أين الرائد عبدالسلام جلود؟ ماذا يفعل؟ ما هي مواقفه من "الانفتاح" الليبي الاخير على اسرائيل؟ هذه الاسئلة وغيرها تطرح نفسها بقوة لدى مراقبي الشأن الليبي، خصوصاً ان الرجل الثاني في الجماهيرية او "الرجل الأول مكرر"، كما يطلق هو على نفسه، لم يغب عن ساحة التصريحات والمواقف حتى لو كانت مناقضة لمثيلاتها لدى الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي. فهو دافع عن اسلاميي الجزائر عندما انتقدهم القذافي، ودافع عن المقاومة الفلسطينية عندما هاجمها القذافي، ودافع عن العراق في حرب الخليج بينما اتخذ القذافي موقفاً معتدلاً، وكانت قمة التناقض في المواقف خلال الحديث مع خبراء الاقتصاد والمال والنفط قبل اشهر عندما دافع الزعيم الليبي عن قراره توزيع الثروة النفطية على الليبيين، وتهكم جلود على هذا القرار خلال اجتماعه مع الخبراء انفسهم في اليوم التالي، ووجه انتقادات عنيفة الى السياسة الاقتصادية المتبعة، لم تستطع وسائل الاعلام الداخلية تجاهلها فأشارت اليها. وغاب جلود تماماً عن ساحة التصريحات والمواقف منذ زيارة "الحجاج" الليبيين للقدس المحتلة الشهر الماضي، وتفاوتت التقديرات بالنسبة الى وضعه، فبعضهم اشار الى انه يمارس مهماته كالمعتاد وليس انعزاله "الا من قبيل توزيع الادوار القائم منذ بداية ثورة الفاتح من سبتمبر". وبعضهم يؤكد انه وجه احتجاجاً عنيفاً جداً امام القذافي ومسؤولين ليبيين، الامر الذي ادى الى وضعه قيد الاقامة الجبرية فترة موقتة. وآخرون قالوا انه اكتفى بتوجيه مذكرة خطية الى القذافي ينتقد فيها زيارة "الحجاج" القدس، وانه تلقى المذكرة مجدداً وقد ذيّلها العقيد بكلمة واحدة: "مردودة". ووسط هذه التكهنات تتحدث اوساط ديبلوماسية غربية عن "علاقة وثيقة" بين جلود ومسؤولين اميركيين، على رغم ما يبديه من مواقف "ثورية"، ترجمت دائماً باختياره تكنوقراط وليبراليين للحكومات الليبية التي كان وراء تشكيلها. وتشير الاوساط نفسها الى ان القذافي يعلم تماماً تفاصيل هذه العلاقة وكان يستخدمها في توجيه رسائل، ايجابية او سلبية، الى المسؤولين الاميركيين. الا ان ذلك لم يحل دون انتشار تيار جلود في معظم اجهزة الدولة الوزارات، الجهاز الديبلوماسي، الامن، اللجان الثورية وهو الانتشار الذي يسبب قلقاً دائماً، ويقال انه من الأسباب المهمة التي تحول دون سفر الزعيم الليبي الى الخارج في فترات التوتر السياسي، ومن ذلك عدم مشاركته في اعمال القمة الافريقية التي عقدت في القاهرة في 27 من الشهر الماضي على رغم ان اجتماعات عدة كانت مقررة بينه وبين قادة افارقة. بطاقة شخصية ولتقويم حجم التوقعات وصحتها لا بد من الاحاطة بكل خلفية العلاقة بين الزعيمين الليبيين. في 27 آذار مارس 1970 طلب السفير الروسي آنذاك لدى طرابلس مقابلة السيد فتحي الديب المبعوث الخاص للرئيس جمال عبدالناصر الى ليبيا، وعقد الاجتماع في السفارة المصرية في طرابلس وكان من بين الاسئلة المباشرة التي طرحها السفير سؤال عن مدى قوة الرائد عبدالسلام جلود في مجلس قيادة الثورة وهل هو الرجل الثاني فعلاً؟ ومنذ ذلك الوقت والاسئلة تتوالى عن شخصية الرائد ودوره ومكانته. الاسم الحقيقي لعبد السلام جلود هو عبدالسلام احمد أجلود، وظل معروفاً بهذا الاسم حتى اطاحة الملكية، وعلى رغم ان قبيلة المقارحة التي ينتمي اليها هي من اكبر القبائل من حيث العدد ولها ثقل اجتماعي كبير في جنوب ليبيا، الا ان عائلته لم تكن تتمتع بثقل العائلات الاخرى في المقارحة. اكمل دراسته الثانوية في سبها جنوب ليبيا والتحق بالكلية العسكرية في بنغازي عام 1963، وتخرج منها عام 1965 برتبة ملازم ثان وكان عدد افراد دفعته 55، وجاء ترتيبه في التخرج ضمن العشرة الاوائل. وحصل اثناء دراسته في الكلية على رتبة نائب عريف، وعين آمراً لحظيرة يقال ان القذافي كان فيها، الامر الذي يعني انه كان متفوقاً بين اقرانه الطلاب. والتحق جلود بعد تخرجه بسلاح هندسة الميدان في الجيش الليبي وأرسل عام 1967 في دورة عسكرية الى مدرسة فورث بيننغ في اميركا سبقتها دورة لغة انكليزية في مدينة سان انطونيو في ولاية تكساس. وعندما عاد الى ليبيا عمل ضابط هندسة في معسكر جالو في الجيش الليبي حتى اطاحة الملك في ايلول سبتمبر 1969. وتزوج جلود قبل الثورة مباشرة من فتاة تنتمي الى عائلة العقاب من مدينة طرابلس. ثم تزوج بعد الثورة من فتاة تنتمي الى عائلة الارزرملي المعروفة في طرابلس. وتفاوتت الآراء في شخصيته خلال مرحلة الدراسة وبداية الانخراط في الحكم، فرفاق له انتقدوا "حبه الجارف" لحياة الترف والرفاهية، لكنهم اشادوا بتفوقه في مجال الدراسات العسكرية، وبذكائه وقدرته الجيدة على استيعاب اكثر المواضيع تعقيداً، ويقول فتحي الديب في كتابه الذي منع في ليبيا "عبدالناصر وثورة ليبيا" ان جلود "ذكي، يتميز بالقدرة على الاستيعاب، ظاهره العنف والشدة والحزم وباطنه طيبة تصل في بعض الاحيان الى حد براءة الطفولة، يصدق كل ما يقال له اذا كان صادراً عمن يثني عليه، سريع الانفعال والتأثر بالبيئة المحيطة، وبقدر سلامة اتجاه العناصر التي تحيط به وتقدم له المشورة الصحيحة، تكون آراؤه وقراراته سليمة والعكس صحيح. يعيبه ضعفه الكامل امام غرائزه وتربطه بالعقيد القذافي صلة قوية ومتينة ويحمل له تقديراً شخصياً واضحاً". وفي ما خص العلاقة بين القذافي وجلود، فانها تعود الى سنوات الدراسة في سبها. وقال القذافي انهما اشتركا معاً في تنظيم تظاهرة احتجاج في تشرين الأول اكتوبر 1956. وعليه يعتبر جلود من اقدم زملاء القذافي من العسكريين ومن اعضاء مجلس قيادة الثورة. وذكرت مصادر ليبية بأن لقاء عقد بين السفير الاميركي السابق في طرابلس ديفيد نيوسوم والقذافي وجلود في منطقة آثار جرمة عام 1968، استكمالاً لاتصال جرى مع جلود في اميركا عام 1967. "الرجل الثاني" وأطلق على جلود لقب "الرجل الثاني" في ليبيا بعد الثورة مباشرة نتيجة المهمات الأساسية التي اسندت اليه ومنها: 1 - رأس اول وفد ليبي قام بزيارة رسمية الى الخارج بعد الثورة حتى قبل اعلان اسماء اعضاء مجلس قيادة الثورة وهو الوفد الذي زار مصر واستقبله الرئيس عبدالناصر. 