سقوط 17 قتيلاً.. إسرائيل توسع التوغل في رفح    الأرقام ترجح كفة ميتروفيتش على رونالدو    سلطان عمان يهنئ خادم الحرمين الشريفين بمناسبة اليوم الوطني ال (94) للمملكة    من أعلام جازان.. الشيخ الدكتور "سليمان بن علي بن محمد الفيفي    رئيس البرلمان العربي يهنئ المملكة بمناسبة اليوم الوطني ال 94    تأهب إسرائيلي .. هل حانت «ساعة الصفر»؟    فيضانات وانزلاقات أرضية في وسط اليابان بعد أشهر من زلزال كبير    السعودية تشارك في جلسة الآمال الرقمية ضمن مؤتمر قمة المستقبل    شيخ شمل قبيلة السادة والخلاوية: نستلهم في اليوم الوطني ال94 النجاحات المُحققة للمملكة على مرّ الأجيال    إيران: 51 قتيلاً ضحايا انفجار منجم الفحم    "فلكية جدة": اليوم "الاعتدال الخريفي 2024" .. فلكياً    الربيعة يتحدث عن التحديات والأزمات غير المسبوقة التي تعترض العمل الإنساني    "الأرصاد" استمرار هطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على هذال بن سعيدان    الموت يغيب مطوف الملوك والزعماء جميل جلال    رايكوفيتش: كنا في غفوة في الشوط الاول وسنعود سريعاً للإنتصارات    أخضر تحت 20 عام يبدأ التصفيات الآسيوية بالفوز على فلسطين    السيوفي: اليوم الوطني مناسبة وطنية عظيمة    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الجزائري الأوضاع في غزة    ريال مدريد يسحق إسبانيول برباعية ويقترب من صدارة الدوري الإسباني    في كأس الملك.. الوحدة والأخدود يواجهان الفيصلي والعربي    ولي العهد يواسي ملك البحرين في وفاة خالد آل خليفة    "متحالفون من أجل إنقاذ الأرواح والسلام في السودان" يؤكد على مواصلة العمل الجماعي لإنهاء الأزمة في السودان    صناديق التحوط تتوقع أكثر السيناريوهات انخفاضاً للديزل والبنزين    «الأمم المتحدة»: السعودية تتصدر دول «G20» في نمو أعداد السياح والإيرادات الدولية    أمانة القصيم توقع عقداً لنظافة بريدة    وداعاً فصل الصيف.. أهلا بالخريف    «التعليم»: منع بيع 30 صنفاً غذائياً في المقاصف المدرسية    "سمات".. نافذة على إبداع الطلاب الموهوبين وإنجازاتهم العالمية على شاشة السعودية    دام عزك يا وطن    بأكبر جدارية لتقدير المعلمين.. جدة تستعد لدخول موسوعة غينيس    مئوية السعودية تقترب.. قيادة أوفت بما وعدت.. وشعب قَبِل تحديات التحديث    "قلبي" تشارك في المؤتمر العالمي للقلب    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    اكتشاف فصيلة دم جديدة بعد 50 عاماً من الغموض    لا تتهاون.. الإمساك مؤشر خطير للأزمات القلبية    أحلامنا مشروع وطن    "الداخلية" توضح محظورات استخدام العلم    مركز الملك سلمان: 300 وحدة سكنية لمتضرري الزلزال في سوريا    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    "الداخلية" تحتفي باليوم الوطني 94 بفعالية "عز وطن3"    يوم مجيد لوطن جميل    مسيرة أمجاد التاريخ    صور مبتكرة ترسم لوحات تفرد هوية الوطن    الملك سلمان.. سادن السعودية العظيم..!    خمسة أيام تفصل عشاق الثقافة والقراء عنه بالرياض.. معرض الكتاب.. نسخة متجددة تواكب مستجدات صناعة النشر    تشجيع المواهب الواعدة على الابتكار.. إعلان الفائزين في تحدي صناعة الأفلام    مجمع الملك سلمان العالمي ينظم مؤتمر"حوسبة العربية"    الطيران المدني.. تطوير مهارات الشباب خلال "قمة المستقبل".. الطيران المدني.. تطوير مهارات الشباب خلال "قمة المستقبل"    مصادر الأخبار    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. تنظيم المسابقة المحلية على جائزة الملك سلمان    إقامة فعالية "عز الوطن 3"    فأر يجبر طائرة على الهبوط    الابتكار يدعم الاقتصاد    تعزيز أداء القادة الماليين في القطاع الحكومي    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة يستأصل بنجاح ورماً ضاغطاً على النخاع الشوكي    أبناؤنا يربونا    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"سجل" الأمم المتحدة للأسلحة التقليدية هل هو للحد من التسلح أم لتوجيهه ؟
نشر في الحياة يوم 26 - 04 - 1993

في الثلاثين من نيسان ابريل الجاري يبدأ عهد جديد في تاريخ الأمم المتحدة، وكذلك في سباق انتاج السلاح التقليدي ونقله وبيعه وتوزيعه، عبر ولادة سجل عند المنظمة الدولية مهمته اثبات وقيد ما يمكن من معلومات عن هذا السباق في جو من الوضوح و"الشفافية".
