الجرذان والبغال كما قربانة الصمود والمحبة. ولم تقبل بولين الخروج منه الا بشرط العودة اليه. كان هذا العام 1987: وصلت مطار هيثرو اللندني برفقة الممرضة الاسكوتلندية سو ويتون والممرض الهولندي بن ألوف الذي ربطتها به علاقة حب اراداها سرية، ولم تكشف الا عند زواجهما. في استقبالها هتفت كل بريطانيا، وتهافتت الاقلام والكاميرات حولها منذ ان وطئت قدماها الاراضي الانكليزية. كالرسولة، حملت معها المخيم واهله ابتداء من وجهها الذي شاحت حيويته ورق حتى صار مرآة الذي حدث حتى كلماتها وتصريحاتها الاولى امام جمهرة الصحافيين وعدسات المصورين "اننا عائدون ولم نأت الا لنحمل حقيقة ما حدث ويحدث في مخيمات الفلسطينيين في لبنان". نشر الحقيقة ملأت بولين كاتينغ الدنيا وشغلت الناس وادخلت المخيم بواقعه الانساني والسياسي الى ضمائر مواطنيها الجاهلين بحقائق المجريات والمبعدين عن الواقع الفلسطيني في المخيمات. تسنت لها فرصة المعرفة فلم لا توصلهم اليها؟! اطلّت على الشاشة في اهم البرامج التلفزيونية واكثرها شعبية، واجرت معها الصحافة باختلاف هوياتها واختصاصاتها سلسلة مقابلات. وهكذا حملت بولين كاتينغ رسالة المخيمات منذ ذلك الوقت، واستطاعت ان تصمد في وقفتها الاعلامية بالالتزام نفسه الذي وقفت به في برج البراجنة طبيبة وشاهدة. ونجحت في مسعاها، اذ قطفت وجدان البريطانيين واستحوذت على اهتمامهم بقضية اعتادوا ان يديروا لها ظهورهم. لم تدخل في التطبيل الترويجي او الدعائي، ولم تزح قيد شعرة عن حقيقة ما جرى. لم تلق خطابا ولا مزايدة. اكتفت بالسرد والوصف، وألقت زاد الامثلة والمشاهدات والتواريخ والاحداث، الذي حملته من المخيم، في وجه الرأي العام البريطاني كمن يرش الماء على من اغمي عليه ليستفيق. كل ذلك تم باتزان وتواضع وبساطة. في العام التالي اصدرت كتابها "اولاد الحصار" فعادت الى الاضواء الاعلامية، واعادت مخيمات الفلسطينيين الى ذاكرة البريطانيين. قلّدتها الملكة وسام الپ"أو.بي.اي" OBE، وهو احد ارفع الاوسمة الوطنية. وهكذا فعل رئيس منظمة التحرير الفلسطينية بتعليق "نجمة فلسطين" على صدرها. توّجها مستمعو الاذاعة الرابعة، اكثر الاذاعات شعبية، امرأة العام 1988، وصارت بريطانيا تعرفها باسم "بطلة المخيمات". اما هي فلم تتغير وبقيت متمسكة بقولها المأثور "ان الذين في المخيمات هم الابطال الحقيقيون". قلّما كان لأحد قبلها هذا التأثير المباشر والوامض وقلّما تربّع احد على عرش الاعلام يتحدث عن قضية الشرق الاوسط لفترة طويلة تكاد تكون متواصلة. وتبين ان معركتها على جبهة الاعلام لم تكن طفرة استهلاكية سريعة التلاشي ولا بالونا اخباريا لا يكاد يعوم على السطح حتى يُنفّس. بقيت الصحافة تتابع اخبارها بعد زواجها، وسيرتها، واحوالها الحياتية التي اصبحت جزءاً لا يتجزأ من تاريخ المخيمات. فكانت في كل لقاء تعيد ذاكرة الحصار والمخيمات وتستقي من ازمنتها العصيبة حكمة حياتها الراهنة والتي تجد فيها "سعادة تفوق التمني": فقد