ميشال طراد ليس مجرد شاعر يكتب بالعامية اللبنانية، بل إنه عنوان لمغامرة شعرية تضاهي تجربة سعيد عقل تألقاً وريادة. فصاحب "جلنار"، العائد الى النشر بعد صمت طال، هو الذي صفى الزجل اللبناني من عاميته وشفويته ومحليته، ليجعله نصاً شعرياً مثقفاً، مكتمل البناء والتركيب. وتتهيأ "دار لحد خاطر" البيروتية، هذه الايام، لاصدار ثلاث مجموعات جديدة للشاعر. بهذه المناسبة قصدته "الوسط" في داره في زحلة، حيث يعتكف، متلفعاً بثمانيناته، رافضاً مقابلة الصحافة او الانخراط مجدداً في الحياة الثقافية. وكان هذا اللقاء العفوي، مزيجاً من التعريف بالتجربة والاستعادة للذكريات. خلال زيارتنا له في منزله الذي ورثه عن جده لأبيه، في مسقط رأسه زحلة، رغب ميشال طراد، شاعر العامية اللبنانية، ان نجلس معاً لمشاهدة شريط "فيديو" يحتوي على وقائع الاحتفال التكريمي الذي أقيم له في عمان لمناسبة تقليده وساماً رفيعاً تقديراً لمنجزاته الشعرية. لكن زوجته وابنته الكبرى غير المتزوجة، اللتين يعيش الشاعر في "رعايتهما" و"كنفهما"، قطعتا الطريق علينا وعليه، متذرعتين تارة باقتراب موعد انقطاع التيار الكهربائي، وطوراً بلا جدوى مشاهدة الشريط، "طالما ان الصحافة في لبنان، قد ازدرت شعر ميشال طراد وانكرت عليه عظمته وعالميته". ولما كرر ميشال طراد، بعد وقت، رغبته في مشاهدة الشريط، بلغ التذمر والضيق بزوجته ان زلّ لسانها، فقالت لزوجها الجالس الى جانبها خلف المدفأة، بغضب يكتنفه الرجاء: "خلص يا ماما". ثم لاحظت اننا انتبهنا المصور وأنا، الى زلة لسانها فشعرت بحرج وارتباك لم تجد وسيلة لدفعهما عن نفسها غير المضي في تقشير حبات التفاح وتقطيعها على نحو يعدّها لصناعة المربى. وقبل أكثر من شهر على مجازفتنا في زيارته من غير موعد مسبق او محدد، كنت اتصلت هاتفياً من بيروت بمنزل ميشال طراد طالباً مقابلته بمناسبة صدور الطبعة الثالثة من مجموعته الشعرية الاولى "جلنار"، مرفقة بمجموعة شعرية جديدة عنوانها "عيد الشحادين". قالت لي ابنته آنذاك، ان والدها مشغول هذه الايام في اعداد مجموعات شعرية ثلاث للطبع وطلبت ان اعيد الاتصال بها بعد شهر، علّه يكون فرغ من عمله، فنتفق على موعد للزيارة - المقابلة. في تلك الاثناء، وقبل ان اعيد الاتصال، عرفت ان الابنة اعتادت على "قطع سبل" الاتصالات الصحافية بوالدها والحؤول دون مقابلته "لأسباب غامضة"، مرتبطة حسب البعض ببلوغ الشاعر "ارذل العمر" و"بعدم مقدرته على الكلام". وهذا ما حملني على السعي في اثر اصدقاء لميشال طراد ومعارفه للحصول منهم على شهادات فيه وذكريات لهم وإياه. اهتديت الى الدكتور ميشال جحا، الذي قيل لي انه كان على معرفة قريبة بميشال طراد، فأخذت عنه ما لديه. ومما رواه جحا انه في آخر مرة التقى طراد منذ سنوات، وضع الاخير كفيه على صدغيه قائلاً: "رأسي... رأسي... يا ميشال، يؤلمني ولم يعد في مستطاعي حمله، كأن به صرع، يا ميشال". ثم قلت اسعى في اثر شقيق عبدالحليم كركلا الاكبر، المقيم في بلدته بعلبك، لأنه قضى ثلاثين سنة برفقة ميشال طراد، كانا في اثنائها في سلك الوظيفة ضمن الفريق المكلف بحراسة القلعة الاثرية طيلة فترة احياء المهرجانات الدولية فيها. وطالما كان لا بد من الذهاب