وبما ان لبرلمانات العالم دوراً رئيسياً في التشريع لحكوماتها من اجل ادخال هذا العمل غير المألوف سابقاً في قوانينها، فقد اكتسبت اعمال المؤتمر البرلماني الدولي الذي انعقد في نيودلهي في وقت سابق من هذا الشهر اهمية فائقة، اذ عكف المؤتمر، في معظم مناقشاته، على هذا الموضوع، في ضوء وثيقة ارسلتها الأمم المتحدة اليه، وتنفرد "الوسط" بنشر اهم ما فيها: "أدت نهاية الحرب الباردة وانحلال الاتحاد السوفياتي السابق وتجربة حرب الخليج الى توافر امكانات ضخمة تتناول عملية نزع السلاح والحد من نقله وتسويقه. ولقد اظهرت حرب الخليج بالذات ورد الفعل الذي بدر عن تحالف دولي برعاية الأمم المتحدة مدى النتائج الشائكة والمثيرة لتجارة السلاح العصري المتقن، وشكّل مادة لمناقشة عالمية لا سابقة لها حول امكانات السيطرة على هذه التجارة. فعلى صعيد كل دورة على حدة بادر عدد كبير من حكومات البلدان المصدرة للسلاح التقليدي المتطور الى اتخاذ تدابير ترمي الى الحد من اخطار شحن الاسلحة المؤدية الى الاخلال بالتوازنات. والى جانب ذلك اجتمعت الدول الدائمة العضوية في مجلس الامن منذ تموز يوليو 1991 مرات عدة في محاولة لتصور نظام للحد من عمليات شحن الاسلحة. وعلى رغم التقدم الملحوظ في هذا الاتجاه، فمن الواضح ان أي تطوير وتوسيع لمثل هذا النظام من شأنه ان يتطلب كثيراً من الوقت والجهد. ولقد نشطت الأمم المتحدة في تسخير هذه الامكانات للوصول الى سيطرة فعالة على التسلح من خلال مقاربة تصاعدية اسمتها "الشفافية في ميدان التسلح". وأدت المناقشة التي دارت في الجمعية العامة للأمم المتحدة في خريف 1991 الى صدور القرار الرقم 46/36 ل، بنتيجة 150 صوتاً ضد لا شيء وامتناع كل من كوبا والعراق فقط عن التصويت. هذا القرار يوافق على مبدأ الشفافية في ميدان التسلح، ويقضي بانشاء سجل للاسلحة التقليدية هدفه زيادة امكانات الاطلاع بوضوح على شحنات الاسلحة، لزيادة الثقة بين الدول، وبالتالي تعزيز الامن الدولي. وبانشاء هذا السجل تكون الجمعية العامة اعلنت تصميمها على منع التكديس الزائد عن اللزوم والمخل بالتوازنات لهذه الاسلحة، مع اعترافها بالحاجات المشروعة للدول الاعضاء من اجل امنها وسلامتها. وفي المراحل الاولى يدعو القرار الدول الاعضاء الى تقديم تقرير، طوعاً واختيارياً، عن استيرادها وتصديرها لأسلحة مصنفة في سبع فئات رئيسية دبابات القتال، سيارات القتال المصفحة، بطاريات المدفعية من العيار الثقيل، طوافات الهجوم، طائرات القتال، السفن الحربية، الصواريخ وقاذفات الصواريخ، كما يدعوها الى تقديم ما لديها من معلومات عامة عما تتلقى على الصعيد الحربي من مشتريات مرتبطة بانتاجها الوطني وسياستها في هذا المضمار. ويجب ان تقدم هذه التقارير قبل الثلاثين من نيسان ابريل من كل سنة لتفيد عن المعلومات المتجمعة خلال تلك السنة، وذلك ابتداء من 30 نيسان ابريل 1993. ووضع تفاصيل الاجراءات الفنية فريق من الخبراء، وتضمنها تقرير تمت الموافقة عليه بالاجماع خلال الدورة الاخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، عبر قرار يلحظ ايضاً دعوة فريق من الخبراء سنة 1994 للافادة من تجربة السنتين لتقويم هذا السجل وتطور عمله ووسائل توسيعه، بتضمينه معطيات جديدة لا تتعلق بما تتلقاه الدول من مشتريات عسكرية مرتبطة بالانتاج الوطني فحسب، بل تشمل ايضاً درس امكان اضافة المعلومات التكنولوجية التطبيقية المباشرة وأسلحة الدمار الشامل.