2 - كلّف جلود رئاسة اللجنة التي فاوضت الحكومة الفرنسية تشرين الأول/اكتوبر - تشرين الثاني/نوفمبر 1969. على شراء 100 طائرة "ميراج - 5". وكان مسؤولاً عن توقيع معظم صفقات السلاح، خصوصاً صفقة الغواصة SX - 605 بمبلغ 7 ملايين دولار اميركي في 5 أيار مايو 1970. 3 - رأس جلود الجانب الليبي في محادثات جلاء القوات البريطانية عن قاعدة العدم في طبرق في كانون الأول ديسمبر 1969. 4 - رأس الجانب الليبي في محادثات جلاء القوات الاميركية عن قاعدة ويلز في طرابلس في كانون الأول 1969. 5 - قاد مفاوضات مع شركات النفط الاميركية منذ عام 1970 في شأن الامتيازات النفطية والانتاج والاسعار والتأميمات، وأقام خلالها علاقات حميمة مع صاحب شركة "اوكسيدنتال" الاميركية للنفط آرموند هامر يهودي، وبقي مشرفاً على قطاع النفط حتى آب اغسطس 1982. 6 - ترأس الجانب الليبي في المفاوضات السرية مع الحكومة الايطالية لتعويض الايطاليين الذين ابعدوا عن ليبيا في تشرين الأول 1971 ممتلكاتهم. 7 - عين جلود وزيراً للداخلية والمال والصناعة في الوزارة التي رأسها القذافي بين كانون الثاني يناير 1970 وتموز يوليو 1972، ثم تولى رئاسة الوزارة بين تموز 1972 وآذار 1977، وبقي طوال هذه السنوات يشرف اشرافاً كلياً ومباشراً على قطاعات النفط والصناعة ومعظم مشاريع التنمية، خصوصاً الاسكان والمواصلات والنقل والزراعة. كما كان حريصاً على انتقاء وزرائها من بين الذين يدينون له بدرجة عالية من الولاء الشخصي من امثال جاد الله عزوز الطلحي وعمر المنتصر وجمعة الاربش وعبدالمجيد القعود. 8 - بعد نصيحة النظام المصري في آب 1970 بشراء السلاح من الاتحاد السوفياتي نشط جلود في توطيد العلاقات الليبية - السوفياتية حتى اعتبر "رجل موسكو في طرابلس". 9 - تولى استقبال قادة الدول في مطار طرابلس بعدما قرر القذافي التخلي عن هذه المهمة. 10 - شارك في غالبية مشاريع الوحدة التي دخل فيها القذافي مع عدد من الدول العربية منذ 1970. 11 - لعب دوراً اساسياً لاقامة "تنظيم سياسي" في ليبيا، بدءاً من تجربة "التنظيم الشعبي" كلف الاشراف على اقامة التنظيم وكل ما يتعلق به سواء بالنسبة الى ميثاقه او انتقاء الاعضاء او اسلوب التنفيذ مروراً بالاتحاد الاشتراكي العربي الذي تولى جلود امانته العامة بعد تورط الرائد بشير هوادي في الانقلاب الفاشل في آب 1975 وانتهاء بتجربة اللجان والمؤتمرات الشعبية اذ كان عضواً في الامانة العامة لمؤتمر الشعب العام 1977 - 1978. 12 - رأس حركة اللجان الثورية التي اسسها القذافي عام 1978. وعلى رغم سيطرة الزعيم الليبي الكاملة على هذه الحركة الا ان جلود استطاع ان يقيم علاقات متينة مع عدد من عناصرها. 13 - على رغم عدم تسلم جلود اي منصب محدد في القيادة العامة للقوات المسلحة الا ان القذافي كلفه مهمة الاشراف على ادارة العمليات العسكرية مع مصر في تموز 1977، وحصل اثرها على رتبة "ركن" وكذلك الاشراف على المعارك مع القوات التشادية عام 1986. 