الى بعلبك، قلت اعرّج على زحلة علني أفوز بلقاء ميشال طراد ومحادثته شخصياً. وان عزّت المحادثة احاول على الاقل الحصول على صور له جديدة ان امكن، او قديمة ان تعذر الحصول على جديدة، وطالما الشاعر قد انقطعت اخباره وندرت كصوره منذ زمن بعيد، فضلاً عن غيابه الطويل ايضاً عن "سوق" الثقافة والشعر ومنابرهما ومنتدياتهما. "غرفة الشتويّة" كنت اتوقع من المرأة التي فتحت لنا باب منزل الشاعر ميشال طراد - وهي ابنته - وأذنت لنا في الدخول، ان تقودنا الى غرفة داخلية يأوي فيها والدها المتعب المدنف في شتاء عمره، كما قيل لي في بيروت. لكن توقعي هذا لم يكن في محله، اذ ادخلتنا ابنة الشاعر غرفة جلوس شتوية هي اشبه بحضن في صدر المنزل الكبير، ذي سقف القرميد القديم العالي. واذا بميشال طراد يستقبلنا على باب الغرفة منتصب الاهاب، طلق المحيا، سليم الجسم، من غير ان يظهر عليه انه ينوء بثقل السنوات الثمانين التي لم تترك في رأسه غير قليل من شعر شائب تركه يطول خلف اذنيه ويغطي اطرافهما وتنسدل خصلات منه فوق رقبته. وفي الغرفة اياها كانت تجلس ايضاً زوجته الى جانبه على مقعد طويل خلفه نافذة وفي محاذاته، على طاولة، جهاز التلفزيون. وكان في مستطاعي ان احدس في أي دفء وعزلة عائليتين يعيش "مجنون جلنار"، بحسب ما اطلق عليه ميشال جحا، تيمناً بلقب الشاعر الفرنسي الراحل اراغون، وعنوان اشهر مجموعاته الشعرية، "مجنون إلسا". لكن شتان ما بين النساء اللواتي يُكنىّ جنون الشعراء باسمائهن وبين زوجات الشعراء. طيلة الوقت الذي قضيناه مع ميشال طراد في غرفة منزله الشتوية العائلية لم تترك لنا زوجته وابنته ان نسترسل في محادثته، وغالباً ما كانتا تسبقانه الى الكلام في شؤون الشعر وشجونه والى ابداء الرأي في ما كُتب عنه وفي مجايليه من الشعراء والكتاب. كأنهما في هذا تقرران وتبتان في شأن اوامر من شؤون العائلة وامورها. او كأن نتاج الشاعر اشبه بإرث عائلي لكل واحد من افراد العائلة نصيبه منه. لكن المرأتين عز عليهما ان تتركا للشاعر الزوج والاب نصيبه من الكلام، الا في ما ندر وخلسة عنهما. كأنهما في ذلك تعوضان عن ضيق عالمهما الاجتماعي وعزلة بيتية "خانقة" انقطع الثلاثة اليها - الزوج والزوجة في شتاء العمر، والابنة في عمر عز ربيعه او ذهب سدى. كأن الثلاثة عاتبون على هذه الدنيا الجاحدة التي سدت منافذها في وجوههم ولم تترك لهم غير الخيبة يتقاسمونها ساخطين... ومع ان لتلك المرارة مبرراتها اذ ان ميشال طراد لم ينل ربما ما يليق بشاعر له قيمته، من المجد والتكريم، كما لم يحظ شعره بالانتشار الذي يستحق، فانه يبقى احد اكبر شعراء العامية العرب. فحين سألنا، في معرض اهتدائنا الى منزله، صاحب متجر للالعاب في ساحة زحلة اذا كان يعرف ميشال طراد، اجابنا دون تفكير وبنبرة فخورة يشوبها شيء من الاستنكار: "ومن لا يعرف الشاعر ميشال طراد؟!"