وحظي "السجل" بتعبئة ودعم منذ النداء الأول الذي وجهته الجمعية العامة للاشتراك فيه، ونوّّه مجلس الامن، اثناء اجتماع القمة الذي عقد في 31 كانون الثاني يناير 1992، بالاهمية التي تعلقها الدول جميعها على المعلومات المطلوبة. فضلاً عن ان الكثير من الدول المشتركة في مؤتمر الامن والتعاون الاوروبي التزمت تقديم المعلومات الكاملة الى "السجل"، وذلك في "الاعلان عن انتشار ونقل الاسلحة" الذي تمت الموافقة عليه في اجتماع براغ في آخر كانون الثاني يناير 1992. من جهة اخرى، التزمت كل الدول الاعضاء في الأمم المتحدة مبدئياً، عبر القرار الرقم 47/52 ل المعتمد بالاجماع، تقديم المعلومات المطلوبة لسنة 1992 خلال مدة اقصاها 30 نيسان ابريل 1993. وكان الامين العام للأمم المتحدة اعرب عن دعمه بقوة هذا "السجل" منذ ولادة فكرته، مشيراً الى ان من شأنه ان يصبح اداة هامة للديبلوماسية الوقائية في عصر ما بعد الحرب الباردة.
ومن اجل ان يقوم "السجل" بدوره العملي باتقان، ويؤمن اقصى حد ممكن من العلنية والشفافية في مضمار نقل الاسلحة، فان على الدول الاعضاء ان تساهم بصورة فعالة، وبالتالي فان من الضروري ان يدرك البرلمانيون اهمية دوره فيعملوا على الزام حكوماتهم تقديم المعلومات المطلوبة. وإذا حظي هذا السجل باشتراك وتنفيذ عالميين كاملين فان من شأنه ان يغدو الآلية الاكثر اتساعاً من اي شيء قبلها للسيطرة على التسلح، وتوفير شفافية لا سابقة لها، سواء في ميدان التجارة العالمية او في انتاج كل دولة للأسلحة. ومن الاهداف المعلنة للسجل ان يتحقق اقصى حد من الصراحة والشفافية المطردة، وان تخف اجواء الشكوك والارتياب والتوتر، وان تتعزز الثقة وتروج الدعوات الى السلام والاستقرار على الاصعدة الوطنية والاقليمية والدولية، وان يؤدي ذلك الى المساهمة في حل النزاعات وخفض حركة استيراد وتصدير الاسلحة لدى الدول الاعضاء، وان يتشكل اطار للحوار على صعيد ملموس حول النشاط العسكري، وحول ما يمكن الاستفادة من "السجل" كأساس في المستقبل لعمليات يمكن التحقق منها في مضمار الحد من هذا النشاط.
ويحتوي "السجل" على مميزات اخرى عدة من المناسب ذكرها. فبينما اقترح البعض ربط مساعدات الانماء بمستوى الانفاق العسكري في البلدان النامية، فان "السجل" يمكنه ان يكون وسيلة للتقويم النزيه للوقائع ولتوجهات سياسات هذه البلدان في مضمار تلقيها السلاح ومشترياتها العسكرية، مساهماً بذلك في تحقيق تقدير اكثر واقعية لحالتها، وتصور سليم لسياساتها الحكومية. ويمكن "السجل" ايضاً ان يبرز عمليات شحن ونقل الاسلحة المعروفة والمأذون لها، مما يهيئ اعتماد وتقدم في الجهود الرامية الى الحد من عمليات شحن ونقل الاسلحة بصورة غير مشروعة. واذا تحققت هذه الاهداف المعلنة فان "السجل" يخلق جواً من الشفافية التي تخفف من اخطاء التقدير ومن مغبة الحصول على كميات اضافية من الاسلحة من دون فائدة.
