آخر مجموعاته صدرت في بيروت قبل اشهر بعنوان "حجرات"، لكن عباس بيضون حاضر دائماً في المعمعة الادبية، من خلال الاسئلة التي تطرحها قصيدته، على الشعر والحداثة. فالاديب اللبناني الذي ينتمي الى جيل السبعينات، اضاف الى قصيدة النثر، وأدخلها عالماً حميماً "تعشش" فيه الكائنات والاشياء. حول مجموعته الاخيرة وفهمه لعلاقة القصيدة بالسيرة، والشعر بالغنائية، كان لپ"الوسط" لقاء معه نتج عنه التحقيق الآتي: عباس بيضون شاعر على حدة بين اقرانه وشعراء جيله ممن اثبتوا حضورهم منذ مطلع السبعينات. ليس فقط لأن الكتابة عنده غوص في الفصاحة بغية استنفادها بصورة واعية او غير واعية، واستدراج اللغة الى زمن جديد تتقاطع عنده الاصوات وأشكال التعبير، وتتحاور الازمنة والاماكن المتواجهة. ليس فقط لأن تجارب شعرية وفنية بارزة عبرت مصفاة الشاعر فتركت بصمات واشارات غامضة فوق اوراقه المبعثرة لتجعله ابن عصره ولو منكفئاً، وأحد الاصوات الفريدة - المغردة خارج سربها - على خريطة الشعر العربي الحديث البعض يتحدث عن شعره كتباشير ممكنة لما يعرف بپ"ما بعد الحداثة". فالكتابة عند صاحب "الوقت بجرعات كبيرة" و"زوّار الشتوة الاولى" و"نقد الالم" و"صيد الامثال" و"قصيدة صور"، هي قبل كل شيء هروب الى عالم الداخل بهواجسه ومشاغله الصغيرة، وهجرة الى بقعة حميمة تستعصي على اللفظ الخارجي وتفلت منه باستمرار. عالم بيضون الشعري يقوم على ديكور منزلي اليف يعكس لغة الخارج ويعبر عن هزاته وتمزقاته. كائناته تحوم حول ماضٍ مستحيل، يجعل من السيرة "افقاً للقصيدة ومثالها"... تدعونا كي نتوه بين حكايات ومشاهد وعناصر وروائح وأضواء غريبة هي صدى بعيد لحياة اخرى عشناها على غفلة منا في زمن ما. على وقع كلماته وصوره نوغل في شعاب اللغة، لنعود فنلتقي بذواتنا، او ببعضنا البعض، عند باب القصيدة المتبدلة ابداً المتكررة الى ما لا نهاية كالزمن الكارج بجرعات كبيرة. في "حجرات" آخر مجموعاته الصادرة عن "دار الجديد"، يعود عباس بيضون الى تلك السيرة "القاصرة" كعادتها عن الوصول الى اشخاصها الفعليين، ليقترب من "لعنة الولادة من آباء تاريخيين وثقافيين ولغويين". وحول هذه المسألة المحورية في شعره، دار الحوار الآتي: قصيدتك اقتراب من سيرة، تبدأ من ما قبل الولادة: الاجداد، الاعمام، الخالات، العمات، الاشقاء... فضلاً عن الرغبات... - هذا رأي في مجموعتي الاخيرة "هجرات" التي ليست قصيدة واحدة. فالاولى منها هي، اذا جاز التعبير، "تخريف ولادة". وقد تكون ولادتي، وبدرجة اقوى ولادة ابني. ثم انها قد تكون في الحقيقة لعنة ولادة، للذين قد يكونون، بدرهم، حقيقيين وغير حقيقيين، ومن آباء تاريخيين وثقافيين ولغويين. من عناصر الولادة لا تحضر في القصيدة الا اشارات المكان التي ترتد من "الغرفة الكبيرة" والوحيدة التي عشنا فيها في القرية، والتي ولدت فيها اختي، وهي ربما كان مشهد ولادتها مرجعاً مباشراً لكثرة من الصور: "فالعجلة"، مثلاً، كانت المرأة التي تلد، تمسك بها فعلاً. وهذا الارتداد يصل الى اماكن وحياة ومشاهد بدوية ورعوية. اضافة الى قلق الولادة ووساوسها. وبعبارة مختصرة، فان الشخصي في هذه القصيدة ليس صلبها. وقد تكون تقديماً خرافياً للقصيدة الثانية "خنصر