14 - لم يتردد جلود طوال هذه السنوات، مستفيداً من المواقع التي احتلها، في دفع اعداد كبيرة من ابناء قبيلة المقارحة التي ينتمي اليها الى الانخراط في القوات المسلحة وأجهزة الامن والاستخبارات. ونجح من خلال المناصب التي شغلها في اقامة علاقات وطيدة مع عدد كبير من التكنوقراط في كل الوزارات والادارات والهيئات والمؤسسات الليبية. تحتل قبيلة المقارحة المركز الثالث من حيث العدد في الجيش والاستخبارات واللجان الثورية بعد القذاذفة والورفلة، وتعتبر من القبائل القليلة التي وزع النظام السلاح على ابنائها. 15 - اقام علاقات جيدة مع شخصيات وقيادات في كثير من الدول خصوصاً، ايطاليا وفرنسا والفاتيكان وتركيا والهند والصين ويوغوسلافيا وسورية وروسيا ومعظم دول اوروبا الشرقية سابقاً. معاقبة... واهانات وعلى رغم هذه المهمات التي وضعته في المركز الثاني في الدولة، الا ان المركز الأول القذافي نجح مراراً في ضرب صورة جلود، وتقول مصادر كانت قريبة جداً من الرجلين ان جلود الزم عدم مغادرة منزله مرات، كما الزم البقاء في معسكرات لاعطاء محاضرات ودروس من قبيل الابعاد الاجباري. وتشير الى تعرضه لكلمات مهينة وجهها اليه القذافي في مناسبات عدة وصفه فيها بأنه "مكروه ولا يقدر المسؤولية". وغمز في قناة سيرته الشخصية. تحديداً في خطب للقذافي القاها في احتفال الضباط الوحدويين الاحرار عام 1978، وخطابه الذي القاه في 7 تشرين الأول 1989. وأبعد جلود في آذار 1977 عن منصب رئيس الوزراء وفقد كل "صفة رسمية" في هيكل الدولة منذ ذلك التاريخ عندما حل مجلس قيادة الثورة اثر اعلان ما سمي "سلطة الشعب"، ويقال ان القذافي فرض عليه عندما كان رئيساً للوزراء ان يبقى بين لبنان وسورية عام 1976 مدة ثلاثة اشهر متواصلة بحجة تكليفه متابعة تطور الموقف بعد اندلاع الحرب في لبنان، وان الامر تكرر عام 1986 حين مكث في سورية فترة طويلة. وفي سياق توتر العلاقات ايضاً، تولى العقيد خليفة احنيش في ايار مايو 1198 بناء على تعليمات القذافي ابن عمه، التخلص من عناصر كثيرة من قبيلة المقارحة داخل القوات المسلحة وأجهزة الامن بالقتل او الابعاد، في ضوء ما اعلن آنذاك عن كشف محاولة تمرد سميت "محاولة المقارحة". وأبعد جلود عن الاشراف على قطاع النفط ابعاداً شبه كليّ منذ آب 1982 وخلفه في منصبه العقيد حسن اشكال ابن عم القذافي ايضاً الذي اغتيل عام 1985. كما تعرض جلود نفسه لمحاولة اغتيال بعد الغارة الاميركية في نيسان 1986 ما أدى الى مقتل احد مرافقيه. وأكد هذه الحادثة العقيد يونس بلقاسم الذي كان احد القيادات المهمة في الاجهزة الامنية قبل ابعاده. ويشير مراقبون الى واقعة مهمة حصلت بعد عملية باب العزيزية التي استهدفت القذافي شخصياً ونفذتها عناصر تنتمي الى "الجبهة الوطنية لانقاذ ليبيا" المعارضة اذ حرص الاعلام الليبي على توزيع شريط مصور لخطاب القاه القذافي امام جنود في معسكر باب العزيزية حمل فيه على "الجبناء والمتخاذلين" و"الكلاب الضالة" و"المسؤولين المقصرين" و"عملاء اميركا"... الخ، ولم يظهر خلفه طوال القائه الخطاب سوى الرائد جلود الذي بدا ممتقعاً. وحرص المصورون على توجيه الكاميرا اليه عند كل جملة انتقادية للقذافي. شكوى واحتجاج ولم يترك جلود باباً للشكوى والاحتجاج والانتقاد الا طرقه. وجاء