و"السجل" يندرج في اطار الجهود المتواصلة لپ"مكتب شؤون نزع السلاح" التابع للأمم المتحدة، والرامية الى مراقبة عمليات تكديس الاسلحة على الصعيد العالمي".
إرادة القطب الأوحد
هذا ابرز ما جاء في وثيقة الامم المتحدة التي لم ينشر نصها حتى الآن. فماذا يعني ذلك كله؟
كم من الاحاديث تدور بين الناس عن السلطان في غيابه، حتى اذا ما حضر انحبست الانفاس، وانحنت الهامات، وقالوا له بالصوت الواحد: نعم لقد صدقت.
والسلطان هنا هو القطب العالمي الاوحد الولايات المتحدة الذي لا مرد لما يريد ولا مراجعة لما يشير به. فلقد خرج من الحرب الباردة ومن حرب الخليج منتصراً ومن المنافسات الاقتصادية مستفيداً من ضائقات الدول الصناعية الاخرى، ومن موقعه المميز في مجالات الطاقة والتمويل العالمية.
ويغطي القطب الاوحد الغطرسة التي لا بد للانسان ان يدركه في مثل هذه الحال، بالتحدث عن السلام، ولو لم يكن قائماً على العدل، ولا يبالي بابتسامات الاستهزاء التي تواجهه عندما يتحدث عن "التوازنات"، وعن "الحلول الوسط" لأنه يعلم ان من يبسط يده لا يمكنه ان يلطم بها الا نفسه.
وليست مصادفة ان يولد "السجل" بعد كل التطورات التي نشأت وجعلت من الولايات المتحدة "حاكم" العالم، لأن معالم الأمم المتحدة تغيرت، ولم تعد تتجلى فيها وعبرها مشيئات الشعوب، مثلما كان الامر خلال الستينات والسبعينات، اذ لم يكن "الفيتو" الاميركي ليقف حائلاً دون المعارضة الهائلة التي تمثلت بصحوة العالم الثالث وبحركات التحرر السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والتي كانت تساندها قوى انهارت اليوم كلياً او جزئياً. وعلى رغم كل ما قيل في هجائها وهو هجاء في معظمه حقيقي فانها أدت للشعوب المستضعفة والمناضلة العون الكبير.
ويحضرني هنا ما كان يرد في الروايات والأساطير عن حروب زعماء الصين في العصور الغابرة، اذ يقال انه عندما كان زعيمان يعلن كل منهما الحرب على الآخر فانهما كانا يجتمعان داخل خيمة على الحدود، فيقدم كل منهما كشفاً عما عنده من جنود وأعتدة وأسلحة وغذاء، وعندما يتضح ان احدهما يفوق الآخر يقف هذا ويعترف للأول بالنصر ولنفسه بالهزيمة. وتنقضي الحرب من دون اهدار نقطة دم. وبالطبع فان هذا يتم بفضل "الشفافية" التي يبدو ان الذين اخترعوها منذ القدم هم الصينيون، لا دهاقنة الأمم المتحدة في اواخر القرن العشرين، وعلى عتبة قرن جديد سيتغير فيها الكثير من المعطيات التي الفناها والمفاهيم التي آمنا ببعضها ورفعنا البعض الآخر الى مستويات الثوابت.
