مطارات الدمام تدشن مطارنا أخضر مع مسافريها بإستخدام الذكاء الاصطناعي    ديوانية الأطباء في اللقاء ال89 عن شبكية العين    البنك المركزي الروسي: لا حاجة لإجراءات طارئة لدعم قيمة الروبل    الحملة الشعبية لإغاثة الفلسطينيين تصل 702,165,745 ريالًا    الجبلين يتعادل مع الحزم إيجابياً في دوري يلو    "أخضر السيدات" يخسر وديته أمام نظيره الفلسطيني    حرمان قاصر وجه إهانات عنصرية إلى فينيسيوس من دخول الملاعب لمدة عام    الأهلي يتغلب على الوحدة بهدف محرز في دوري روشن للمحترفين    أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس واعضاء مجلس ادارة جمعية التوحد بالمنطقة    مدني الزلفي ينفذ التمرين الفرضي ل كارثة سيول بحي العزيزية    مدني أبها يخمد حريقًا في غرفة خارجية نتيجة وميض لحظي    أمانة القصيم توقع عقداً بأكثر من 11 مليون ريال لمشروع تأهيل مجاري الأودية    ندى الغامدي تتوج بجائزة الأمير سعود بن نهار آل سعود    «سلمان للإغاثة» يختتم المشروع الطبي التطوعي للجراحات المتخصصة والجراحة العامة للأطفال في سقطرى    6 مراحل تاريخية مهمة أسست ل«قطار الرياض».. تعرف عليها    محرز يهدي الأهلي فوزاً على الوحدة في دوري روشن    المملكة تفوز بعضوية الهيئة الاستشارية الدولية المعنية بمرونة الكابلات البحرية    القادسية يتفوق على الخليج    نعيم قاسم: حققنا «نصراً إلهياً» أكبر من انتصارنا في 2006    النصر يكسب ضمك بثنائية رونالدو ويخسر سيماكان    "مكافحة المخدرات" تضبط أكثر من (2.4) مليون قرص من مادة الإمفيتامين المخدر بمنطقة الرياض    الجيش السوري يستعيد السيطرة على مواقع بريفي حلب وإدلب    خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    السعودية تتسلّم مواطنًا مطلوبًا دوليًا في قضايا فساد مالي وإداري من روسيا الاتحادية    «الأونروا»: أعنف قصف على غزة منذ الحرب العالمية الثانية    الشؤون الإسلامية تطلق الدورة التأهلية لمنسوبي المساجد    والد الأديب سهم الدعجاني في ذمة الله    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    وكيل إمارة جازان للشؤون الأمنية يفتتح البرنامج الدعوي "المخدرات عدو التنمية"    وزارة الرياضة تُعلن تفاصيل النسخة السادسة من رالي داكار السعودية 2025    المياه الوطنية و sirar by stcيتفقان على تعزيز شبكة التكنولوجيا التشغيلية في البنية التحتية لقطاع المياه    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    طبيب يواجه السجن 582 عاماً    «كورونا» يُحارب السرطان.. أبحاث تكشف علاجاً واعداً    ذوو الاحتياجات الخاصة    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    رواد التلفزيون السعودي.. ذكرى خالدة    روضة الآمال    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    بالله نحسدك على ايش؟!    رسائل «أوريشنيك» الفرط صوتية    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمين الحافظ يتذكر ما أغفله ايلي سالم
نشر في الحياة يوم 07 - 06 - 1993

مذكرات الصديق الدكتور ايلي سالم نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية اللبناني السابق التي تنشرها "الوسط" على حلقات أتابعها بشغف، وأتفحصها وأفحصها بكثير من التدقيق والتبصر. ليس فقط لأن هذه المذكرات تدور حول احداث سلخنا حقبة بليغة من عمرنا في معايشتها وممارسة بعضها، وليس فقط لأن طاقات هُدرت، وأرواحاً زُهقت، ومواقع هُدمت، ووطناً تدمر وكاد يتلاشى هو وطننا، بل ايضاً لأنني عندما مضيت في مطالعتها اكتشفت ظاهرة غير مألوفة تستحق التوقف عندها، على الاقل من باب الفضول، دفعتني الى متابعة ذلك التحول والتغير الذي حدث في شخصية استاذ جامعي ابتدعته الاقدار وأعادت خلقه، ولا أقول مسخته الى غير رجعة سياسياً محترفاً، يتقن المناورة لأنها من متطلبات اللعبة، ولو اهمل الرزانة العلمية، ويجيد مخاطبة اهل الحكم والمسؤولين مخفياً اموراً ومعلناً اخرى، ولو ركن جانباً واجب العَالِم ان يقول كل الحقيقة، ولا شيء الا الحقيقة. والدليل أنه كتب هذه المذكرات بأسلوب السياسي المحترف لا بنهج رجل العلم.