تزوجت من الرجل الذي يشاركها الموقف والجهد، وانجبت صبيا وبنتا، تيمي وايما، وانتقلت الى امستردام. وتقول "يا لسخرية القدر ان تأتي مرحلة السعادة والهناء التي اعيشها مع عائلتي من مرحلة زمنية بالغة الصعوبة، كدنا نصبح فيها في عداد الجثث". لم تقطع بولين كاتينغ اتصالتها مع المخيمات، واستمرت في العمل مع جمعية العون الطبي للفلسطينيين "ماب" وفي العام 1990 لم تترك غرفة العمليات في مستشفى الاهلي في غزةالمحتلة الا في الشهر الثامن من حبلها الثاني، حين غادرت وزوجها بن وطفلهما تيمي مسكنهم في المستشفى الى امستردام ليتابع بن اختصاصه في الطب. لكن هذا التغيير لم يتعد كونه جغرافيا، اذ ثابرت بولين في التنسيق مع ماب للعمل على الجبهة الاعلامية. في الصيف الماضي، اصطحبت والديها وولديها وزوجها في زيارة تفقدية الى لبنانوغزةالمحتلة انجزت خلالها مهمة اعلامية اخرى انتهت بفيلمين وثائقيين بثهما التلفزيون البريطاني القناة الثالثة I.T.V خلال اسبوعين متتاليين وكان لهما وقع مؤثر، لا سيما بعد ان عادت المخيمات وحقوق سكانها تتصدر مسرح السياسة الدولية عقب انطلاقة مفاوضات السلام في الشرق الاوسط. وما زالت بولين كاتينغ نجمة في الاعلام البريطاني وان حاولت استبعاد هذه "الشبهة" عن "قيامي بواجبي الطبي والانساني في المخيمات" كما تكرر ابدا، لكن من المؤكد انها تتفوق على سائر نجومه في كونها صارت اليوم مرجعا حين يثار موضوع المخيمات. قرار العمل في المخيمات اثناء وجودها في لندن ليوم واحد اخذت "الوسط" بعضها من برنامج مقابلات صحافية واذاعية نظمها لها تلفزيون غرانادا القيّم على فيلميها الوثائقيين: "عودة الى المخيمات" و"عودة الى غزة"، لتعرّي معها تجربة الحصار والمخيمات على ضوء الحاضر، وعلى مسافة من ماض تتنبه بولين الى انه "ست سنوات مضت تبدو وكأنها الامس". يوم قرأت بولين كاتينغ الطبيبة، المتخصصة في الجراحة ومعالجة الصدمة Trauma في الحالات الطارئة والعاملة آنذاك في مستشفى الملكة ماري في منطقة روهامشايير، اعلان جمعية العون الطبي للفلسطينيين في نشرة الپ"بريتيش ميديكال دجورنل" التي تطلب فيها اطباء وممرضين بريطانيين للعمل في مخيمات لبنان، كانت تسعى الى عمل طبي عبر البحار، "ولا اعرف من الدنيا الا بريطانيا". وقد تحيّرت بين ربط حزائمها باتجاه بيروت او السودان اذ كانت قرأت اعلانا آخر مماثلا. وتستذكر هنا وبدهشة العائد من عالم آخر، كم كانت "ساذجة جاهلة آنذاك" اذ لم تكن تعلم "اي شيء عن تاريخ القضية الفلسطينية" كل ما في حوزتها "ان في لبنان حرباً اهلية لا تطالني مباشرة وأنا مجرد طبيبة جراحة بريطانية". اليوم تدرك ان "الحرب لا محال، تطال الجسم الطبي العامل في ظلها وبمقدورها ان تلفّه بفظائعها". بين زملائها طبيب وممرضة عملا في مخيمات بيروت خلال مجازر الپ82 "لكنهما كانا يؤثران عدم التحدث عن الموضوع، ولما اخبرتهما عن احتمال العمل في بيرت شجعاها على الخطوة وقالا لها بايجابية واضحة: "اذهبي ولن تندمي