وتكرر مثال زعماء الصين الغابرين منذ سنوات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، لأن التقدم التكنولوجي الاميركي والاموال الهائلة المرصودة اتاحت لواشنطن ان تعلن عزمها على اخراج سلاح جبار هو "حرب النجوم". ولما لم يكن لدى موسكو من المقدرة المالية او التكنولوجية على تحمل هذا العبء فانها شنت حملة ديبلوماسية واعلامية ضخمة ضد هذا السلاح ونعتت الرئيس ريغان بشتى النعوت، لكن ذلك لم يوقف الاندفاع الاميركي في هذا السبيل، فجاء غورباتشوف بعد ذلك ينادي بالشفافية غلاسنوست لكي يمكّن بلاده من الاطلاع على اسرار ذلك التقدم، ويعلن في الوقت ذاته اجراء تغييرات سياسية وادارية في المجتمع السوفياتي الداخلي بيريسترويكا موحياً باستعداده لادخال الديموقراطية الغربية الى بلاده وتبنيها تدريجياً. الا ان كل هذا الجهد لم يكن كافياً لاغراء المسؤولين الاميركيين الذين استمروا يحبسون عن السوفيات معظم ما كانوا يتطلبونه من عون مادي وفني، لأن الفرصة واتتهم للاجهاز على النظام القائم عند الجبار الثاني، وليس من المعقول ان يفوتوها. وهنا برز الرئيس يلتسين ليلقي السلاح ويعترف بالهزيمة، وغدت الترسانة النووية الضخمة عنده عبارة عن ارث ثقيل لا يعرف كيف يديره او يهدد به، وبدأت المبيعات تتسرب هنا وهناك الى مناطق ودول واجهها الغرب بكثير من القلق والتحوط، محاولاً احباطها وايقافها والالتفاف حولها، سواء عن طريق حرب الخليج باثارة الفتن والقلاقل، سراً وجهراً، مركزاً على بؤر توتر كانت مهيأة سلفاً لهذه الغاية. ثم انثنى الى القيام بمحاولة موازية للامساك بزمام تدفق الاسلحة التقليدية المتطورة، قاصداً من وراء ذلك ربما توجيهها الوجهة التي تلائمه اكثر من قصده الحد منها والتضييق على تجارتها. ولم يجد اداة لذلك افضل من الأمم المتحدة التي عادت الى بيت الطاعة.
وهكذا ولد مشروع "السجل" الذي لم تعارضه الدول. فأقبلت عليه فئة منها مستبشرة بفائدته عليها، وربما مقتنعة بفائدته على العالم. وقبلته فئة اخرى، وهي تجد فيه عدداً من العيوب، مبدية تحفظات. وصوتت عليه فئة، على مضض، وهي مدركة لما يمكن ان يحمله لها من حيف. وتغيبت فئة، مداراة لمغبة الرفض الذي قد توصم بسببه بنعوت عرقلة مساعي الامن والسلام في العالم.
"السجل" والشرق الاوسط
ولقد لاحظ المناقشون لمشروع "السجل" انه يركز على تجارة الاسلحة وشحنها ونقلها كمرحلة اولى، تاركاً امر انتاجها الى مراحل مقبلة يكتنف استحقاقها الغموض الشامل، فبدا واضحاً ان القصد الحقيقي من "السجل" غير معني بمسألة الانتاج ومسؤولية الدول المنتجة، ولا يهتم الا بتحميل المسؤولية الرئيسية للبلدان غير المنتجة التي تستورد هذه الاسلحة، بعضها من اجل دفاعها المشروع عن النفس، لكن البعض الآخر من اجل ان تتزود هيئاتها الاهلية او تجمعاتها الميليشوية والعقائدية او منظمات التحرير والنضال فيها بما يلزمها من الاسلحة، وغالباً بما يفيض عن الحاجة.
ولاحظ المناقشون ايضاً ان النزاعات والحروب والهجمات على انواعها وأعمال التخريب والتقتيل انحصرت حتى الآن بالاسلحة التقليدية، البسيطة في بعضها والمتطورة الى اقصى حد في البعض الآخر، مما اعطى واضعي مشروع "السجل" الذريعة بأن يستبعدوا الاسلحة ذات الدمار الشامل عنه.
واذا كان انتاج مثل هذه الاسلحة مقتصراً على الدول الكبرى مع عدد صغير ومتواضع من الدول الاخرى، فان الصحيح ايضاً ان ما لا يقل عن تسعين في المئة من الاسلحة التقليدية تم تبادلها بيعاً وشراء خلال العقود الاخيرة، وكان مصدرها الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الامن. لكننا نرى اليوم ان الرقابة تتركز على دول وشعوب اخرى هي التي تستورد، سواء لغايات مشروعة او لغايات سيئة وهدامة مثل الفتن العقائدية، وعمليات تهريب المخدرات، وما الى ذلك.
