تبدو غريبة حياة الفنان رشيد وهبي الذي يخطو عمره في الخامسة والسبعين، ويعتبر من رعيل فن التصوير اللبناني المخضرم بين التقليد والحداثة. ومكمن الغرابة تكاد تلخصه شخصيته الراهنة التي، شأن فنه، تتأرجح بين البلدية البيروتية في قيمها ونظرتها الى الدنيا وبين الخروج عن هذه البلدية المحلية، من غير سابق تصور وتصميم. كأن الأقدار وحدها قادت رشيد وهبي في مسالك الحياة والفن الذي عَلِقَ به ووقع في هواه منذ صغره، فعصفت به ظروف ذلك الهوى، مشرقة ومغربة، تاركة له في منزله القديم الموحش كثرة من اللوحات التي اختطت يده الوانها وأشكالها، فضلاً عن حوالي 15 البوماً ودفتر مذكرات جمع فيها صوراً وقصاصات جرائد وكلمات بخط فنانين وأدباء وشخصيات رسمية زارت المعارض التي اقامها او شارك فيها. الى جانب ما حدثنا به من ذكريات حياته ومنعطفاتها اطلعنا رشيد وهبي على دفاتره القديمة الخمسة عشر، وهي، شأن ذكرياته، تستأهل القراءة لطرافتها وقدمها، ففي الدفتر الذي حوى ذكريات من العام 1962 صورة لرشيد وهبي الى جانب امرأة حسناء الى جانب لوحة للحسناء بريشته. انها مصارعة الثيران الاسبانية أمينة قسيس، قال رشيد وهبة حين سألناه عنها، انها قدمت في ذلك العام الى لبنان بغية الراحة والاستجمام، وهي من اصل لبناني وكانت تدعى امينة عبدالعزيز، فأقيمت لها حفلات تكريمية في مرسمه، وقام هو برسمها، فيما عمدت هي الى التوقيع على اللوحة بدم الثيران، كما ذكرت الجريدة التي اقتطع وهبي قصاصة منها وألصقها الى جانب الصورة. كم هي عاصفة ومليئة بالاهواء واللمعان الحياة التي لم يعشها رشيد وهبي، وتشير اليها ذكرياته اشارات خاطفة. كأنه في ذلك عاش في ظل حياته وزمنه. انا المولود عام 1917 في منزل والديَّ في شارع المحمصاني في محلة الحرج الواقعة في طرف مدينة بيروت، كنت تلميذاً كسولاً في المدارس الكثيرة التي ألحقت بها قبل الحاقي بكلية المقاصد التي كان تُدعى آنذاك مدرسة البنين الاولى، فأصبت فيها النجاح وأصبحت من تلامذتها الأوائل حتى تخرجي منها. لكنني قبل الحاقي بالمدارس كنت تلميذاً لوالدي الشيخ الذي كان رجل دين يعمل في التعليم في مدرسة العلماوي ومدرسة الشيخ نعمان الازهري الى جانب كونه مؤذناً وإمام صلاة في الجوامع. أما والدتي فمن عائلة البالوظة البيروتية القديمة التي كانت عائلة ملاكين. أذكر من طفولتي البعيدة اضواء قناديل الكاز في الليل، وصوت الدلاّل يمر في الصباحات أمام البيت منادياً… واغنيات تصدر عن "صندوق سمع" من اسطواناتٍ تُدار باليد، ومغارة في صخور شاطئ عين التينة في الروشة، كان والدي يأخذنا اليها في العطل للنزهة. وهي المغارة التي استعدتها في لوحة من لوحاتي مطلع السبعينات، فرسمت موديلاً لامرأة تجلس على صخورها. وأذكر ان تلك المرأة - الموديل قالت لي، حين ابديت لها خشيتي من أن تتعبها الجلسة التي اتخذتها امامي في مرسمي كي أرسمها، ان ما يهمها هو ان تظهر جميلة في لوحتي، فقّدرت لها تفهمها لمهنتها ولفني. لا اعرف ما الذي جعلني أميل الى الرسم وأتعلق به في طفولتي. فوالدي كان ابعد الناس عن ذلك الفن وغيره من الفنون، وكذلك كانت عائلتي كلها. والمحيط الذي عشت فيه كان ايضاً بعيداً البعد كله عما يخرج عن مألوف الحياة اليومية البسيطة. ومدرس الرسم في المقاصد كانوا ينتقونه كيفما اتفق ليقضي حصة مع التلامذة يفعلون فيها اي شيء غير الرسم. وعلى ما اذكر لم يكن الجهل بالرسم وحده متفشياً في البلاد. فالرسم، شأنه