وبصراحة وجدت نفسي، من دون أن أتعمد، ماضياً في مقارنة ما تأتّى لصديق وما طرأ عليه، بصروف الزمن التي كانت قبل ذلك بعقود ثلاثة داهمتني، اذ انني قدمت من مرتع شبيه، وهو العالم الجامعي، ومن موقع مماثل الى حمأة فرض على كلينا فيها ان يخضع لبعض قواعدها، وأن نبتكر لأنفسنا اعذاراً وذرائع، كي نبرر ما يعلق بأهدابنا من أدران.
عرفت البروفسور ايلي سالم في الحرم الجامعي مثقلاً بالمسؤوليات يستعين عليها بطبعه المرح، مدركاً تجهم الخلاصات التي تتولد من مادة العلوم السياسية حول ظروف بلدنا ومنطقتنا، فيجرع مرارتها لطلابه بضحكة فاقعة رنانة تنسي بحلاوتها في المظهر شناعة صروف ومجريات الاحداث في وطننا، ولو الى حين، فيتعلق به ويستعذب دروسه وحلقاته مئات الطلاب وعشرات الاساتذة. وكنت انا منهم وما زلت!
فاذا به في "مذكراته" يروي احداثاً بريشة مغموسة بالطلاوة والجاذبية، لكنها تفتقر في عدد وافر من المقاطع الى "البراءة" التي كنا نتلذذ بها من خلال صخبه المجلجل قبل ان تدركه الوزارة والسياسة والديبلوماسية، فيُظلم من خلال رواياته الذهن، ولا يعود القارئ يعرف ما اذا كان بامكانه ان يتمتع بالطرائف التي يرويها الكاتب من خلال سطور الحديث عن الليالي المدلهمة بالسواد والصباحات الملطخة بالدماء، او ان يبتسم لها في حين ان كل متتبع لما جرى ايام وزارته، علم ان كثيراً من الحقائق طمس، وأن بعضها تحور، وان المسؤولين في تلك الفترة الذين كانوا يدعون الفخر انقلبوا عنه الى التنصل والزعم بالتبرؤ.
ولقد دأب الكاتب في مذكراته على القفز من واقعة يمعن اسهاباً في وصفها الى اخرى يتعمد ان يمر عليها مرور الكرام، ويكاد يتمنى لو يتمكن من اغفال ذكرها تماماً، فلا يخصها الا بمجرد الذكر في حين انها هي التي تستحق التوقف عندها لأنها تكون من المفاصل الرئيسية لقصة ولاية الرئيس امين الجميل. واليكم مثالاً على ذلك.
من المعروف ان حجر الرحى في تلك الولاية كان اتفاق 17 ايار مايو 1983 الذي نعت بالمشؤوم، وأن سنوات العهد الست يمكن تلخيصها بأنها كانت مسرحاً لسلسلة لا تنتهي من كر وفر، ومطاردة وملاحقة، وتصلب ثم ملاينة، ثم عودة الى البدء، المرة تلو المرة. وكان هذا التحرك السياسي المتغلب يجري في اجواء دموية تدميرية هي امتداد لما كان قبل العهد ولما حدث بعده. الا انه تميز عن سائر العهود التي عايشت الفتنة بأنه كان لا ييأس من رحمة الكبار، ولا يفقد ثقته بنفسه وبأنه يستطيع ان ينال منهم مأربه، بالحيلة حيناً او بالمفاجآت احياناً او بضربة حظ كأنه يقول لنفسه: لعل وعسى.