على ذلك". ولما اتصلت بها "ماب" تدعوها الى حضور مؤتمر صحافي للدكتورة سووي شيي آنغ التي سبقتها "بالمهمة الجراحية" والعائدة من مخيمات لبنان والاراضي المحتلة، لبت الدعوة التي كانت "حدثا في غاية الاهمية لعب دوراً أساسياً في صنع قراري. فحماس الدكتورة سووي والتزامها ومساندتها للفلسطينيين كما طاقتها دفعت بالقرار الى حيز التنفيذ". وربطت الطبيبة الشابة الحقائب وفي نفسها هاجس قلق: هل تنجح في مهمتها وهل تكون "مهنيا على مستوى هذا التحدي"؟ منذ البدء كان القرار متروكا لها. عارضه الوالدان في الفترة الاولى، لخطورة الوضع في بيروت لكنهما لما "اشتدت الحالة وضرب الحصار، تحولا الى مؤيدين وكانا يعبران خلال الايام العصيبة عن كل تشجيع ومحبة". وفي معرض سؤال حول المعتقدات الفكرية او الدينية او السياسية التي كانت كامنة في خلفية قرارها، تحدثت الدكتورة بولين عن ان اهتمام والديها، وحديثهما الدائم عن ضرورة المساواة، ومناصرتهما المتواصلة لقضايا المسحوقين كانت قيما اعتادت سماعها في طفولتها وحداثتها، ولا بد انه كان لها تأثير وانعكاس على طريقة تفكيرها. اول الطريق وتستحضر بولين كاتينغ اول دخولها المخيم الذي بدا "كمتاهة مكتظة بالناس، بيوت تنك وباطون، نصف مكتملة تتأرجح بين وجود مستقر وآخر مؤقت". كانت هذه الصور دلالة واضحة بأن "وجود سكان المخيم وجودا حياتيا طويل الامد علق فيه الاهالي لسنوات بسبب ظروف خارجية مفروضة عليهم، وقد قُطعت عنهم شرايين حياة كريمة، يعيشون دون المستوى الحياتي المتعارف عليه". وما زالت الطبيبة البريطانية تتحدث بنبرة الصدمة الدفينة فتغص حين تعيد وصف "قسوة الحياة الي يواجهها اهالي المخيمات في يومياتهم بحكمة مذهلة!" وتذكر استغرابها "لاعتدالهم في التعبير عن غضبهم، وأذكر ذلك الرجل المسن الذي اتهم بريطانيا بخيانة الفلسطينيين وتسليم فلسطين للقادة الصهاينة، ولما استدرك هويتي سارع الى الاعتذار، وحين بادرته بالقول اني غريبة اي اجنبية اجابني: نحن ايضا معتبرون غرباء هنا". عندما تنفتح امامها بوابات الذاكرة تندفع الصور والتأملات امامها وتعود الغصة اعجابا او تأثرا. وتلح على انها لم تقم بأعمال بطولية "فقد بقيت في ملجأ المستشفى غير معرضة للخطر المباشر، وكانت نساء المخيم هن اللواتي يتسللن عبر ممر الموت لتوفير الخبز، وشباب المخيم هم الذين كانوا يموتون في الخطوط الامامية دفاعا عن الجميع، والاولاد هم الذين كانوا يتعرضون لاقسى المخاوف وللموت احيانا كثيرة، بغية احضار ادوية وضمادات". وتستغرب كيف ان السامعين لا يدركون ذلك ولا يستوعبون كليا حقيقة الذي جرى ويجري! "تعلمت الكثير من اهل المخيم، اشياء لا تختصر بكلمات ولا تقدر بثمن: الكرامة والشجاعة والتضحية والكرم والضيافة والتوق الى الحرية والتقيد بمسلكية خلقية من الصعب المحافظة عليها في ازمنة حرب اهلية مستشرسة، في ذلك الحصار كنت وكأنما محمولة على الأكف، محاطة، بينما كان الاهالي يقفون وقفة صمود اخرى بصبر فاق حدود