يسود وزارة الخارجية الاميركية هذه الأيام جو من الهدوء غير الواقعي بالنسبة الى الأزمة في يوغوسلافيا السابقة. فبعدما ظلت الوزارة منهمكة لأشهر، وهي تحاول ايجاد حل يمكنه ان يحقق الاستقرار وان لم يحقق العدالة لضحايا العدوان الصربي، بدأ يظهر الآن نوع من الاتفاق العام في الوزارة مفاده على ما يبدو: "فلنحاول أن ننسى المشكلة". اذ ان النتيجة الطبيعية التي توصل اليها العاملون في الوزارة هي ان في وسع الولاياتالمتحدة ان تغسل يديها من الأزمة في يوغوسلافيا وتتنصل منها من دون ان يكلفها ذلك شيء. وكل واحد يعترف، ولكن باحراج شكلي وصوري، بأن الناس الابرياء سيموتون وان العدوان الصربي سيظل قائما. يا لها من رسالة مشؤومة لجميع أولئك الذين ينتظرون خطة الرئيس بيل كلينتون الطموحة للنظام العالمي الجديد. اذ ان أداء الرئيس في أزمة البوسنة بالنسبة الى هؤلاء الناس انما يقول لهم: "عليكم أن تنسوا حقوق الانسان معياراً لتحديد السياسة وعليكم أن تنسوا الاخلاقيات عند تشكيل المصالح الأميركية. فمنذ الآن تذكروا ان اهم شيء هو الانعزالية". وفي واقع الأمر سمعنا في الايام الاخيرة تأكيدا لهذه الانعزالية في السياسة الاميركية من مسؤول من الدرجة الثالثة في وزارة الخارجية هو بيتر تارنوف الذي لم يزد تأنيب وارن كريستوفر له على اللوم البسيط. وإثر ذلك التراجع الشامل في السياسة الاميركية والهبوط في مستوى القيادة الاميركية خرج العالم الاسلامي لسوء الحظ بنتيجة مفادها باختصار ان اميركا تقول: "إنسوا المسلمين" ان هذا الغياب في القيادة الاميركية امر سيء لو انه كان لا أخلاقيا فقط. لكنه اسوأ من ذلك ايضا لأنه يمثل تشبثاً بالرأي الخاطىء وينطوي على مخاطر واضحة ستلحق ضررا شديدا بأمننا القومي اذا ما فهمنا هذا الأمن بالشكل الصحيح. فالمصالح الاميركية المعنية بصراع البوسنة وبالصراعات الاخرى التي تختمر وتفتعل داخل الدول الاسلامية وفي ما بينها وبين جاراتها، تشتمل على منع نشوب صراع نووي في جنوب آسيا لما سيترتب على مثل هذه الكارثة من عواقب لا نهاية لها، وعلى تفادي فرض حظر نفطي لما سيجره مثل هذا الحظر على الاقتصاد الاميركي. واذا كان بعضهم يظن ان مثل هذه الاحداث التي تنذر بالشؤوم لا يرتبط بالبوسنة فما عليهم الا ان يفكروا في ما يجري في العالم الاسلامي. اذ ان نهاية الحرب الباردة أدت الى اسراع المسلمين في مختلف انحاء العالم في البحث عن مرتكزات عقائدية وفلسفية. فمن الواضح ان النماذج الشيوعية والاشتراكية الشرقية أخفقت في تسهيل تحسين مستويات الرعاية الاجتماعية لاتباع هذه النماذج. ومن سوء الحظ ان الصور التي نقلها الفيديو والكلمة المطبوعة من الولاياتالمتحدة والديموقراطيات الغربية الأخرى فشلت في تقديم بديل جذاب. ومع فقدان هذه النماذج السياسية وغيرها من النماذج صدقيتها بدأ المسلمون - وليس الاصوليون وحدهم، بل المثقفون والزعماء السياسيون - يتحولون الى الدين. فمن الجزائر الى مصر والضفة الغربية بدأ المسلمون يبحثون عن نموذج أرقى وأفضل للتحسين الاجتماعي والروحي والسياسي والاقتصادي. نتيجة لذلك بات هذا الوقت يمثل فرصة هائلة للغرب عموماً والولاياتالمتحدة خصوصاً، اذ اننا نشهد الآن بداية تشكيل التوجه السياسي والاقتصادي لألف مليون من البشر. وسيكون لنتيجة هذا التشكيل اثر بالغ في المصالح الغربية لأجيال قادمة عدة. فهل سيتردى العالم الاسلامي الى سلسلة من الصراعات الداخلية العنيفة؟ ام هل هناك أمل في حصول العناصر المعتدلة في كل دولة على الدعم اللازم لاقامة نمط من انماط الديموقراطية؟ ان الاستجابة الاميركية لهذا السؤال التاريخي، اذا ما استثنينا الموقف الاميركي من الصومال، لا تتجاوز في رأيي حتى الآن مجرد عدم الاكتراث واللامبالاة. ان مثل هذه الاستجابة لن ينجح. اذ اننا لا نستطيع مجرد الانسحاب وادارة ظهرنا لأن الخسائر ستكون هائلة فلنأخذ مثلا الوضع في كشمير، اذ ان القمع الذي تتعرض له الاغلبية المسلمة من السكان في هذا الاقليم الذي تتنازع عليه الهندوباكستان ازداد وتعاظم خلال العام الماضي. كما ان الوحشية المستمرة التي تستخدمها القوات الهندية أدت الى ردود فعل اسلامية عنيفة في الاقليم. ويدرك الزعماء السياسيون في نيودلهي واسلام آباد ان الاحداث يمكن ان تخرج عن السيطرة، وان اي مواجهة عسكرية يمكن ان تتطور بسرعة الى مواجهة نووية. واذا ما حدث ذلك فان مئات الآلاف من الهنود والباكستانيين يمكن ان يفقدوا حياتهم في صراع يمكن التدخل الاميركي ان يمنع وقوعه. وادراكا من زعماء الدولتين لهذه المخاطر، طلبوا من الولاياتالمتحدة ان تكرس بعض الاهتمام من أجل الجمع بين الطرفين للبحث في النزاع ومحاولة تسويته. اذ أن ادراك الطرفين المخاطر والمجازفات الهائلة جعل كلا منهما يرغب في التوصل الى تسوية. لكن النداءات الباكستانيةوالهندية الى كل من بريطانيا وأميركا للمساعدة لم تلق آذانا صاغية. كذلك، يجب ان نفكر في رد الفعل الاسلامي الجماعي من زاوية أخرى قد لا تبدو عظيمة الأهمية لكنها مع ذلك مهمة. فماذا سيكون رد الفعل هذا اذا اقتنع المسلمون نتيجة تأثير العناصر المتطرفة ونتيجة عدم اكتراث الغرب ولا مبالاته، انهم ليسو جزءا من "النادي"، اي ان هناك عداوة متعمدة ومبيتة وتنطلق من التعالي بين زعماء الغرب نحو المسلمين؟ وفي محادثة أخيرة جرت بيني وبين زعيم عربي مستنير فوجئت حين سمعته يقول لي: "ان الأمر لا يقتصر على عدم تسامح الغرب مع قيام دولة اسلامية في أوروبا فحسب، وهو ما تقول مراكز عدة مهمة للنفوذ العربي الآن انه السبب الحقيقي لتقاعس أوروبا وعدم اكتراثها بالبوسنة بل ينظر الغرب الى المسلمين على اساس انهم غير جديرين بالاهتمام ، وعبء على "الرجل الابيض" ويجب عدم أخذهم مأخذ الجد وانما يجب استغلالهم". ومع ان هناك الكثيرين من الزعماء المسلمين المعتدلين الذين يقاومون مثل هذه الدعاية فانهم يلحقون بأنفسهم الضرر حين يفعلون هذا كما هو واضح في مصر والاردن وغيرهما. ونظرا الى غياب اي جهد اميركي جاد لوضع جدول اعمال ايجابي بنّاء مع الدول الاسلامية فان الفرصة ستسنح للمتطرفين لكي يضعوا جدولهم. ولهذا ليس من الأمور المستبعدة اطلاقا ان يؤدي مثل هذه الضغوط، العنيفة احيانا، الى احتمال فرض حظر نفطي في نهاية المطاف او حتى أسوأ من ذلك تفكك بعض الانظمة الاسلامية الرئيسية او اطاحتها. انه لا داعي لحدوث ذلك، ولكن لكي تتفادى الولاياتالمتحدة حدوث ذلك عليها ان تطور سياسة شاملة نحو الدول الاسلامية. ويجب ان تشكل هذه السياسة محورين اساسيين: الأول: حل الصراعات وتسويتها، والثاني: المساعدة على حفز التحرر الاقتصادي وتنشيطه. ولكل من هذين المحورين عناصر عدة. فبالنسبة الى المحور الاول يجب ان ينال التدخل الاميركي المبدئي في مفاوضات السلام العربية - الاسرائيلية الذي كان ينطلق من حسن نية، اهتمام الرئيس الاميركي وتأييده. ومن ناحية اخرى علينا ان نركز على استثمار رأس مال سياسي من اجل حل القضايا المضطربة والعنيفة في العالم الاسلامي مثل النزاع على كشمير. فهناك أمور وقضايا لا يستطيع أحد حلها سوى الولاياتالمتحدة لما لديها من مكانة ونفوذ. ولكن، لأننا لا نريد ان نصبح الحَكَم النهائي في جميع النزاعات الدولية ينبغي علينا ان نعمل على تأسيس قدرة موثوق بها وصدقية مقبولة للأمم المتحدة لكي تقوم بدور اكثر نشاطاً وفعالية في حل الأزمات في السنوات القادمة. ولكي يكون هذا الدور موثوقا به ويحظى بصدقية، يجب ان يستند الى عناصر عدة