شأن التمثيل، لم يكن له اسم يُسمى به. لذا حين اتذكر الآن طفولتي لا استطيع العثور على باعثٍ بعينه قربني من ذلك الفن الذي عزلني شغفي به في علّية بيتنا وصرفني عن اللهو واللعب. وربما كان شغفي بالرسم وعزلتي له من اسباب انكبابي مجدداً على الدرس الى الحد الذي جعلني من التلامذة الاوائل بين 75 تلميذاً في المقاصد. في علّية بيتنا رسمت بأقلام الرصاص الترام الذي كان يمر أمام البيت، ثم رسمت دراجة هوائية. وحين سمعت مرة عمي يقول عن صورة فوتوغرافية انها مرسومة باليد دهشت وشغل الأمر تفكيري: كيف يمكن لصورة فوتوغرافية ان تُرسم باليد؟! أما قيامي برسم عصفور على ورقة علقتها على جدار عليّتي - وهو العصفور الذي كنت أراه يُسقط حبات من البلح المتمّر من نخلةٍ في حديقة الجيران - فأغضب والدي الشيخ مني وأمرني بتمزيق الورقة، اذ كان يرى رسم او تمثيل كل شيء حي محرماً في الدين، وطالما يستحيل عليّ منح ذلك العصفور الذي رسمته روحاً، مزقت الورقة وجعلت ابكي. ثم لم اعد أدع احداً يرى ما ارسمه وازددت عزلة في علّيتي وانكباباً على الرسم الذي، لشدة تعلقي به، ملأ عليّ الآن ذكريات طفولتي وصباي. فحين اتذكرني راكباً الترام سوف لن اتذكر من المشاهد التي كانت تتتالى امام ناظريّ غير ذلك الرجل الذي كان يجلس امام محله في منطقة الباشورة منكباً على اوراقه يرسم عليها بالفحم، فجعلت من ذلك الرجل ذي الرجل المشلولة، وهو من آل شبارو، ومن رسومه محطة يومية انتظر مرور الترام بها. واذا لم تخني الذاكرة فانني كنت دون العاشرة من عمري لما مزقت مرة كتاباً عتيقاً من كتبي المدرسية وصنعت من اوراقه ستارة عكست عليها ضوءاً وأتيت بأولاد اوقفتهم خلف الستارة لكي يبدأوا بالتمثيل حين افتحها. ثم لم ألبث ان تعلقت بالعزف على آلة الكمان التي كان صديق لي في المدرسة يعزف عليها وهي من ماركة "سترادي فاريوس"، فاشتريت واحدة مثلها من محل في منطقة الزيتونة وجعلت اعزف عليها ألحان اغنيات لعمر الزعني ويحيى اللبابيدي كانت شائعة آنذاك. ولشدة شغفي بالعزف على الكمنجة صرت اتردد على منزل مدرس للموسيقى يدعى خليل مكنية خال الموسيقي توفيق الباشا والفنان التشكيلي امين الباشا الذي كان يقيم حفلات موسيقية، وعمل لاحقاً مذيعاً في الاذاعة. شغفي وسروري بما كنت أرسمه من وجوه نقلاً عن الصور، ومنها لسعد زغلول ويوسف كرم وجبران خليل جبران، حملاني على ان اقصد مصوراً فوتوغرافياً في البلد وسط بيروت التجاري كي يصورها لي على "بطاقات". أدهشت رسومي المصور توفيق البابا الذي نصحني بأن أرسم بالألوان التي كنت اجهلها جهلاً تاماً، فباعني انابيب منها ظللت اياماً اعمل على تحضيرها وخلطها وتجريبها في "محترفي - العلّية" حتى تمكنت اخيراً من استخدامها في رسومي، فكان ذلك فاتحة تعرفي على الالوان وقادني اشتغالي بها الى مكتبة سرسق في باب ادريس التي كانت تعرض في واجهتها مجموعات من "الكارت بوستال" بطاقات بريدية لرسامين عالميين. جعلت اتردد على هذه المكتبة واشتري منها بطاقات اقضي السهرة في تأملها وتفحص الوانها قبل ان اشرع في نقلها. مرة انتقيت بطاقة عليها رسم امرأة تعزف على الكمنجة، وكان انتقائي لها من وحي تعلقي بالموسيقى وعالمها. ولكن صاحب المحل قال ان هذه البطاقة ليست من لوحات الرسامين العالميين الذين كنت اشتري بطاقاتهم لأنقلها. كانت صداقتي بكل من خليل مكنية وتوفيق البابا توثقت على قاعدة الاهواء الفنية التي كانت تجمع بيننا نحن