توالت الاحداث اثناء المفاوضات على الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي وبعدها، بحيث قتل وهو جنين، لا بفضل المعارضة اللبنانية الشعبية والرفض السوري القاطع فحسب، بل قبل كل شيء بسبب التخلي الاميركي الذي عهدناه منذ ما قبل تلك الفترة وبقينا نكتوي بناره حتى يومنا هذا. وانعقد مؤتمر جنيف اواخر العام 1983 في محاولة تصالحية كان من ابرز مهامها دفن ذلك الوليد المجهض، فابتدعت عبارة "التجميد" للاتفاق، وطلب المؤتمرون من الرئيس الجميل البحث عن بديل يؤدي الى التخلص من الاحتلال الاسرائيلي للجنوب من دون ان يأتي ذلك مشفوعاً بمبادئ "17 ايار"! انطلق رئيس الجمهورية في هذه الطريق متطلعاً بعين الى الافق الذي ينشده له مؤتمر جنيف، لكنه بقي رانياً بالعين الاخرى الى الوراء، لعل النخوة الاميركية تعود فتستيقظ وتعينه على حمل اسرائيل وسورية على تسهيل عودة الروح الى الاتفاق الميت.
"اعتمدوا علينا"
وفي احدى الأمسيات الزاهرة من اواخر تشرين الثاني نوفمبر 1983 وبينما كنت امتع النفس في فندق "بلازا اتينيه" في باريس، وأستريح بعيداً عن الاتون الجهنمي في لبنان الذي كنت غادرته قبل ايام، اتتني مخابرة هاتفية من الرئيس امين الجميل اعادتني الى الوعي السياسي الذي جعلتني دوامة العقم انساه، اذ طلب مني ان ارافقه في رحلته الى واشنطن لمقابلة الرئيس ريغان، فأحلّ مكان رئيس الوزراء شفيق الوزان الذي لم يعد اشتراكه في مثل هذا الوفد وارداً، لأن انهيار اتفاق 17 ايار مايو جعل من المقتضى ان تملأ الفراغ الاسلامي في الوفد اللبناني شخصية عارضت ذلك الاتفاق. قبلت في الحال عندما فهمت من الرئيس ان الذهاب الى واشنطن هو من اجل تنفيذ ما اتفق عليه في جنيف.
تركت باريس الى العاصمة الاميركية التي وصلتها صباحاً فتوجهت في الحال الى دار التلفزيون بطلب من برنامج "صباح الخير يا اميركا" الواسع الانتشار، وجرى بيني وبين المذيع الحوار الآتي:
لماذا أتيتم هذه المرة الى واشنطن؟
- لأن رئيسنا عندما حضر في المرة السابقة وقف الرئيس ريغان الى جانبه في البيت الابيض امام كل وسائل الاعلام، اي امام العالم بأسره، وتطلع اليه بنظرة ملؤها القوة والثبات والثقة بالنفس، ثم ضرب بيده على صدره وهو يهتف: "تستطيعون ان تعتمدوا علينا"! ومنذ ذلك الحين أصبحت الحالة في لبنان تسير من سيىء الى أسوأ، فالشرعية تفقد كل يوم موقعاً لها، والقتل قائم يتزايد، والسيادة ممزقة، والاستقلال منتهك، بينما تكتظ ادراج مكاتب رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية بعشرات البرقيات من رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبين، وآخرهم الرئيس الحالي، وهي تؤكد وتشدد على حرصهم على استقلال لبنان وحريته وسيادته وديموقراطيته. فنحن هنا اليوم لكي نجد كيف يمكننا أن "نعتمد" عليه!