في كتاب فتحي الديب الذي عايش اعضاء مجلس قيادة الثورة يومياً ان جلود عارض القذافي عندما اراد شراء سلاح من السوق السوداء عام 1970 صفحة 196، وان اشاعات بدأت تتردد عن خلافات بين الرجلين ادت الى تأويل سفر الرجل الثاني الى القاهرة 11 آذار 1970 بأنه ابعاد له ص 208، وشكا من طريقة القذافي في التعامل مع اعضاء المجلس في المحاسبة والتعنيف، الامر الذي ادى الى سفر كثيرين منهم الى الخارج من باب الاحتجاج، ما دفع العقيد الى اتخاذ قرار بعدم سفر اي عضو في مجلس القيادة من دون اذن خطي منه ص 236، وان نقاشاً صاخباً دار بين الرجلين في جلسة 19 ايار 1970 ص 245، وان جلود اعترض على اشادة القذافي في خطاب القاه في 13 حزيران يونيو 1970 امام مجلس الشعب المصري بپ"الموقف الايجابي لسورية والعراق"، وانتقد تورطه في مهاجمة المنظمات الفدائية الفلسطينية ص 281، وان جلود وعضو مجلس القيادة النقيب محمد المقريف قتل لاحقاً انسحبا من اجتماع برئاسة العقيد لتقويم رحلته الى عدد من دول المشرق العربي في 14 تشرين الثاني 1970 ص 282، وان "الصدام بين العقيد وجلود وصل الى مراحل خطرة كادت ان تودي بوحدة المجلس" ص 185 اثر الخلاف على التشكيل الوزاري واتهام جلود القذافي بتأخير اعلان الحكومة. والى كتاب فتحي الديب، تجمع مصادر اخرى، نقلاً عن مسؤولين ليبيين سابقين ان جلود انفجر غاضباً خلال ترؤسه اجتماع مجلس الوزراء عام 1973 اثر اعلان القذافي ما سماه "الثورة الشعبية" في نيسان من ذلك العام، وتحدث بانفعال عن دوره الرئيسي في الثورة قائلاً: "ان كل الخطوات التي نفذت منذ ثورة الفاتح تم الاتفاق عليها باستثناء امرين هما الاسلام اي التوجه الاسلامي للقذافي الذي عبّر عنه خلال السنوات الأولى للثورة والثورة الشعبية". وتلفت المصادر نفسها الى المؤتمر الصحافي الذي عقده جلود بعد الغارة الاميركية في نيسان 1986، اذ سئل عن مكان اقامة القذافي الذي لم يكن احد يعلم مكان وجوده حتى تلك اللحظة فأشار باصبعه الى ارض القاعة التي كان جالساً فيها في مخيم باب العزيزية، ما ادى الى تفسير هذه الحركة سلباً من بعض المحيطين بالعقيد معتبرين انها ايحاء بالتخفي والهرب خلال الغارة. وتقول المصادر: "في بداية تطور ازمة الطائرتين وتحديداً خلال شهر كانون الأول 1991 خاطب جلود اجتماعاً ضم عدداً كبيراً من اعضاء اللجان الثورية بقوله: أنا لست الرجل الثاني في السلطة... أنا الرجل الأول مكرر، معيداً الفقرة الاخيرة اكثر من مرة". وتشير الى جملة من التناقضات "الميدانية" في العلاقات، ففي حزيران 1982 اجتمع جلود بعناصر اللجان الثورية في بنغازي واتهمها بالتهاون وغياب روح الثورية وعدم ولائها للثورة. وتبعت هذه الزيارة حملة اعتقالات شملت بعض العناصر المحسوبة على القذافي امثال الطيب الصافي. ومع ظهور "الضائقة الاقتصادية" في تلك المرحلة، دافع جلود والطلحي وكان الاخير اصبح رئيساً للوزراء عن المقترحات المتسمة بالشدة والداعية الى التقشف امام مؤتمري المرج وطرابلس، فتصدت لهما عناصر من اللجان الثورية محسوبة على العقيد واتهمتهما امام وسائل الاعلام