الثلاثة، فصرنا نقوم بنزهات مشتركة الى الجبل. الى آلة الكمان كان خليل يحمل معه عدة الرسم الذي كان يميل اليه. اما توفيق البابا وهو مصور فوتوغرافي فكان الرسم ايضاً من هواياته. كان خليل يقول لي انه عليّ ان اختار بين الموسيقى والرسم، أما توفيق فكان يقول انه يخاف حين يقف أمام منظر ما كي يرسمه، لأنه لم يكن يدري من أين يبدأ وماذا ينقل من المنظر. وفي واحدة من "رحلاتنا الفنية" تلك مرّ بنا مصور فوتوغرافي ارمني حاملاً آلته القديمة فراح يتفحص ما نقوم به، واكتشف ان خليل ينقل ما كان يرسمه عن لوحتي وليس عن المنظر امامه. وفي رحلة اخرى من تلك الرحلات، وكانت الى الفياضية، مرّ بنا جنديان قادانا الى مخفر قريب باعتبار اننا نقوم بتصوير موقع عسكري. وبعدما أُخضعنا للتحقيق تم تحويلنا الى المحكمة العسكرية. أروي هذه الحادثة لأشير الى جهلٍ مطبقٍ بفن الرسم آنذاك، فحتى الضباط الذين حققوا معنا كانوا على جهل تام بأمور ذلك الفن واتهمونا بالتجسس الى ان اتصل بهم صديق لنا كان موظفاً في وزارة الخارجية ويدعى عزت خورشيد، وأوضح الأمر فأخلوا سبيلنا. سنة 1930 رسمت بالالوان لوحة لنابليون بونابرت يعبر جبال الألب. وفي العام التالي أقام الفرنسيون اول معرض للرسم في لبنان، في مدرسة الصنائع والفنون كلية الحقوق اليوم، فقدمت اللوحة لادارة المعرض التي قبلت بعرضها. في ذلك الوقت كان الفنانون في بيروت مسجونين داخل محترفاتهم، فلا تخرج اعمالهم الى الناس الذين كان المتذوقون منهم يزورون الفنانين في مراسمهم. وخروج لوحات لقيصر الجميل الذي كان قادماً لتوه من اوروبا تمثل نساء، وعرضها في مدرسة الصنائع والفنون أثار لغطاً في البلد ونقمة لأن تلك اللوحات خرجت عن اصول الحشمة السائدة. مع حبيب سرور في العطل الصيفية كنت اعمل في مكتبات لبيع الكتب المدرسية وغير المدرسية، فأدخر من عملي ذاك تكاليف عدة الرسم من الوان وبطاقات بريدية منسوخة عليها لوحات لرسامين كبار منهم كامي بيلانجيه الذي قرأت له كتاباً في الفن من خمسة اجزاء بالفرنسية. حصلت على الكتاب من مكتبة انطوان في باب ادريس التي كنت اتردد على صاحبها فقال لي مرة ان احداً طلب منه الكتاب باجزائه الخمسة ولم يحضر لأخذه، فاشتريته وأفادني كثيراً في الاطلاع على تاريخ الفن. حدث ذلك قبل ان ينصحني استاذ الرياضيات في مدرسة المقاصد، مواهب فاخوري وهو شقيق الأديب عمر فاخوري، بأن أذهب الى الفنان المعروف حبيب سرور لأدرس الرسم عليه. كان مواهب فاخوري، وهو على إلمام بفن الرسم، رأى رسومي فأعجبته، ومنها بورتريه لسعد زغلول. ذهبت الى منزل حبيب سرور حاملاً لوحة تمثل الأمومة، وكان ذلك في العام 1932، إثر تخرجي من مدرسة المقاصد. اعجبته لوحتي، فطلب مني التردد اليه في محترفه في منزله في محلة المرفأ كي يعلمني الرسم مجاناً. وقال مرة وهو يشير بيده الى طريق بيته: "من هنا مرّ الفنانون اللبنانيون الكبار". وأذكر انني التقيت اكثر من مرة صليبا الدويهي في منزل سرور الذي ظللت ادرس الرسم يومياً على يده مدة اربع سنوات 1932 - 1936. في تلك السنوات كان استاذي في المقاصد، عبدالله المشنوق، كلفني بادارة مكتبة كان يملكها بالاشتراك مع مصطفى فتح الله. كان راتبي الشهري آنذاك حوالي 15 ليرة لبنانية، وفي اوقات عملي في المكتبة كثيراً ما كنت اقوم برسم صور للزبائن. ثم لم ألبث ان انتقلت للعمل في مكتبة الكشاف، وقبلها في مكتبة سليم صادر. في اثناء عملي في مكتبة الكشاف