ويبدو ان الارادة السياسية ستبقى مهيمنة على هذا الاشراف، وهي ارادة واقعة في ايدي الدول الكبرى التي يتضاءل عددها بهذه الصفة حتى لا تتعدى اصابع اليد الواحدة او اقل. وليس من المعقول ان تتردد الارادة السياسية في توجيه هذه المراقبة وعدم القبول بالنزاهة العمياء في ممارستها، لأن الاقتصاد العالمي اليوم يعتمد على الصناعات الثقيلة، وانتاج الاسلحة هو اهمها وأضخمها على الاطلاق. بل ان الارادة السياسية تجلت من جهة اخرى في كثير من الحالات التي ارادت فيها الدول المنتجة ان يتم تجريب اسلحتها، للتحقق من فعاليتها، في بؤر توتر من العالم تكون هي هيأتها مسبقاً لهذه الغاية. وكان هذا ولم يزل من اهم أسباب اثارة الفتن والنزاعات المسلحة في تلك المناطق. وبما ان مبيعات الاسلحة تشكل - كما قلنا - اكبر نسبة في التجارة الدولية فان كل الاتفاقات الدولية بهذا الشأن، ومنها "السجل" الوليد، تبقى غير فعّالة اذا لم يتخذ اي تدبير لايقاف هذه التجارة السرية والعلنية.
لذا فان المقاصد والنوايا السياسية يجب ان تكون صافية حيال هدف استعمال "السجل"، بحيث ترتبط مسألة الانفراج الدولي التي يرفعها واضعو مشروعه بالاهداف الانسانية النبيلة التي تنتظرها الشعوب وتتطلبها، ويلزمها مضاعفة الحملات على سوء التغذية والمجاعات، ومحاربة تجارة المخدرات واستعمالها. ولكي يفهم جيداً ان عملية الحصول على الشفافية والعلنية عن طريق وضع سجل عالمي هي عملية متابعة نزيهة وصارمة للحصول على امتثال شبه كامل لتطبيق معاهدات نزع السلاح، وهي عملية غير سهلة، فالدول عادة تتقدم بعدد من الحجج للتهرب من المراقبة الدولية كلما احست انها تشكل بحد ذاتها نوعاً من التجسس المشروع، وهي حالة لا يمكن لأي دولة حريصة على سلامتها ان تقبل بها، مما جعل كثيراً من الالتزامات الدولية بهذا الشأن، يبقى حبراً على ورق. وهناك دول تعتبر ان مثل هذه المراقبة تقيد حريتها في ارسال اسلحة الى مناطق من اجل تحقيق اغراض سياسية واقتصادية وعقائدية تراها هي محقة ويراها سواها غير محقة. وهناك دول تعتبر انه طالما ان تجارة الاسلحة تشكل مصدراً لا بديل له من العملة الاجنبية فان مسألة الشفافية ستلاقي عندئذٍ لديها الكثير من الصعوبات. فالشفافية المطلوبة لا تقتصر فقط على نقل الاسلحة، بل تتعدى ذلك الى التكنولوجيا التي تقود الى تطوير صناعتها. فلا بد اذن من وضع هذه التكنولوجيا ضمن اطار المجهود الدولي المركز على ازالة بؤر التوتر في العالم. ويمكن الوصول الى هذا الهدف عبر التعاون ضمن اطار الامم المتحدة ومؤسساتها لتقوم هذه بدور اكثر فعالية من الدور الذي تقوم به اليوم والذي ستقوم به من الآن وصاعداً عبر "السجل"، وذلك ببذل الجهد المنظم والمتواصل للتنسيق والتوفيق بين آراء ومصالح الدول جميعها لوضع سياسة واقعية تجمع بين رأي هنا ومصلحة هناك. لذلك فهناك ترابط قوي بين عملية الانفراج المتوخاة والمتوقعة من نجاح "السجل"، وبين التقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، اذ يصبح اكثر سهولة تهيئة المقومات الضامنة لبقاء ورفاهية الجنس البشري اذا امكن الوقوف في وجه العنف. والدليل على ذلك ما نشاهده حولنا، لا سيما في لبنان من الآثار التي نجمت عن العنف، من انهيار اقتصادي ومآسٍ انسانية ابرزها المهجرون واللاجئون.