بپ"تخريب الاقتصاد وعدم الاكتراث بمعاناة الشعب الليبي". وتوضح المصادر ان لقاءات سرية عقدت عند الحدود المصرية - الليبية من اجل تقريب وجهات النظر بين البلدين وحل المشاكل العالقة بينهما شارك فيها من الجانب الليبي خليفة احنيش وعبدالله السنوسي، وفي الوقت الذي بدا ان الطرفين توصلا الى ما يشبه الاتفاق اذا بالرائد جلود يتدخل فجأة في سير اللقاءات ويضع نهاية غير سعيدة لها. وتذكر انه في ايار 1990، بينما كان القذافي في بغداد اثر القمة العربية التي انعقدت هناك، تناقلت وسائل الاعلام انباء تتعلق بعملية فدائية بحرية قام بها فلسطينيون انطلقوا من الشواطئ الليبية، وهي العملية التي ادت الى توقف المحادثات بين اميركا ومنظمة التحرير، وكان رد فعل العقيد ان سارع بزيارة مصر في طريق عودته من بغداد، ليؤكد للرئيس المصري عدم علمه بتلك العملية، وانها من مسؤولية جلود. كما تشير الى تناقض الموقف من ازمة الخليج عام 1991، فبينما انتهج القذافي موقفاً معتدلاً من تلك الازمة، هاجم جلود الغرب مبدياً استعداد الجماهيرية للوقوف الى جانب العراق في الحرب. وكذلك كان الامر عند احتدام الصراع بين السلطات الجزائرية و"الجبهة الاسلامية للانقاذ"، ففي حين هاجم العقيد الاسلاميين اكد الرائد تحالف الثورة في ليبيا مع التيار الاسلامي والصحوة الاسلامية في المنطقة وفي الجزائر تحديداً تراجع تصريحات جلود في ملتقى الحوار العربي الديموقراطي الذي عقد في طرابلس في 16 نيسان 1992. المعارضة الليبية وفي جوانب التناقض ايضاً، علاقة الطرفين بالمعارضة الليبية، ففي حين لا يترك القذافي فرصة الا ويصفها بأنها مجموعة "كلاب ضالة" ويتعامل معها بمنطق المطاردة والتصفية في الخارج والداخل، لم يسجل على جلود انه تناولها بهذه الحدة. بل يقال انه دافع عنها كثيراً ودعا الى استيعابها من خلال اخذ طروحاتها في الاعتبار، وانه شخصياً يحتفظ بعلاقات مهمة مع بعض اقطابها، الا ان العلاقة بينه وبين التيار المعارض الذي يمثله الرائد عبدالمنعم الهوني سيئة، ويرد المراقبون ذلك ايضاً الى اطار التناقض بين جلود والقذافي فاقطاب كثر في هذا التيار تقربوا من العقيد فترات والتقوه ومنهم الهوني نفسه، وحافظوا على علاقة جيدة بالمقربين منه امثال احمد قذاف الدم الذي تبلغ شقة الخلاف بينه وبين جلود مسافة شاسعة. اضافة الى ان الهوني يطالب في كل بياناته بتسليم السلطة الموقتة في ليبيا بعد رحيل القذافي الى ابو بكر يونس جابر، الامر الذي يثير حفيظة جلود حكماً. وتقول مصادر ليبية مؤيدة للنظام لپ"الوسط" ان ما ذكر سابقاً بغض النظر عن صوابه او عدم صوابه "لا يشكل "تناقضاً" بل ربما كان "من قبيل توزيع الادوار بين مسؤولين كما يحدث في غالبية الدول"، وان هناك مؤشرات كثيرة الى ذلك منها ان جلود لا يجرؤ على اتخاذ قرار، من وزن العملية الفدائية، من دون علم العقيد وان "مواقفه اساساً من النظام العراقي والتنظيمات الاسلامية معروفة فهو يعلن العداء لها في كل مناسبة، كما لا يدل نمط عيشه على تأييده الاصوليين". وتلفت المصادر نفسها الى ان تقاسم الادوار "ليس في