حصلت مراسلات بيني وبين مكتبات في فرنسا استطعت ان احصل على عناوينها. وكان الهدف من المراسلات حصولي على كتب فنية وكاتالوغات للفن التشكيلي الاوروبي. وكان اول ما حصلت عليه كتاب "ريتشارد فاغنر بالكاريكاتور". هكذا جعلت احصل على كتاب فني في كل شهر اسدد ثمنه من راتبي الشهري من عملي في المكتبة. وقد زادت هذه الكتب من ذائقتي الفنية ونمتها ووسعت أفقها، خصوصاً في الالوان الزيتية ومزجها واشتقاق ألوان جديدة، فضلاً عن ان تلك الكتب لعبت دوراً في تفتح مخيلتي. المعرض الثاني الذي اشتركت فيه اقامه ونظمه الفرنسي جان دوبل الذي كان يرأس تحرير جريدة "سورية" La Syrie الصادرة بالفرنسية في بيروت. اقيم المعرض في فندق السان جورج عام 1934، وكنت آنذاك اتعلم على حبيب سرور الذي أشار عليّ بالاشتراك قائلاً: "اذا على بالك ما تحرم حالك". فاشتركت الى جانب فيليب موراني وحبيب سرور نفسه. وفي صالات السان جورج تعرفت الى ناس من مستويات اجتماعية مرموقة وبدأت أميز بين لوحات الفنانين، ولاحظت ان الوان حبيب سرور حامية وألوان فيليب موراني باردة. في تلك الفترة جاء فنان فرنسي يدعى جورج سير الى لبنان وأقام فيه سنوات تحلق حوله في اثنائها كثرة من الفنانين اللبنانيين. وفي يوم من ايام دراستي اصطحبني حبيب سرور الى منزل الفنان عمر الأنسي الذي اقام حفلة شاي على شرف جورج سير، فقمت برسمه بحضور الفنان مصطفى فروخ… وبالاشتراك مع سيدة فرنسية كانت بصحبته. أقام سير معرضاً لرسومه في معهد الآداب الشرقية على طريق الشام ببيروت. بوفاة الفنان حبيب سرور في العام 1938، وهو العام الذي توفيت فيه والدتي، على ما اذكر، اصبت بحزن عميق مقيم، فعزمت على السفر الى فرنسا للتخصص. زاد من عزمي ذاك قيام والدي بالزواج من امرأة اخرى. ولأنه لم يكن في وسعي السفر على نفقتي وسطت وجيهاً بيروتياً هو الحاج بشير السروجي الذي كان منزله في جوار منزل أهلي وكانت لوحاتي معروضة في محل نجارة الموبيليا الذي يملكه. اصطحبني الحاج بشير الى مفتي الجمهورية ليتوسط لي لدى المفوض السامي دومارتيل لأسافر وأتخصص على نفقة الحكومة الفرنسية. لكن المفتي الشيخ توفيق خالد همس في اذن الحاج بشير قائلاً: كيف ترسله الى فرنسا وهو صغير… ألا تخشى ان تفسد اخلاقه هناك؟! فشلت في سعيي الى السفر، ثم لم تلبث الحرب العالمية الثانية ان بدأت فسُدّت السبل في وجهي، فمكثت في بيروت اعمل في محل الخطاط كامل البابا لتصميم الآرمات. ثم انتقلت للعمل في المطبعة التجارية مصمماً لأفيشات الافلام السينمائية واعلاناتها. كنت في كل اسبوع أرسم اربعة أفيشات لأربع صالات سينمائية تعرض افلاماً في بيروت، هي ريكس ريالتو، تياترو الكبير، وماجستيك. وهذه كلها كانت في ساحة البرج. وفي هذه الفترة سحرتني السينما وسحرني نجومها، اذ كنت أشاهد اكثر من افلام اربعة في الاسبوع الواحد. احياناً كنت انقل أفيشات الافلام، وكلها اجنبية، عن اصلها الاجنبي. وفي احيان اخرى كنت احوّر في الأفيش، احذف منه وأزيد عليه من عندي. لكن الأفلام التي وضعت لها أفيشات من تأليفي الشخصي كانت قليلة. وفي عملي هذا ابتكرت طريقة جديدة في الحفر على الكرتون. السحر الذي مارسته عليَّ السينما ونجومها آنذاك، وأذكر منهم مارلين دياتريش، شارل بواييه، إيفان موزدكين... أضاف عنصراً جديداً إلى حساسيتي في الرسم، فجعلت في رسومي أستوحي وقفة الممثلين وحركاتهم التي جعلت أقلدها بجسمي وحركاته. وجذبتني أفلام الرسوم