... شعور بالغبن طيلة حديثنا وإياه كان شعور ميشال طراد العميق بالغبن طاغياً على كلامه. شعور بالغبن ممض وقاس، يتكبد الثلاثة مشقة حمله كأنه "مأساة" حياتهم، ونواة عبارتهم عن حالهم:"يقولون عن شعر ميشال طراد انه زجل؟! انهم اميون ولا يفقهون ما هو الشعر. ويقولون ان جلنار، المرأة التي اعطت اسمها لمجموعة ميشال طراد الاولى، هي ام فلان وزوجة فلان - يا عيب الشوم. ويقولون ان ميشال طراد كان حارساً في قلعة بعلبك، وهو كان مديراً للقلعة". على هذا النحو جعل الثلاثة يعلنون سخطهم. انه سخط وتذمر من يشعرون بخيبة خانقة لم يعد في العمر متسع لتداركها. خيبة مقيمة في النفس فلا تنصرف ولا تتزحزح، فيما العزلة والانكفاء والانقطاع تعمل على مضاعفتها وتضخيمها. ربما تتمثل خيبة ميشال طراد ومأساته كشاعر، في انه لم يكن الا ضيفاً عابراً على الحياة الثقافية اللبنانية، منذ ان افسحت له ولشعره موضعاً او مكاناً في منابرها ومحافلها ومنتدياتها في العاصمة - بيروت. فهو طيلة اطلالته على مشهد الحياة الثقافية في بيروت الاربعينات والخمسينات والستينات، ظل يعامل بوصفه قادماً من "ثقافة عامية ريفية"، كانت آنذاك ما تزال تشكل مصدراً اساسياً للثقافة اللبنانية القريبة العهد بالمدينة - بيروت. فميشال طراد احتُفي بشعره في بيروت لمقدرته الاستثنائية، الفذة والباهرة، على "تصفية" الزجل اللبناني من عاميته وشفويته الشعبية تصفية تامة، وإخراجه من عفويته ومن كونه "كشكولاً" من التراكيب والصيغ النمطية، وجعله نصاً شعرياً مكتوباً و"مثقفاً"، مكتمل البناء والتركيب. فعند صدور مجموعته الشعرية الاولى "جلنار" مطلع الخمسينات علق الكاتب مارون عبود على الحدث معتبراً ان "نجمه لمع" بعد "اعجاب المثقفين" بشعره. وكتب ميشال شيحا باللغة الفرنسية على الصفحات الاخيرة من المجموعة نفسها ان طراد اخرج العامية اللبنانية وشعرها من "الاغفال" و"الضياع". اما امين نخلة، صاحب "المفكرة الريفية"، فكان كتب في مطلع الاربعينات ان شعر طراد "استطاع ان يقطع الطريق على الفصحى بالعامية". تثقيف العامية اللبنانية لكن ميشال طراد لم يطل به المكوث في مقام التكريم والحفاوة ربما لأن تكوينه الثقافي العامي قد غلب على العناصر الاخرى من ثقافته. وربما لأن اقامته في المدينة لم تطل، فظل ضيفاً عابراً على محافلها. أي انه ظل، على حد ما كتب فؤاد سليمان: "جبلاً ينزل الى المدينة بكل ما فيه. وكان الناس في بيروت يموتون حباً بحكاياته التي كانت تحمل معها الصخور والرعيان والسنديان والثلوج والينابيع وبنات الضيع والفقر". كأن ميشال طراد لم ترسخ له قدم في المدينة وثقافتها وادوارها، فعاد سريعاً الى مسقط رأسه زحلة. ومأساة الشاعر الذي كان سباقاً في مضمار "تثقيف العامية اللبنانية" منذ الثلاثينات، تتمثل ربما في ان هذه العامية المثقفة راحت تثبت اقدامها في الحياة الثقافية للمدينة، منتزعة لنفسها موضعاً هاماً في صدر المشهد الثقافي اللبناني، مع بروز ظاهرة الاخوين رحباني وفيروز، ومع سطوع نجم سعيد عقل وشعره العامي. هكذا تراجع حضور ميشال طراد الى الظل والهامش، بعدما كان هو من ارسى المداميك الاولى ومهد لذلك البروز والسطوع. فالاخوين رحباني وفيروز ما لبثوا ان تحولوا الى مؤسسة ثقافية، وكذلك سعيد عقل، فصار شعر طراد يبدو من ملحقاتها، شأنه في ذلك شأن نصري شمس الدين بالمقارنة مع فيروز، وشأنه ايضاً شأن فيلمون وهبة بالمقارنة مع الاخوين رحباني. هكذا راح الشاعر يبدو معلقاً بين زمنين وثقافتين: فهو ليس في الزجل اصلاً، لكنه ظل على حدود العامية المثقفة، فلم يتمكن