من المبكر الحديث عن "مذكرات رابح كبير" فالرجل وان كان معتقلاً في المانيا ومهدداً بأن يُسلم الى الجزائر حيث حكم عليه القضاء بالاعدام، فان وقوع سيناريو كهذا مستبعد، ولذلك فان امام الشيخ بقية من ايام يشارك فيها في النشاط السياسي لبلاده خصوصاً ان المعركة الدائرة بين السلطة الجزائرية والجبهة الاسلامية للانقاذ لم تحسم بعد. غير ان من المفيد تقديم حياة كبير وآرائه وابرازه نموذجاً لجيل جزائري نشأ في عهد الاستقلال واختار الاسلام بديلاً من شتى الايديولوجيات المطروحة في بلد من اقرب البلدان العربية للغرب وأكثرها حداثة وانتشر هذا الجيل في كل المؤسسات الجزائرية حتى كوّن تياراً عارماً ظهر في شكل فوضوي في تشرين الأول اكتوبر 1988 عندما عمت التظاهرات المدن الجزائرية لتنتهي مرحلة الحكم الشمولي لجبهة التحرير الوطني التي حكمت بمفردها البلاد منذ استقلالها عام 1962. وظهر التيار منظماً بدءاً من العام 1989 في شكل الجبهة الاسلامية للانقاذ التي اصبحت خلال بضعة شهور الحزب الرئيسي. كيف ظهرت الجبهة الاسلامية للانقاذ؟ وقبلها كيف ظهر التيار الاسلامي وكيف نجح في "الكمون" خلال عهد هواري بومدين ثم الشاذلي بن جديد حتى فاجأ الجميع في تشرين الثاني نوفمبر 1988؟ وما هي روافده؟ ولماذا يتأثر جيل الثورة بالثورة؟ هذه الاسئلة وغيرها حملتها "الوسط" في أكثر من جلسة طويلة مع استاذ الفيزياء والناطق الرسمي باسم الجبهة الاسلامية في الخارج والمسؤول عن شؤون السياسة الخارجية فيها الشيخ رابح كبير عشية توقيفه الاسبوع الماضي في المانيا. وهنا بعض من الذكريات: "البداية كانت في بيت جدي الذي كان محباً لدروس العلم فكان يعقد هذه الدروس في داره ويحضرها المشايخ والعلماء من نواحي القل، وأحياناً يحضرها ضيوف من قسنطينة، المدينة المشهورة بدور العلم والعلماء. وكنت أخدم هؤلاء الضيوف واستمع اليهم في الوقت نفسه فتعلقت بالدين منذ الصغر وشعرت بأن من الطبيعي ان اكون مسلماً، خصوصاً اننا في تلك الايام كنا نميز انفسنا عن الفرنسيين بأننا مسلمون وهم كفار. هذا الفهم البسيط للعلاقة بيننا جعل من المستحيل القبول بعلاقة اندماج او تبعية بين الجزائر وفرنسا. وبسبب هذا الفهم ظل الفرنسيون غرباء عن الجزائر على رغم بقائهم فيها 130 عاماً. ولدت قبل اندلاع الثورة في 1954 ببضعة اعوام، وأتذكر سنوات طفولتي الاولى بعيداً عن والدي الذي التحق بصفوف الثوار منذ البداية فكنت اقرب الى جدي الذي رعاني وأنشأ فيّ حب الاسلام والتعلق به. ومن جدي تعرفت الى اسماء العلماء امثال الشيخ عبدالحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء والذي نراه اليوم رائد العمل الاسلامي الحديث في الجزائر. ومنه ايضاً تعرفت الى العلماء البشير الابراهيم والشيخ عبداللطيف سلطاني والعربي التبسي وغيرهم... وبعد الاستقلال اقتربت اكثر من والدي وتحولت علاقتنا صداقة، فكان يقضي معي ساعات ننعم بهواء المساء المنعش في مدينتنا القل المطلة على البحر وكان يحدثني عن الثورة وأيامها وطموحه في رؤية جزائر جزائرية، وكان هذا يعني له العروبة والاسلام. ولم يكن يحتاج الى من يفصل ذلك له، ولكن كان هذا الفهم لمعنى الجزائر هو السائد. ولذلك كانت خيبة امل والدي كبيرة عندما برزت الافكار الجديدة كالاشتراكية والاصرار على اللغة الفرنسية والثورة الزراعية. وتخلى تدريجاً عن مسؤولياته في فرع جبهة