المتحركة التي كانت تعرض في بعض الصالات. وحين سافرت الى مصر كنت أنوي التخصص في صناعة أفلام رسوم متحركة. في أثناء سعيي للسفر الى مصر كنت خائفاً من القول لأهلي وأقاربي أنني مسافر للتخصص في الفن، لأن التخصص فيه واحترافه لم يكونا من الأمور المرغوبة والمحمودة اجتماعياً. أما الفضل في تدبير أمر سفري فيعود لأستاذي عبدالله المشنوق الذي أخبرني نقلاً عن الأستاذ عمر الدسوقي المنتدب من قبل الحكومة المصرية للتدريس في المقاصد، أن في القاهرة مدرسة عليا للفنون الجميلة. وكما نصحني الأستاذ المشنوق قمت بمقابلة رئيس جمعية المقاصد، عمر بك الداعوق، ساعياً لديه لإلحاقي ببعثة المقاصد في القاهرة، فكلفني برسم صورة له وهو يحمل كتاباً. ثم طلب مني أن أرسم صورة أخرى لعائلته تجمع أجيالاً أربعة: جده وأبوه وابنه وابن أخيه. قمت برسم الأربعة في صورة واحدة ناقلاً كل واحد منهم عن صورة إلا جده الذي لم تكن له صورة، فتخيلته ورسمته بحسب الأوصاف التي أملاها عليَّ حفيده. وبعدما رأى عمر بك الداعوق الصورتين ونالتا إعجابه قرر إيفادي الى القاهرة لالتحق ببعثة المقاصد فيها، على أن تقتصر المنحة المقدمة لي على السكن في "بيت الطلبة" من دون تحمل نفقات السفر والأقساط المترتبة على الدراسة في مدرسة الفنون الجميلة التي كنت أول طالب مشرقي يدخل اليها. تدبرت أمر نفقات السفر والأقساط الأولى المترتبة عليّ في المدرسة من ثمن حصتي من بيت والدتي المتوفاة الذي بعناه، اخوتي وأنا، واقتسمنا ثمنه. أما التوصية التي زودني بها عمر الداعوق فأثمرت مع الأستاذ حسني نجيب، مدير استديو مصر، الذي ألحقني موظفاً في الاستديو، فعملت في رسم الأفيشات السينمائية مهنتي القديمة، وما أتذكره من سينما تلك الحقبة أوائل الأربعينات أفلام بدر لاما. من بيروت الى فلسطين سافرت بالسيارة، ثم سافرت بالقطار الى رفح ومنها الى الاسكندرية. وحين وصلت الى القاهرة في صبيحة نهار من العام 1940، وجدتها مدينة عامرة، أين منها مدينة بيروت. ففي حين كانت فيه المعارض نادرة في بيروت كانت قاهرة الأربعينات تعج يومياً بالمعارض الفنية من اتجاهات مختلفة. وكانت القصور القاهرية تحوي لوحات كثيرة للفنانيين العالميين. وأبواب هذه القصور كانت مفتوحة لنا نحن طلبة المدرسة العليا للفنون، فنذهب لزيارتها في رحلات تنظمها إدارة المدرسة التي كانت تأخذنا أيضاً في رحلات فنية الى أنحاء مصر. أذكر من تلك الرحلات واحدة قصدنا فيها الأقصر التي نزلنا أسبوعاً في أحد فنادقها. ضمت الرحلة طلاب المدرسة العليا وطالباتها اللواتي لم نكن نختلط بهن في القاهرة، إذ كان لكل من الطلاب والطالبات مبان خاصة بالتدريس والاقامة، فكانت تلك الرحلة المختلطة مناسبة لتعارفنا الذي اختلقنا له مناسبة من وراء ظهر المشرفين فأقمنا حفلة في الفندق استمرت ليلة كاملة وكانت حفلة مشهودة لأنها خرقت برنامج الرحلة وكسرت الحدود التي كانت تفصل بين الطلبة والطالبات. وفي العام 1980 حين قمت بزيارة القاهرة ذكرني زميل لي في المدرسة بتلك الحفلة التي كانت سبباً لزواجه من احدى الطالبات. في السنوات السبع التي قضيتها في القاهرة لم أزر لبنان إلا مرة واحدة في صيف العام 1941 حين توفي والدي. أحببت مصر الى الحد الذي أصبحت معه مصرياً، فنسيت لهجتي اللبنانيةالبيروتية ولم أعد أجيد الكلام بها. والى جانب تخصصي بالرسم في المدرسة العليا للفنون، التحقت بالمعهد العالي لفن التمثيل العربي - قسم النقد