فسارع المذيع الى سؤالي:
هل معنى ذلك أن الرئيس ريغان خيّب أملكم؟
وهنا لم يعد من الجائز لي أن أتمادى في لهجتي التهكمية، لئلا أقع في مجافاة اللياقة بالتحدث باسم من لم يصل بعد وينتظره أصحاب الدعوة في المساء، فسارعت الى بعض الاستدراك قائلاً:
- نحن بالضبط موجودون هنا لنكشف لأنفسنا عما إذا كان علينا أن نشعر بخيبة الأمل، أو ان هناك أملاً جديداً بالمستقبل.
وهكذا تمكنت من التخلص من الحرج، لكن كل ما أفضيت به من حديث تلفزيوني، وهو يحوي بعض العتاب وبعض اللوم، لم يكن ليروق لرهط من أنصار الرئيس الجميل ومحازبيه الذين كانوا ينتظرون قدومه، وذلك تمشياً مع ما تعودوه حيال الحاكم "الفرنجي" بأن يداهنوه لعله يرضى، وان يبادروه قبل أن يغضب بالقول "انما الفيلة تحتاج الى فيل".
ولما حطت الطائرة ليلاً وخرج الجميّل منها هرع هؤلاء الى الاحاطة به وانبرى بعضهم يشكوني اليه، بينما طفق البعض الآخر يهيب به ألا يتخلى عن اتفاق 17 ايار، فتشجع الرئيس وتحمس - وهو ما زال في المطار - وارتجل في الحال أول تصريح له، وهو يتضمن تنويهاً بالاتفاق المشؤوم! وكان يرافق الرئيس بقية أعضاء الوفد الذين أذكر منهم الوزير ايلي سالم والدكتور علي الخليل والاستاذ غسان تويني والدكتور وديع حداد والسفير عبدالله بوحبيب، فلم أملك إلا أن أعرب أمامهم عن امتعاضي من هذه المفاجأة التي ما كنت أتوقعها بعد وعود جنيف. وبلغ اعتراضي سمعه، ولا أدري ما إذا كان هذا الاعتراض سبباً في امتناعه عن العودة فيما بعد الى التحدث عن الاتفاق، ولكني أرجح أن السبب الرئيسي كان أنه سرعان ما اكتشف عند لقائه الأول بوزير الخارجية جورج شولتز أن اتفاق 17 ايار مايو أصبح، في الحساب الأميركي، في خبر كان، لأن اسرائيل بالذات لم تعد تريده، بل انها زهدت به مسبقاً يوم اتضح لها أنها لن تتمكن من تطبيع العلاقات بينها وبين لبنان، بل بالأحرى بين الشعبين، لأن اللبنانيين يرفضون كامب دايفيد جديدة. فعمدت اسرائيل حينذاك الى إرسال الرسالة الشهيرة الى شولتز وفيها أن الاتفاق لن يكون سارياً إلا اذا تزامن انسحاب القوات السورية مع الانسحاب الاسرائيلي. وبديهي ان الاسرائيليين من الذكاء بحيث أنهم يعلمون أن مثل هذه الدعوى التزامنية من شأنها أن تنسف الاتفاق من أساسه، مما يدل على أنهم هم الذين نسفوه فعلاً، ربما لأنه لم يكن يفي بكل ما ابتغوه، وربما لأنهم أدركوا ان رجوع الاستقرار الى لبنان في ذلك الحين ليس هذا أوانه قبل إتمام الاجهاز على كل احتمال بأن يعود لبنان للوقوف على رجليه لينافس اسرائيل يوم تدخل المنطقة عن طريق عملية السلام الشامل التي كانت التحضيرات لها بدأت.
وبينما كان من واجب شولتز البديهي ومن مصلحة سمعته كمهندس للاتفاق أن يرفض تسلم الرسالة الاسرائيلية، وهو يعلم أن رصاصة الرحمة تطلق على الاتفاق، إذا به لا يحرك ساكناً، وكأنه يريد أن يتنصل من شبهة الصداقة مع العرب وأن يهيىء لمستقبل أشد اغراء له عند أصدقاء جدد، حظي بموقع سخي عندهم فيما بعد.