من تصدّر محافلها كسعيد عقل والاخوين رحباني. لذا حين يعود ميشال طراد الى القاء نظرة على مجموعاته الشعرية العشر ويجد فيها ما يضعه في مصاف شعراء ونجوم كبار، يصاب بالخيبة ويشعر بالغبن. لكن يغيب عن بال ميشال طراد، ربما، ان ليس ما كتبه الاخوان رحباني من شعر هو من صنع وحده مجدهما ونجوميتهما، بل ان صوت فيروز والموسيقى والمسرح والاغنية والمهرجانات صنعت، مجتمعة، هذا المجد وتلك النجومية. ويغيب عن باله ايضاً على الارجح، ان سعيد عقل لا يدين بشهرته وموقعه لأشعاره في العامية اللبنانية وحدها، بل لمساهماته في تجديد الشعر العربي ولمجموعة عوامل اخرى... كأنما تمتاز مسيرة ميشال طراد الابداعية في البحث الدائم عن موقع يميزه وعن مكان. وكأنه في ذلك شأن العصاميين الذين خرجوا عن محيطهم وثقافتهم المحلية، فلم يكتب لهم الانتماء الى عالم بديل، بل بقوا متأرجحين بين عالمين، معزولين في مشاعر اليتم والاغتراب والقطيعة. وهؤلاء سيرتهم كناية عن تغريبة متواصلة فما هي تغريبة ميشال طراد؟ محطات من تغريبة الشاعر تبدأ تغريبة ميشال طراد، المولود في زحلة عام 1912، باختفاء والده موسى طراد في اواخر الحرب العالمية الاولى. ففي اثناء تلك الحرب التي جلبت المجاعة الى لبنان، كان موسى طراد من بين الذين جعلوا ينقلون القمح على بغالهم من حوران الى لبنان، دفعاً للفقر والجوع. في واحدة من تلك الرحلات اختفى موسى طراد ولم يعد الى بيته في زحلة، فقيل انه تعرض للسطو وقتل وانقطعت اخباره، مخلفاً وراءه زوجته مهيبة ايوب، ابنة عم الشاعر المهجري رشيد أيوب وطفلين صغيرين هما ميشال الذي لم يكن تجاوز السادسة آنذاك، وماري التي تصغره بسنتين. بعد اختفاء زوجها انتقلت مهيبة أيوب بطفليها الى منزل اهلها في بسكنتا، بجوار جبل صنين، حيث عاشت عائلة الفقيد في كنف اهل الزوجة - الارملة. وحين يروي ميشال طراد "بلغته" ما يذكره عن حادثة اختفاء والده الذي يصعب عليه تذكره، يقول: "مات ابي وأنا صغير. لفّتنا امي في طرحتها السوداء. وحملتنا واخذتنا على بيت جدي ببسكنتا". وهناك تعلم ميشال طراد في مدرسة الضيعة، قبل ان يعود الى مسقط رأسه، زحلة، حيث تابع تعلمه بمدرسة الفرير، ثم انتقل الى مدرسة الحكمة التي مكث فيها نصف سنة وبعدها انتقل الى مدرسة "اللاييك". كما درس سنة كاملة في "الجامعة الوطنية" بعاليه، على يد مارون عبود، وسنة اخرى في "الكلية الارثوذكسية" بحمص. ويتابع ميشال طراد: "... ثم لم يبق معنا فلوس، فرجعت الى مدرسة الحياة، ورحت اتعلم منها اشياء واشياء، وما زلت الى الآن تلميذاً على مقاعد هذه المدرسة". "مدرسة الحياة" في بسكنتا التي انجبت ميخائيل نعيمة ورشيد ايوب، هي التي حملت ميشال طراد على كتابة اولى قصائده في ظل شجرة جوز كبيرة، عام 1921: "ع طريق العين محلا التكتكي والقمر ع كتف صنين متكي بيكشح الغيمات تياخذ هوا وبيطل بوجه، وبيوجه حكي". من مجموعة طراد الاولى "جلنار" وعلى مقاعد الدراسة في "الجامعة الوطنية" بعاليه، كان الشعر رفيق تغريبة ميشال طراد. وكتب مارون عبود، استاذه في المدرسة المذكورة، ان تلميذه ميشال طراد "اجاد الرثاء" في حفل تأبيني اقيم في المدرسة لمناسبة وفاة جبران خليل جبران في مطلع الثلاثينات. وروى