والبحوث الفنية لمدة ثلاث سنوات. ومن فناني مصر الذين تتلمذت عليهم في الرسم أذكر الفنان أحمد صبري رسام الوجوه، والفنان الانطباعي يوسف كامل، وأستاذ مادة الحفر حسين فوزي، وأستاذ النحت أحمد عثمان... والى جانب المذاهب الفنية الحديثة كانت إدارة المعهد تسعى الى تعريف الطلاب بالفن المصري القديم. وفي أثناء دراستي تعلمت تجزئة الألوان وتعرفت على الانطباعية التي كانت المدرسة الفنية الأكثر تعايشاً مع الأجواء الشرقية. أما الموديلات من الرجال والنساء فكان عددها يفوق الأربعين في كلية الفنون التي بذلت إدارتها أقصى درجات الرعاية والاهتمام بطلابها لناحية السكن والتدريس والرحلات الاستطلاعية وتوفير أدوات الرسم من لوحات وفراش وألوان التي كانت توزع علينا بكميات فائضة. كان الملك فاروق يدعو المتفوقين من الطلبة لزيارته في قصره بمدينة الاسكندرية، فيقيم لهم حفلة استقبال يحرص فيها على مصافحة كل واحد منهم يداً بيد. وما أزال أذكر القفاز الأبيض الذي كان الملك يرتديه في يده أثناء مصافحتي له، والطبيب الذي أرسل من القصر لمعالجتي من "ضربة الشمس" التي أصابتني أثناء النهار الذي قضيته مستحماً على شاطئ الاسكندرية. السنوات الثلاث التي كنت فيها طالباً ليلياً في المعهد العالي لفن التمثيل العربي بالقاهرة عرفتني على أجواء جديدة وأساتذة من بينهم زكي مبارك ووهيب كامل ومحمد مندور. هي رغبتي في العمل السينمائي التي حملتها معي من بيروت قادتني الى الانتساب لمعهد التمثيل مشغوفاً بفكرة تعلم فن الرسوم المتحركة. لكنني حين غادرت القاهرة عائداً الى لبنان في العام 1947، أصبت بخيبة منكرة، لأنني وجدت هوى السينما يعصف بالجميع من غير أن يكون لأحد علم بفنونها وتقنياتها. وفي بيروت عرفني صديق يعمل خياطاً ويهوى السينما والتمثيل على أصدقاء له لنعمل معاً على انتاج فيلم عن حزب الكتائب اللبنانية. حدث ذلك في العام 1948 ووقعنا عقداً لانتاج الفيلم الذي انسحبت من العمل فيه وانصرفت الى فن التصوير الذي استمسك بي وصرفت له حياتي كلها. حين عدت الى لبنان رأيت الحركة الفنية فيه أصابها بعض التطور. ففي الأعوام الأخيرة من الأربعينات أقيم عدد من المعارض، منها واحد في أوتيل قاصوف بشتورا تحت عنوان "المؤتمر الثقافي العربي"، وآخر أقامه في السفارة الأميركية مكتب المعلومات التابع لها، وثالث أقامته وزارة الخارجية اللبنانية في باريس بمبادرة من رئيف أبي اللمع، وزير الخارجية آنذاك. وفي مطلع الخمسينات انشئت الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة وعاد جيل من الفنانين اللبنانيين الذين تعلموا في الخارج، فنشطت الحركة الفنية. وبين العام 1950 والعام 1952 أقامت شركة "K.L.M" للطيران معرضاً بعنوان "طائرة حول العالم" فجالت لوحات الفنانين اللبنانيين على عواصم أوروبية وأميركية. ثم لم تلبث وزارة التربية ان شرعت في تشجيع الحركة الفنية بمبادرة من زوجة رئيس الجمهورية السيدة زلفا شمعون التي يعود لها الفضل في تشجيع الفنانين وفي اقامة معرض سنوي بعنوان "معرض الربيع" باشراف وزارة التربية التي جعلت تشتري لوحات من الفنانين شكلت في ما بعد أكبر المجموعات الفنية في لبنان. الرسام الجاسوس! بعد عودتي من القاهرة فوجئت بالطبيعة اللبنانية وبألوانها التي بهرتني بزهوها، وكأنني كنت أراها للمرة الأولى، فعجبت من نفسي كيف فاتني الامتلاء بها من قبل، وكيف لم يحفزني ما اختزنته ذاكرتي من مشاهدها لأكون فناناً