التحمل. ولم تكن هذه هي التجربة الاولى بل حلقة في سلسلة!". نظرة سياسية ومهنية لا تخفي بولين كاتينغ تأييدها السياسي للفلسطينيين وقناعتها بحقوقية قضيتهم، فقد تعلمت التاريخ من افواه من عايشوه وشهدوا مساره، وتعرف اليوم دون ان تشوب يقينها اي شائبة "ان ظلما فظيعا لحق بالفلسطينيين الذين لو كانوا هم المسؤولين عما جرى لليهود لكانت تقف اليوم في الموقع المناقض، الا ان الحقيقة مغايرة تماما لذلك". عادة في اللقاء مع بولين كاتينغ تحاول تجنب الاسئلة السياسية، لكن غالبا ما يوصل الحديث الى تلك العتبة، دون حرج، تطرح كاتينغ رؤيتها في هذا المجال كطبيبة و… مجربة. ولا تستطيع اليوم ان تدعي بسذاجة الامس ان الواقع الصحي في المخيمات مفكوك عن الظرف السياسي، اذ شهدت "كطبيبة بريطانية الاختراق المتواصل الذي تقوم به سلطات الاحتلال في غزة والضفة الغربية". وهي تعي اليوم ان "التدهور الحاصل للمستوى الصحي في كافة المخيمات ناجم عن الظروف السياسية، ولا يمكن تقويم الوضع الصحي من جذوره وبالفعالية المطلوبة دون حل سياسي رغم الجهود التي تقوم بها المؤسسات المعنية والمختصة كالهلال الاحمر الفلسطيني وغيره". واضح ان الطبيبة البريطانية تؤثر التحدث من الموقع المهني والانساني لكن هذا لم يمنعها من تكوين نظرتها السياسية من منطلقات واعية. تقول "ان الفلسطينيين هناك ولن يرحلوا عن ارضهم كما ان الاسرائيليين هناك ولن يرحلوا بدورهم. هذا هو واقع اليوم". لذا ترى ان "على اسرائيل ان تدرك انها جزء من الشرق الاوسط ويتوجب عليها، كي تبقى، ان تتعامل مع جيرانها". وتغطس كاتينغ في تأملاتها لتصر على "حق الفلسطينيين تاريخياً وحقوقياً وسياسياً واخلاقياً في تقرير وتحديد مصيرهم". وفي الختام تشهق متسائلة "بالنهاية من اكون انا لاحدد مصير الفلسطينيين؟ فهم اصحاب هذا الحق وهذا المصير!". تبقى متفائلة لأن حجم ذلك الظلم لا يمكن ان يستمر "ولا بد ان يكون هناك حل، ولكن السؤال هو متى يكون ذلك؟!". ويعود الواقع ليتغلب على الشك فتجد "ان العالم يتجه نحو اقامة السلام وان تثبيت الاعراف الدولية المتعلقة بالحقوق الانسانية صار ضرورة واولوية". اما هي، فمستمرة بالعمل، وجديدها في هذه الفترة يقع ايضا في المجال الاعلامي، وتحدثت عن مشروع فيلم سينمائي يعرض قصة كتابها "اطفال الحصار" تقوم فيه "بدور اشرافي استشاري على سياق السيناريو". اما روزنامة الانجاز فهي غير واضحة بعد، لكن "هناك شبه سيناريو قد تحقق والعمل يسير بهدوء، فالهدف ان يتم العمل باحتراف تجاري متقن". انتهت المدة المسموح بها، وعلى بولين الأم ان تتوجه الى المطار فأمستردام حيث بن وتيمي والصغيرة ايما في الانتظار. "فلورنس نايتنغيل العصر الحديث" كما اسمتها صحيفة محلية، لا تتأخر عن واجبها، خاصة اذا كان الاولاد هم المعنيين. وكان من الطبيعي لما سألتها "الوسط" عن الهواجس المتأصلة في افكارها اليوم، ان تجيب "اكثرها من غزة. واكثرها تعيد صور العنف والقهر اللذين يمارسان على الاولاد".