العائلة" التي تجد العناصر الشخصية مقصودة فيها بدرجة اكبر. تمويه السيرة التمهيد للسيرة، ثم السيرة التي تطغى عليها الامكنة، فيما الاشخاص، اذا جاز التعبير، يكادون يظهرون وكأنهم اصداء للمكان والبيئة... - السيرة مقصودة، خصوصاً في القصيدة الثانية "خنصر العائلة" التي هي بحث عن سيرة او التماس لمسيرة. فالقصيدة، او الشعر، موجود في اتجاه السيرة. اي ان السيرة افق القصيدة ومثالها ومطلبها. لكن هذه السيرة، بطبيعة الحال، لا تتبع ولا توازي ولا تناظر التسلسل التاريخي والحدثي لحياة ما. والارجح ان البحث عن سيرة في هذا المعنى ضرب من العبث. فالمادة الوقائعية الموجودة في القصيدة، على وفرتها، قليلة للغاية. وهي دائماً محوّلة. فالقصيدة هي اضفاء لسيرة وتطلع اليها. ثم ان ما يمكن ان نراه سيرة في القصيدة محرّف حتى في وقائعه. في القصيدة، مثلاً، تنسب لأهل الأب اشارات هي في الواقع لأهل الأم. فالعمات هن في الواقع خالات. كما ان الاشخاص الذين نعثر عليهم في السيرة، اذا جاز التعبير، هم غالباً في هامش الحياة الفعلية. قد يكونون في سر هذه الحياة وأشواقها، ولكنهم غير موجودين في واقعها. فهناك بصورة مستمرة استدعاء لأشخاص لا سبيل الى تسميتهم، ووجودهم وغموضهم هما من غياب اسمائهم ومن بقائهم على شكل نتف وصفات جزئية ومبتورة. وحتى الاشخاص الذين يوجدون بصلة محددة وبأسماء، لم اصادفهم مباشرة في حياتي. فعمي مثلاً شخص لم اصادفه ابداً، لأنه عاش وتوفي في المهجر، ولم احظ بلقائه ابداً. وجدي الذي يحضر ذكره توفي وأنا في السادسة. هؤلاء الاشخاص، يوجدون، اذن، بأصدائهم وبذكرهم وبمكانهم في الخرافة العائلية. والغريب ان أقرب الناس والذين كتبت هذه القصيدة بوجه من وجوهها لاستدعائهم وللتقرب منهم، لا يوجدون فيها على الاطلاق، الا مموّهين ومستترين بغيرهم او مختلطين بأشخاص وأماكن وأشياء. خذ مثلاً أبي الذي لم يُذكر الا مرة واحدة في القصيدة، مع العلم ان القصيدة كلها في معنى ما، محاولة لاستعادة مكان تخاطب معه. هناك اخي مثلاً الذي لا يظهر الا مموهاً ومختلطاً بعمي. بمعنى ما كانت السيرة دائماً قاصرة عن الوصول الى الاشخاص الفعليين الذين تبحث عنهم. كانت تكتفي فقط بتعليق رؤوس جسور وسلالم للوصول اليهم، او باستدعاء آخرين يمتون اليهم، وفي حضورهم رعب اقل ووهلة أقل من المخاطبين. وقد تكون قصائد الكتاب انشاء بيئة ومكان ملائمين للتخاطب. والقصائد لم تكن بحال قادرة على مواجهة السيرة. كانت تتوسل وتتوسط للوصول الى السيرة التي تبحث عن بيئة لها. فالسيرة كانت اثقل وأشد وطأة وأبعد منالاً من ان تحضر في القصيدة. تطغى على "حجرات" وعلى شعرك بوجه عام، عناصر اللزوجة والرطوبة والروائح النفاذة والسوائل ذات الكثافة... - هذا ما يمكن ان تتحدث عنه انت، اذ لا استطيع الاقتراب مباشرة من السؤال، لكنني احتال للاجابة. لقد كنت شغوفاً باستمرار، بالاشياء التي تتهيأ بدرجة ما من البقع ومن الخربشة وشربكات الخيوط. ربما كانت البقعة التي هي مكان للسديم والرطوبة والاختلاط، قريبة من المكان الذي يبدأ منه شعري الذي هو استدعاء لهيئات او شبه هيئات من بقع ومن مادة عمياء تقريباً، رطبة وكثيفة في الوقت نفسه. على عكس معظم الشعر العربي، والحديث منه في وجه خاص، لا ينقل شعرك المادة وعناصرها كلها الى حضور طيفي ومعنوي يتوخى الرقة والتوله والخفة والتأنق والشفافية والشاعرية والغواية... بل هو على العكس من ذلك يغوص في المادة ويضاعف من ماديتها ويكشف عناصرها ويعرضها للعفونة والفساد واللزوجة... أبهذا المعنى شعرك سلبي؟ - هذا وصف لشعري يحرك قلبي، ويشغفني. وهو عندي، لدى سماعه، يدفعني الى حب شعري، وهو لا يواتيني دائماً. وربما اشكر لك هذه التسرية. اما انه سلبي، اذا افترضنا ان السلبية امر قد لا يلازم بالضرورة الوصف الذي مهد لها، فأنا اشعر بوجود سلبية الى درجة ما في شعري وكلامي فالسلب هو حد مأمون اكثر للكلام، وبه درجة ما من الحرية والتمويه والتخفي. كما اننا في السلب نحسن التنحي عن كلامنا والابتعاد عنه، ولا نبقى في استمرار مسؤولين عنه. ولا يبقى الكلام، في هذا المعنى، وصية شخصية. ثم انه يتراءى لي ان السلب هو مكان للولادة. فاذا كنت تتحدث عن رطوبة ولزوجة، هما في شعري موضع الولادة، فهما ايضاً السلب. فالولادة هنا، بدرجة ما، تجد رحماً ومأوى ومادة اولى. وبالنسبة اليّ تبدو الاشياء في استمرار على درجة من شبه الاستحالة. كأنني اسعى في شعري وكتابتي الى ان استولد شيئاً من شبه الاستحالة هذا. انني ابحث عن الامكان الضعيف لدرجة العدم في الاشياء. ان تعثر مثلاً في مادة خرساء وصلبة على امكان ما للحب. او قل ان الاشياء تبدو في استمرار في حال جدل صعب وفي وجهات ومصادر متعددة، بحيث لا التمس او لا اطلب سوى ان اجد نقطة داخل الجدل وفي مهب المصادر المتعددة. نقطة ممكنة للكلام. وعلى كل حال، فان كسر السلب قليلاً والوصول الى تهويم ايجاب هو ما يبدو لي مغامرة خطرة. فما ان نكسر السلب قليلاً حتى نجازف بكلام ارادي في اتجاه واحد للكلام، بظهور محنّط للكلام، بافتضاح للكلام تنكشف معه ترّهاته وبلاهته. مع ذلك نسعى دائماً للوصول الى آخر حد ممكن من السلب وقريب من الايجاب، بحيث نستطيع ان نسمع من هذا السلب صدى الايجاب. وهذا ما يجعل شعراً كشعري نابياً عن التشخيص وعن الغناء الموصول. فأنا قاصر عن التغني بالاشياء، والعالم عندي ليس موضوعاً للتغني. والتغني يعني تسليماً بالاشياء لا اظنني حاضراً له. ما التمسه، هو ايجاد حياة قليلة وسط الشائك والسديمي والمختلط. او قل التماس ايقاع وسط ذلك كله. انا استنفد نفسي وكلامي في البحث، فلا اجد مدىً واسعاً للمديح والتغني. واذا كان هنالك من مديح، فهو مديح مكسور. انه نبل الحياة في اليأس. من شعره حجرة الفانوس يبرقع الحجرة التي تتقوّس الآن كنور مضلَّع انه ينفخ فيها نفطه الوسخ وبخاره كأن الذي يظهر قَفَا الغرفة وبطانة أشيائها يظهر قليلاً شعر الجدار الرجال ينظرون بعيون ماشيتهم ودماملها ورائحة الجلود توشك ان تهب منها جالسين هناك بلحاهُم وسِحَنِهم التي لحستها الاشباح النساء مصرورات في كومةٍ ينفصل عنها كل لحظةٍ خيالٌ نحيلٌ ليحرك الابريق * * * المدخنة كانت عشاً/ كذلك الطراريحُ وجلودُ الخرفان الاشياء مكرورة/ وها هي تنام في خيطانها الذي يُنقِّل الفانوس/ أدار الغرفة الى ناحية أخرى تاركاً القش ولعاب الحشرات والخيطان تختلط تاركاً على الحائط المظلم/ اشخاصاً وحيوانات من شعر الطريق نفسها عباس بيضون مقطع من مجموعة "حجرات"