انطباعياً في مصر التي لم تتح لي مناظرها التي يغلب عليها اللون الرمادي أن أتجه انطباعياً في رسومي. لذا وجدتني، ما إن عدت الى لبنان، أقوم برحلات الى الجبل حاملاً عدة الرسم التي كنت أنصبها أينما يحلو لي المنظر وأبدأ بنقله الى لوحتي. لكن هذه الرحلات كانت مجلبة لمضايقات كثيرة من الناس الذين كانوا يجهلون ما أقوم به فيحملونه على محمل الريبة والشك والأذى بهم. ففي بساتين فرن الشباك اجتمع حولي مرة 12 مزارعاً شاهرين عليَّ السكاكين بعدما رأوني أرسم وسمعوا لهجتي المصرية، فطلبت منهم تسليمي الى أقرب مخفر حيث أدعي أمام الدرك بأنني جاسوس مصري، فصدقهم الدركيون الذين احتجزوني ساعات أربعاً قبل إرسالي الى مخفر البسطة حيث تعرف إلي مفوضه مختار عيتاني فأطلق سراحي. وفي اليوم التالي نقلت جريدة "الشرق" الخبر تحت عنوان كبير: "القبض على جاسوس خطير في فرن الشباك". هذه حادثة من عشرات تعرضت لها ومثلي زملائي من الفنانين كعمر الأنسي ومصطفى فروخ الذي لطخت ألوان لوحته الطرية مرة ثياب سيدة أنيقة في البوسطة التي أقلتنا من إحدى قرى الجبل الى بيروت، فصبت السيدة غضبها عليه قائلة: "على العتالين ان يحملوا امتعتهم سيراً على الاقدام". هكذا كنا تارة جواسيس وتارة عتالين وتارة مجانين... في ما نقوم به امام انظار العامة، كما كنا شبه مرذولين في ما نقوم به في مراسمنا ومحترفاتنا من رسوم لنسوة كنا نتخذهن "موديلات"، فينظر الناس اليهن نظرتهم الى نسوة غير شريفات. منذ بداياتي الفنية، انا الذي عزفت عن الزواج بامرأة لئلا تشغلني عن فني وتقاسمني زواجي اياه، جعلت المرأة في المكان الأول من فني ونفسي وحساسيتي، فأطلقوا عليّ "رسام المرأة" او "فنان المرأة". كنت اكن لها اقصى درجات الاحترام والتقدير كأم وحبيبة وأخت وملهمة ومصدر للحياة الانسانية كلها. زواج متأخر في بيتي وفي مرسمي بشارع محمد الحوت وحيداً عشت حتى تزوجت مؤخراً، اي منذ اعوام، مطمئناً الى وضعي كفنان والى مقدرتي على اعطاء المرأة حقها كزوجة، وهو ما لم اكن قادراً على منحها اياه لو تزوجت في شبابي الذي كنت فيه زوجاً ابدياً للفن خشية ان تنافسني المرأة عليه او تأخذ من وقتي. هذا فضلاً عن انني كنت خائفاً من ان انتقص من حق الزوجة عليّ ومن متطلباتها مني انتقاصي من سمعتها لو تزوجت من امرأة في ما انا اقوم برسم نسوة كنّ يجلسن امامي وفي بيتي كموديلات. اما المرأة التي تزوجتها مؤخراً فكان بيت اهلها قريباً من بيت اهلي وكنت اعرف والدها وهو ما يزال صبياً. وحين تزوجتها كان زوجها الأول، ولها منه ابناء شبان، مات عنها. قليلات، وربما نادرات، الفتيات والنسوة المتزوجات كن يعملن كموديلات للفنانين. اذكر منهن واحدة كانت تقول لي فيما كنت ارسمها انها فور انتهاء الجلسة ستذهب لملاقاة من تحب، وأذكر اخرى اسمها مريم كانت تعمل موديلاً في الاكاديمية اللبنانية للفنون، وكثيراً ما تكرر رسمها في لوحات قيصر الجميل. وحبيب سرور في اثناء ترددي الى منزله، كنت اجد عنده فتاة تستقبلني عند الباب مرحبة وتشعرني انني في بيتي، من دون ان اعلم نوع الصلة التي كانت تربطه بها. لم يكن الفنانون يقصرون موديلاتهم على النساء من دون الرجال. فكم من رجال اتيت بهم الى محترفي كي ارسمهم. كنت اهتدي اليهم صدفة او بواسطة سمسار. في البداية كانوا يرفضون طلبي، لكنهم كانوا يقولون لي "نحن في خدمتك" بعد ان يروا انفسهم في اللوحة. اذكر واحداً منهم، كان يقول انه شيخ العتالين في