الضرورة باتفاق الطرفين، بل ربما حصل من دون موافقة جلود، وهو نوع من اللعبة السياسية او الحالة التي يفرضها القذافي على جلود وغيره من اعضاء القيادة، ولا يملك هؤلاء سوى قبولها ومسايرتها، ورفض الرائد مسايرة هذه الحالة يعني وضعه في صدام معلن مع العقيد قد لا يكون على استعداد له". الا ان مصادر ليبية معارضة للنظام وأخرى محايدة تتفق على وجود "صراع خفي" في معظم الاحيان، لكنه "صراع حقيقي" لم يبلغ درجة الصدام السافر. وترد عدم قيام جلود بعملية حسم لمصلحته الى الاعتبارات الآتية: 1 - ليس مقتنعاً بأن الصراع بلغ درجة الحسم النهائي. 2 - يعتقد بعضهم بأن شخصية جلود القوية ظاهرياً والمترددة داخلياً افقدته قوة الحسم على رغم انه لا يفتقد الموقع وفي متناوله كل مظاهر القوة وامكانات التغيير. 3 - تؤكد مصادر ديبلوماسية غربية ان السبب الحقيقي وراء عدم حسم جلود الصراع يكمن في "علاقاته" التي يبدو انها لا توفر له ضوءاً اخضر للتحرك. اما لماذا لا يحسم القذافي الصراع لمصلحته؟ ترد الاوساط نفسها الاجابة الى الاعتبارات الآتية: 1 - وجود اسرار كبيرة بينهما يعود بعضها الى ما قبل الثورة وبعضها الآخر الى ما بعد الثورة ومنها: أ - اسرار العلاقة مع الولاياتالمتحدة اثناء التحضير لاطاحة النظام الملكي. ب - مصرع النقيب محمد المقريف عضو مجلس قيادة الثورة في آب 1972. ج - مقتل نائب رئيس جمهورية المانياالشرقية اثناء زيارته لطرابلس آذار 1978. د - اختفاء الامام السيد موسى الصدر اثناء زيارته لليبيا آب 1978. ه - الاسرار المتعلقة بالمحادثات مع شركات النفط وجلاء القوات الاميركية وصفقة الاسلحة الروسية... 2 - وجود "تشابك مالي" بين الطرفين والذي انتهى بالاتفاق المشترك عام 1982 على وجوب التوقيع في شكل مشترك على الحسابات الخارجية وهي تقدر ببلايين الدولارات. 3 - رغبة القذافي في عدم معاداة قبيلة المقارحة ومؤيدي جلود الكثر الذين انتشروا في كل اجهزة الدولة على نحو لم يعد ممكناً استيعابه والسيطرة عليه بسهولة. 4 - معرفة القذافي بقوة العلاقات الخاصة لجلود مع الولاياتالمتحدة. الحسم! اين الرائد عبدالسلام جلود اليوم؟ اين هو من قرار زيارة "الحجاج" القدس. ومؤتمر الحوار اليهودي - المسلم - المسيحي ودفع تعويضات لليهود ومنح فرص للشركات الاميركية بپ30 بليون دولار، وأفكار حل ازمة لوكربي؟ هل صحيح انه مستنكف وساخط ويتضامن معه ابو زيد عمر دوردة رئيس الوزراء؟ وهل ينتظر خطوة مجلس الامن في 15 آب المقبل لتشديد العقوبات على ليبيا للافادة من التذمر الشعبي للقيام بمحاولة تصحيحية ما، ام ان القذافي سيفاجئه ويعلن، اما تغييراً حكومياً يبعد فيه جميع الموالين لجلود عن مركز القرار تمهيداً لدخول اللعبة بين الرجلين مرحلة الحسم، واما تخليه هو عن السلطة؟ ... أسئلة كثيرة تعود الاجابة عنها الى التطورات المقبلة التي تحمل احتمالات شتى، الا ان الثابت، استناداً الى رأي المراقبين، هو حصول تغيير واضح في ايقاع العلاقة بين الرجلين قبل نهاية السنة الجارية، اذا لم يحدث، طبعاً، التغيير المتوقع في الوضع السياسي الليبي برمته.