التحرير في القل والتي كان نشيطاً فيها منذ الاستقلال. وخلال تلك الفترة، خصوصاً في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين جرت محاولات مركزة لابعادنا نحن الشباب عن انتمائنا الاسلامي والعربي وذلك بعمل نظمه الشيوعيون لكنهم عبثاً حاولوا اذ ظلت بقايا العقيدة الصحيحة في نفوسنا وجعلتنا نعود الى الاسلام عندما عرض علينا مرة اخرى في اول فرصة. وانتشرت وقتذاك منظمات الشبيبة التابعة لجبهة التحرير والمنظمات الطالبية في الجامعات، وكان على الطالب الذي يريد ان يبرز او يكون له نشاط ما ان يلتحق بها اذ لم تكن هناك اي منظمات اخرى بديلة، لكنني ولله الحمد لم انتسب الى اي من هذه التجمعات التي نجحت ويا للأسف في جعل الاسلام غريباً عن الشباب. وأذكر انني عندما دخلت الجامعة عام 1975 وكنا قلة من الشباب الذين يصلّون فكانت اذن الواحد منا تشتعل احمراراً من الخجل وهو يؤذن للصلاة اذ كانت نظرات الاستهجان تصلنا ولسان حال صاحبها يقول كيف يصلي هذا وهو طالب جامعي. وحاول النظام جاهداً تغييب الاسلام عن الحياة العامة والثقافة، لكن رموز الاسلام بقيت كابن باديس الذي ظل رمزاً للاحياء الاسلامي فلم يغيّبه النظام وانما حرّف رسالته وظلت الدولة تحتفل بذكراه وتقدمه رائد الحركة الاصلاحية، وبقي قليل من العلماء على خطى جمعية العلماء وأصبحت صرختهم كصيحة في واد لا يقصدهم الا القليل وأقلهم الشباب. التعليم دخلت المدرسة متأخراً بعد الاستقلال لذلك اختصرت 4 سنوات من التعليم المتوسط في عام واحد، فبعد حصولي على الشهادة الابتدائية دخلت مدرسة خاصة والتحقت بالصف الثالث متوسط مباشرة وكان هذا مسموحاً به بعد ان يتجاوز التلميذ امتحاناً للتثبت من قدراته وكان لا يزال هناك شهران من السنة الدراسية فقررت التقدم الى امتحان الصف الرابع فاذا نجحت يمكنني دخول الجامعة وعمري 18 عاماً فأعوض السنوات التي فاتتني، فأخذت اجلس في صفوف الصف الرابع خلسة عن المدير، فلما حان موعد الامتحان قدمت الوثائق المطلوبة وكان مدير المدرسة الاصيل غائباً فوافق المدير الموقت لانه لا يعرفني وكانت المفاجأة ان عاد المدير الاصيل قبل الامتحان فوجد اوراقي بين اوراق المتقدمين فغضب عليّ. وأذكر انه جرى خلفي بكرسي ليضربني فنجوت منه الى منزلي مغموماً ولكن يبدو انه راجع نفسه فاستدعاني وأعطاني اذناً بدخول الامتحان ونجحت بامتياز، الحمد الله. ودخلت الجامعة وتعرفت عن قرب للمرة الاولى الى الحركة الاسلامية التي كانت في بداية تشكيلها اذ كان الاسلام قبل ذلك مجرد مشاعر لا نعرف كيف نؤيده او نعمل من اجله، أو له اهداف اكثر من العبادات كالصوم والصلاة. وكنت ومجموعة من الشباب تواقين الى ان نتمثل ونعيش بالاسلام، اذ كان ادراكنا الفطري يدلنا الى ان هناك شيئاً آخر في هذا الدين غير الصلاة والعبادة وأكثر من الخلق الحسن. وفي تلك الفترة حصلت حادثة اعطت الاسلام بعداً جديداً في نفسي، وذلك عندما اصطدم الطلاب المعربين بالفرانكوفونيين الناطقين الفرنسية في الجامعة وكنت وقتذاك في الثانوية، وتلقائياً وقفنا كشباب متدين مع المعربين ولم يكن هذا التيار ناصرياً او بعثياً بل كان تياراً جزائرياً بحتاً واتسعت المواجهات من الجامعة ووصلت الى المدينةقسنطينة ووقع عدد من الجرحى وتطور الوضع وتدخلت قوات الامن بحزم شديد. وفي هذه الحادثة تعرفت الى البعد الثقافي والحضاري للاسلام".