ادونيس في آخر كتاب له بعنوان "ها أنت ايها الوقت - سيرة شعرية ثقافية" انه قبل مجيئه الى بيروت قرأ لميشال طراد قصائد في مجلة "القيثارة" التي كانت تصدر في مدينة اللاذقية في الاربعينات، بادارة واشراف الشاعر كمال فوزي. اما اول عهد ميشال طراد بنشر قصائد له في بيروت فكان في جريدة "العاصفة" لكرم ملحم كرم الذي كتب مارون عبود انه نشرها تحت عنوان "ابن عم الشعر". لكن ميشال طراد روى ان قصائده، قبل نشره لها في الجرائد والمجلات، "كانت معروفة من ناس كثر، كل واحد يقطف منها عنقوداً ويسرق خصلة ويضعها في سلته. كانت مشاعاً، كرماً على درب، ارضاً سايبة ما إلها حدا. وكانوا يرددونها ويتناقلونها من ضيعة الى ضيعة". كانت هذه حال قصائد ميشال طراد المكتوبة بالعامية اللبنانية، خارج دائرة الشعر "الثقافي"، قبل ان يطرح بعض المثقفين والشعراء اللبنانيين مسألة اخراج الشعر من جموده وتقليديته الراسخة، ودفعه الى محاكاة صور الحياة اليومية المحلية المعاشة في لبنان الجبل. وما نشر هذا الشعر في المجلات والجرائد اولاً، وفي مجموعة مستقلة ثانياً، إلا خير دليل على ذلك. نشر ميشال طراد مجموعته الشعرية الأولى "جلنار" عام 1951، في "مطبعة حريصا" التي رفضت أن يرد اسمها على الكتاب. هكذا نقرأ على الصفحة الأخيرة من الطبعة الأولى ل "جلنار": "إنطبع بلبنان" بالعامية. وروى طراد انه، أيام طبع مجموعته، كان يقصد حريصا بصحبة كل من علي بزي وجورج جرداق ووليد تويني، للقيام بتصليح "بروفات" القصائد. وكان شاعر ثان، من زحلة هو الآخر، ومولود في العام نفسه مع ميشال طراد، سبق هذا الأخير بعام في نشر مجموعته. وكانت المجموعة بعنوان "رندلى" وصاحبها ليس إلا سعيد عقل. لكن هذا الفارق الزمني لصالح سعيد عقل، لم يمنع يومها مارون عبود من تفضيل "جلنار". وقد كتب يعلق على الديوان، مقيما مقارنة ضمنية بينه وبين "رندلى"، ومعتبراً ان "طبيعة طراد وتأنقه، يمحوان آثار تكلفّه، فتخال أن ما يقوله قد جاءه عفو الطبع، مع أنه يفتش عن الكلمة شهراً أو شهرين، ويظل يركض شهراً خلفها". أما "القرابة الكبيرة" المزعومة بين الديوانين، فيعتبرها عبود ثانوية و"أكثر من الدرجة الرابعة". ويرى مارون عبود أن "الروعة الفنية التي تجدها في "جلنار" لا تجد شيئاً منها في مقدمة "سعيد عقل لها". فسعيد الذي كتب بالعامية اللبنانية مقدمة "لجلنار"، ضمنها كعادته "رضاه" و"بسط سلطانه ومجده" عليها، بأن كتب: "ما بعرف، ما بعرف أنا كنت متأكد أنو رح يخلق ميشال طراد". كأن هذا الأخير لم يكتب ما كتبه من شعر لو لم يكن بالأصل في خاطر سعيد عقل. وهذا ما كتبه أيضا في تقديمه لأحد أعمال الاخوين رحباني الأولى التي قدمت في بعلبك وطبعت في كراس صغيرة. من "شعر" الى صوت فيروز وشاعرية ميشال طراد لم تلبث أن وجدت سبيلها الى صوت فيروز التي غنت خمس قصائد من "جلنار". ولما صدر العدد الأول من مجلة "شعر" في شتاء العام 1957، و"كان الذين هيأوا ... وشاركوا في التخطيط لها، وفي مقدمتهم يوسف الخال، يؤسسون بوعي كامل لمرحلة جديدة من الشعر العربي، مفهومات وطرائق تعبير"، بحسب ما كتب أدونيس في "سيرته الشعرية الثقافية"، ضم العدد الأول من "شعر" قصيدة لميشال طراد الى جانب قصائد لكل