اهمها وجود قوة حفظ سلام قادرة على حفظ السلام، وان تكون هذه القوة قادرة على التدخل ما يعني انها يجب ان تتألف من ست فرق على الأقل من الجنود المتطوعين وبكل ما تحتاج اليه من المساندة الجوية والبحرية وان يكون افرادها من كل الدول الاعضاء التي يجب ان تتحمل جميعها ايضاً نفقاتهم. ومن البديهي ان هذه العملية لن تكون رخيصة الكلفة. اذ ان تخصيص موازنة مقدارها 30 بليون دولار في العام ربما كان اقل ما يجب تأمينه. ولهذا السبب فان من غير المحتمل ان يتبنى المجتمع الدولي مثل هذه الخطة في وقت من الركود الاقتصادي، ما يعني انها قد لا تتحقق قبل بداية القرن الجديد. وبحلول ذلك الوقت ربما ادى تجدد العنف من نهر الدانوب حتى نهر الفولغا وما يرافقه من شلل بين الزعماء الغربيين الى اتفاق الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن على ان اسناد مهمة معالجة هذه المشاكل الثانوية الاهمية في رأيها الى الأممالمتحدة فكرة لا بأس بها. وهناك عنصر آخر في هذا الدور الموسع للأمم المتحدة في حل الصراعات وهو دور الديبلوماسية الوقائية: اي تحديد الخلافات والنزاعات بين الجماعات العرقية والقومية والدينية ومحاولة تسويتها من خلال المصالحة والوساطة والتحكيم. وفي هذا السياق نجد مرة اخرى ان الأممالمتحدة ليست على مستوى هذه المسؤولية. والى ان تصبح المنظمة الدولية في مكانة تؤهلها من القيام بذلك تظل الولاياتالمتحدة الدولة الوحيدة التي تستطيع اداء المهمة. لكن واشنطن لم تبذل لسوء الحظ اي جهد حقيقي مثلاً لحل مشكلات البوسنة وكشمير وأذربيجان وهي كلها في المناسبة مشكلات ذات بعد اسلامي. اما المحور الثاني من استراتيجيتنا الجديدة فيجب ان يكون وضع استراتيجية شاملة لمساندة عملية التحرر الاقتصادي في الدول الاسلامية، فمع ان اهدافنا قد تكون سياسية اي تحقيق قدر اعظم من الديموقراطية في تلك الدول فانه ينبغي ان تأخذ الوسائل في اعتبارها بعض الحساسيات تجاه الأساليب التي اثبتت نجاحها الفعّال في حالات ودول اخرى. لنأخذ مثلاً سنغافورة وكوريا وتايوان والصين نفسها. اذ ان عملية التنمية والتطور في كل واحدة من هذه الدول تمت في ظل حكم او سيطرة سياسية استبدادية. الا ان التحرر السياسي والتحرر الاجتماعي اعقبا في نهاية الامر التحرر الاقتصادي. ولهذا يمكن تجربة ذلك النمط في العالم الاسلامي. ولعل خير مكان يمكن البدء به هو باكستان. اذ ان حكومتها المنتخبة أرست الاطار القانوني والتنظيمي لعملية القفزة الاقتصادية. لكن العنصر المفقود في المعادلة الباكستانية هو الاستثمارات الاجنبية. وفي هذا الصدد نجد ان الحكومة الاميركية تستطيع ان تفعل الكثير للحفز على تلك الاستثمارات. ومثل هذا الجهد مع التركيز في الوقت نفسه على نزاع كشمير يمكن ان يؤدي الى خفض النفقات الدفاعية العالية في كل من الهندوباكستان وبالتالي الى فتح حوار مثمر للبحث في القضية النووية بين الدولتين. وربما سأل القارئ عن العلاقة بين كل هذا الكلام والبوسنة؟ ان هناك احساساً متعاظماً بين المسلمين من المغرب حتى اندونيسيا بأن البوسنة ليست سوى عرض للعداء المتأصل بين الدول الصناعية تجاه المسلمين. ومع ان هذا الاحساس ليست له اصول حقيقية فانه احساس مقنع الى ان تظهر الدول الغربية التزاماً صادقاً بالتعامل بجدية مع الدول الاسلامية ومساعدتها على حل مشكلاتها وتحقيق النمو في اقتصادياتها. ومن المفروض ان تنتهج الدول الغربية هذا السبيل من منطلق اخلاقي بحت. ولكن اذا لم يكن هذا كافياً لاقناع الزعماء السياسيين من بون حتى واشنطن فطوكيو فان من المؤكد ان على هؤلاء الزعماء أن يقتنعوا من منطلق مصالحهم العامة. * مستشار الرئيس الأميركي السابق ريغان لشؤون الأمن القومي.