وأمضي في ذكرياتي فأستحضر الوقائع التالية: عندما اجتمعنا في البيت الأبيض للبدء بالمحادثات يوم الأول من كانون الأول ديسمبر 1983 دخل الرئيسان ريغان والجميل الى المكتب البيضاوي واختليا بعض الوقت. في هذه الأثناء اقترب مني السيد لورنس ايغلبرغر الذي كان يومذاك مساعداً لنائب وزير الخارجية، والذي اشتهر بالألمعية والذكاء الحاد، وفي الوقت نفسه بالتحيز المروع لاسرائيل، وبأنه تلميذ نجيب لداهية الصهيونية الدكتور هنري كيسنجر، وهو رقي فيما بعد الى منصب نائب وزير الخارجية أيام الرئيس بوش، ثم تسلم في آخر الولاية مركز وزير الخارجية عندما تفرغ جيمس بيكر للانتخابات الرئاسية. اقترب ايغلبرغر مني وبدأ معي الحوار الآتي:
شاهدت بالأمس حديثك التلفزيوني فأثار اهتمامي وترك عندي انطباعاً قوياً، ولكني أرجوكم ان نتعاون سوية من أجل ارجاء تعهداتنا حيال لبنان الى ما بعد.
- لماذا؟
لأن علينا ضغطاً قوياً من الكونغرس يجبرنا على الانسحاب عسكرياً من القوة المتعددة الجنسيات بعد الانفجار الذي أودى بحياة مئات جنود المارينز، وسياسياً بعد أن فشل اتفاق 17 ايار مايو.
- انك - يا مستر ايغلبرغر - تقول الحقيقة، بل نصف الحقيقة ولا تذكر النصف الثاني وهو: ما هي القوة التي تمارس الضغط على الكونغرس لكي يضغط عليكم في الادارة؟
ماذا تعني؟
- أعني أن انسحابكم العسكري ليس سببه الانفجار، وكنتم دائماً تقولون إنكم لا تخافون ولا تذعنون لمن تسمونهم "الارهابيين"، كما ان انسحاب حاملة الطائرات "نيوجرسي" ليس سببه رشقات المدفعية الضعيفة التي كانت تناوشها من مرتفعات جبال الشوف! وكذلك حكاية فشل الاتفاق الاسرائيلي - اللبناني، لأن اسرائيل هي السبب في كل هذه الحالات، لأنها لا تسمح بأن تتم تسوية أو يحصل تدخل منكم في منطقة الشرق الأوسط من دون إشراكها هي كشرطي أو كلاعب أول، ولقد تجاوب معها "اللوبي الصهيوني" الأميركي فأحسستم بالضغط على الكونغرس، ثم بضغط الكونغرس عليكم. وإذا بقي الأمر على هذا المنوال فلن يتاح للولايات المتحدة أن تبرهن على مصداقيتها في أمور تتعلق بحقوق العرب عامة، وبالوعود التي قطعتها للبنان كي تساعده في استعادة سيادته واستقلاله.
صحة الأسد
وهنا أدركنا الوقت، وقطع علينا الحديث خروج الرئيسين، فاتجهنا الى طاولة المحادثات. ولشد ما كانت دهشتي عندما اتضح لي أن إلمام الرئيس ريغان بالموضوع كان سطحياً ومجزوءاً، وان المتحدثين الأساسيين كانا شولتز وايغلبرغر. وزادت دهشتي عندما سمعت من أفواه الحاضرين من الأميركيين ما يتناقض مع حديث الأخير معي على انفراد، اذ تجددت عبارات التأكيد بالحرص على حل الأزمة اللبنانية في أسرع وقت من أجل استعادة لبنان حريته واستقلاله وسيادته و... و... والخ!!