من: سعدي يوسف، نازك الملائكة، ألبير أديب، ابراهيم شكرالله، بدوي الجبل، فؤاد رفقة، فدوى طوقان، يوسف الخال، وأدونيس. وهذا يعني أن شعر ميشال طراد قد دخل "نادي" المثقفين ورواد الشعر العربي الحديث من بابه الواسع. لكن ميشال طراد نفسه لم يكن من "محترفي" الثقافة، لا في حياته ولا في معاشه، لذا فهو لم ينضم الى نواديهم ومحافلهم، بل ظل على "هامش الحياة الثقافية" ومعاركها الصاخبة. ثم ان اليتم والفقر حملا ميشال طراد في شبابه على طلب وظيفة في "كوبراتيف" تعاونية تابعة لثكنة رياق العسكرية، أيام الانتداب الفرنسي على لبنان. وقد ساعده على نيل هذه الوظيفة ضابط لبناني في الجيش معجب بشعره، فجعل له دراجة هوائية من دراجات الجنود ينتقل بها من بيته في زحلة الى رياق، لقاء راتب لم يكن يتجاوز ال 18 ليرة في الشهر. ثم لم يلبث ميشال طراد أن نُقل من وظيفته في "الكوبراتيف" وعين حارساً لقلعة بعلبك التي قضى في حراستها حوالي 35 سنة من عمره. وفي مقال له بعنوان "العمود السابع" كتب فؤاد سليمان مخاطباً الأمير رئيف أبي اللمع وزير التربية آنذاك، بصفته المسؤول الأول عن السلم الوظيفي الذي كان في عداده ميشال طراد، كتب سليمان ان طراد "أثمن على قلب لبنان من عواميد بعلبك الستة ... وان حنجرة هذا الشاعر العظيم في لبنان، تيبس بين عواميد المرمر ...، وهي أي الهياكل والأعمدة حزينة لأن شاعرها يفني شبابه وغناءه في مقابل مئتي ليرة" يتقاضاها لقاء وظيفته المضجرة في حراستها. ولما توفي فؤاد سليمان الذي كان لقلمه يد طولى في التعريف بشعر ميشال طراد، أنشده هذا الأخير مؤبناً: "يا زنبقات البيض ما تفكو الحداد/ اليوم مات خيِّ فؤاد". وكما صرف ميشال طراد شبابه موظفاً صغيراً منزوياً في حراسة قلعة بعلبك لقاء راتب ضئيل، صرف حياته العاطفية في حب مستحيل لفتاة تكبره بسنوات تسع اسمها جلنار. وجلنار هذه هي المرأة التي يلوح طيفها الموجع والمستحيل في قصائد المجموعة الشعرية التي خلّدت اسمها كما خلده أيضاً صوت فيروز التي أنشدت من شعر ميشال طراد: "يا صبح روّج، طوّلت ليلك، خلّيت قلبي نار بلكي بتجي اختك تغنيلك بلكي بتجي جلنار. ... وقّفت قلبي ع الدرب ناطور، تفاق ألف نهار ووعيت الشمس وزقزق العصفور وما إجت جلنار!". يعزَّ على كبرياء ميشال طراد أن يقول انه صرف 35 سنة من عمره يعمل "ناطوراً على باب قلعة بعلبك"، فيقول انه كان "مديراً للقلعة". ويعزَّ عليه أيضاً أن تُروى قصة "حبه الواقعي" لجلنار، فيعتبر أن الاشارة الى تلك القصة في معرض الحديث عن شعره من "السخافات" و"الترهات". حين سئل الشاعر خلال حديث نشرته مجلة "شعر" عام 1967 "اذا خيّروك فماذا تحب ان تكون؟"، أجاب "بائع ورد!". فما الذي حمل ميشال طراد على هذا الجواب؟ أهو ضجره وضيقه بوظيفته المتواضعة، أم بقية من حب يائس لجلنار، أم ان الحياة الثقافية كانت ما تزال آنذاك تحتمل مثل هذا الكلام؟! في شتاء عمره، بين زوجته وابنته، يقضي ميشال طراد أيامه مثل طفل صغير في الكنف العائلي الدافئ. يحتال على الوقت باستعادة شريط الذكريات، عزاؤه الوحيد وفخره الأكبر أن الشعر عرف معه منعطفاً مهماً، وأنه فتح آفاقاً خصبة ما زالت تطبع الحياة الثقافية اللبنانية والعربية الى الآن.