المرفأ، قال لي، بعد ان انتهيت من رسمه: "لماذا لم تقل لي انك سترسمني على هذه الهيأة؟! فلو قلت لي لكنت اتيت بعدتي من الفرودة المسدسات والسكاكين لكي اظهر في اهاب رجولتي الكاملة". كان الامير رئيف ابي اللمع وعدني، بعد سنوات من عودتي من مصر، بأن يتدبر لي منحة دراسية الى فرنسا لاستكمل ثقافتي الفنية هناك، لكنه لم يوفق في مسعاه فقمت برحلات فنية كثيرة على نفقتي الخاصة. زرت فرنساوايطاليا واسبانيا والنمسا وانكلترا وهولندا والاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا واليونان. وأمضيت هذه الرحلات في زيارة المتاحف ومشاهدة المعارض الفنية. في يوغوسلافيا تعرفت الى نحاتة تدعى سونيا فقمت برسمها وكادت العلاقة بيننا تتطور الى الزواج لولا مرض والدتها الذي حال دون مجيئها الى لبنان، فاستمرت المراسلات بيننا خمس سنوات. وفي ايطاليا تعرفت الى جانين التي كانت مهندسة في فن الديكور. التقيت بها في احد متاحف روما الكبرى، هي التي كانت آتية من سويسرا في رحلة فنية مثلي، فتوثقت علاقتنا الى حب جارف. وحتى الساعة ما ازال اذكر لحظة وداعنا العاصف في ميناء البندقية والدموع تنهمر من عينيها. وقد استمرت المراسلة بيني وبين جانين سنوات عدة من غير انقطاع ومن دون ان اراها ثانية. كنت كبرت في السن وبلغت الاربعين حين عزمت على الزواج. لكن سني لم يعد يتيح لي التعرف على امرأة مناسبة، فشعرت كما لو ان قطار الزواج من طريق التعارف التلقائي المباشر فاتني، فجعلت اوسط نساء من العائلة والجيران للعثور على امرأة مناسبة اتزوجها، لكن جميع من وسطتهن في ذلك كان الفشل حليفهن، اذكر ان واحدة من النسوة اللواتي وسطتهن اصطحبتني مرة الى احد المنازل للتعرف الى امرأة اختارتها لي. ولما جلست بين اهل تلك المرأة في صالون بيتهن بانتظار ان تحضر الزوجة الموعودة، اشارت امها بيدها الى زاوية معتمة تدلني على ابنتها... ولما رأيتها جالسة هناك كشبح بعيد صرفت النظر عنها. وسيطة ثانية قالت لي انها ستنتظرني في احد الشوارع لتعرفني على امرأة، وحين حضرت في الموعد المحدد رأيت المرأة وقد حنا العمر ظهرها. اما المرأة الروسية التي وسطتها، وكانت تبصر بفناجين القوة، فأرادت تزويجي من امرأة لا اعرفها ومن دون ان اراها، فرفضت. حدث هذا كله لي انا الذي تعلقت به كثرة من الفتيات من طالباته في دار المعلمين... الى جانب فن الرسم الذي جعلته غاية حياتي ومبتغاها عملت في التدريس واتخذته مهنة للعيش لئلا اجبر على جعل الفن في خدمة حياتي المعيشية. في البداية، بعد عودتي من القاهرة، درّست في معهد الشابات المسلمات للطالبات النظاميات والهاويات. ثم في مدارس الدولة من ابتدائية وثانوية ودور معلمين، قبل ان انتقل لتعليم الفن في الجامعات اللبنانية والعربية والاميركية... الى ان احلت على التقاعد منذ سنوات خمس، من غير ان انقطع على الرغم من وهن جسمي، عن مزاولة فني. وها انذا في خريف العمر هذا، انا من شاءت الاقدار له ان يؤبن ويشيّع زملاءه وأصدقاءه من رواد فن الرسم الحديث في لبنان الى مثواهم الاخير ويتقبل التعازي بهم: حبيب سرور، يوسف الحويك، مصطفى فروخ، وقيصر الجميل، القى بعضاً من التقدير من الدولة التي اطلقت مؤخراً اسمي على الشارع الذي يقوم فيه منزلي وكان يقوم فيه منزل اهلي القديم... وعلى الرغم من البرد الذي يكتنف الناس في خريف اعمارهم، اقول انني اختار الحياة التي عشتها لا سواها، ان قيض لي ان ابدأ حياتي من جديد.