لكني بدأت أحس ان في الجو نوعاً من الاتفاق على ترقب حدث ما يكون من شأنه أن يغير الأحوال، وربما يعيد الحياة الى الاتفاق الاسرائيلي - اللبناني، وسرعان ما تحول احساسي الى ظن ثم ظني الى شبه يقين، اذ ما لبثت أن فوجئت بالسيد ايغلبرغر نفسه يوجه إليّ الحديث من دون غيري، وهو يسأل:
ما هي معلوماتك عن صحة الرئيس حافظ الأسد؟
لم يخف عليّ مغزى اختياري أنا بالذات للاجابة عن هذا السؤال، ومن المعلوم ان الرئيس السوري كان وقتئذ يمر بفترة نقاهة بعد وعكة صحية رافقتها إشكالات سياسية داخلية، ولم أتأخر طويلاً في التفكير، بل أجبت متعمداً تغليف ردي ببعض الفكاهة قائلاً:
- معلوماتي أن صحته ليست في الوقت الحاضر من التحسن بالدرجة التي تتحدث عنها وسائل اعلامه، ولكنها في الوقت ذاته ليست من السوء على الوجه الذي يتمناه له اعداؤه!
وصدحت الضحكات الصاخبة، وكان أوقعها رنيناً ضحكة صديقي الوزير إيلي سالم.
وبعد،
إذا كنت أنا - صاحب الدور الطارىء الهامشي في تلك الرحلة - تجمَّع لدي كل هذا الدفق من المعلومات حول منعطف رئيسي من تاريخ العلاقات الأميركية - اللبنانية لا يزال ماثلاً بواقعه وآثاره حتى الآن، فما قولكم بما يمكن أن يكون تحصل في جعبة الدكتور سالم، وهو الذي قام بالدور الأول في هذه العلاقات خلال تلك الحقبة، حتى لو نافسه في دوره هذا كل من الاستاذين وديع حداد وغسان تويني؟ وعلى رغم ان الصديق إيلي كان خلال اقامتنا في واشنطن يهمهم كأنه يحدث نفسه مشتيكاً مما كان يسميه "الوشوشات" والمناورات والأحابيل التي كانت تطلق حوله في أذن الرئيس الجميل، فإن مجرد اختيار الرئيس الجميل له في البداية وزيراً للخارجية بسبب علاقاته الأميركية الحسنة أدى الى إضعاف تأثير أصحاب المناورات فهل يدهشنا كثيراً كون كاتب المذكرات مر على كل قصة الرحلة الجميلة الرئاسية الأخيرة والحاسمة الى واشنطن بجملة واحدة مقتضبة هي الآتية: "وفي واشنطن اكتشفنا بعد محادثاتنا مع ريغان ونائبه جورج بوش وشولتز وكبار المسؤولين الأميركيين أن الولايات المتحدة تريد الانسحاب من لبنان بعد فشل الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي".
فقط لا غير؟
وإذا لم تكن عندنا هذه الخلفية التاريخية فكيف يمكننا أن نتبصر بوضوح في مآل التدبير الأميركي حول لبنان إبان مخاض جولات المفاوضة الثنائية المقبلة، ثم في متاهات المفاوضات المتعددة الأطراف اذا ما عقدت؟
ألا يستحق هذا المستقبل من صاحب التجربة الغنية أن يمدنا بأكثر من هذه الجملة المقتضبة التي لا تسمن ولا تغني من جوع؟ أم لعل في الكتمان ما يراه صديقنا ذا فائدة وطنية يستعين به من أجل لبنان وصوناً لمستقبل العلاقات اللبنانية - الأميركية، ولا يستعمل الكامن المختبىء ولا يخرجه الى الهواء والنور إلا عندما تأزف ساعة "الحشرة"!
***
وأخيراً، لا أزال أتابع بنهم مسلسل هذه المذكرات من خلال "الوسط"، وقد يكون لي عود اليها عندما استكمل القراءة وبالتالي استكمل ما عندي من تعليقات ومداخلات.
* رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب اللبناني ورئيس الوزراء السابق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.