فلقد استعملت الاسلحة في ما يزيد عن 150 نزاعاً في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ونجم عنها مقتل ما يزيد عن عشرين مليون نسمة. وفي السنوات الاخيرة تطورت الاسلحة بشكل مرعب، خصوصاً لجهة دقة التصويب التي تؤدي الى ازدياد عدد الضحايا.
ان كميات ضخمة من الاسلحة تنقل وتباع بصورة غير مشروعة، ولا يمكن العثور على اثر لها في "سجل" الاسلحة الرسمية، مما يتيح للدول المصدرة ان تتحكم بالمصائر السياسية والوطنية للشعوب، تماماً كما هو حاصل هذه الأيام في كل من الصومال والبوسنة والهرسك، وقبل ذلك في لبنان حيث لا تزال الاسلحة مكدسة على رغم التدابير الرسمية الخجولة التي اتخذتها سلطاتنا حتى الان.
واذا ذكرنا ان حجم تجارة الاسلحة العالمية يقدر في الفترة الاخيرة بما بين 35 و45 مليار دولار سنوياً، وان جزءاً كبيراً من الصناعة الثقيلة هي صناعة الاسلحة، فانه يمكننا ان نتصور كيف يمكن للدول الصناعية الكبرى ان توافق من دون تردد على الحد من التوسع في هذه الصناعة، وهي تعاني الكثير من ازمات البطالة والكساد. ويحق لنا ان نتساءل: هل كان بالامكان ان تنشب حروب اقليمية أو اهلية وثورات وحركات ارهابية لو لم تكن الدول الصناعية هي التي تغذيها بالاسلحة؟
من اجل كل هذا ارتؤي أن يوضع "السجل" العتيد في يد هيئة دولية مستقلة عن هذه الدول الصناعية، وان يغطي كل سوق الاسلحة، علماً بأنه جرى توقع بعض هذا الاعتبار عندما لحظ، قبل توقيع اي عقد لشراء او بيع اسلحة، حصول الاطراف المتعاقدة على شهادة من هذه الهيئة تشهد بأن هذا الاتفاق تم تسجيله في "السجل العالمي"، وسيحمل هذا الاذن المسبق رقماً تصنيفياً ويكون معنوناً بذكر اسم الدولة ونوعية السلاح. ويمكن بذلك من يطلع على السجل ان يعرف وضع كل دولة من الناحية التسليحية ومشترياتها وانواع اسلحتها. وبهذا يمكن ان يظهر مدى خطر كل دولة على الدول المجاورة لها، فيتنور الرأي العام العالمي، ولا يعود من المسموح لأي دولة ان تحصل على اكثر مما تحتاجه للدفاع عن نفسها. وبهذه الشفافية العالمية يعود من السهل الحد من العنف الحاضر والمتوقع برفض الاذن بالبيع او بتأجيله، وقد ينجم عن ذلك منع اسرائيل فعلاً من التمتع بالتفوق العسكري البليغ على كل الدول العربية، وتخف بذلك اضرار وأخطار الحلف الاستراتيجي الذي يربطها بالولايات المتحدة مثلاً، وتتوقف امكانية استمرار العنف والارهاب بوقف تدفق السلاح والذخيرة، كما كنا ننادي ايام الحرب اللبنانية التي ما كانت لتتواصل طيلة ستة عشر عاماً لولا ذلك.

هل في كل ما اوردناه من معلومات وآراء حول هذا المشروع الجديد ما يكفي من الواقعية بحيث لا يتحول ما يكشفه من تفاؤل الى مجرد مثالية وأحلام وأوهام؟ ام ان هناك تصميماً لدى المجتمع الدولي، الممثل في الهيئة المشرفة على المشروع، لمنع الدول المنتجة للسلاح من تحقيق اهدافها السياسية بضرب الشعوب الضعيفة بعضها ببعض، ولأهدافها الاقتصادية الرامية الى تشغيل مصانعها وخفض معدلات البطالة لديها؟
ان ما تطالب به شعوبنا هو الا يتم الاكتفاء بالقاء الضوء فقط على تجارة الاسلحة وان يعطى الوزن ذاته لردع الدول المنتجة عن المضي في انتاجها وتصديرها بهذه النسب الهائلة، وحملها على تخفيض انتاج اسلحة الدمار الشامل واتلاف المخزون منها، لا سيما السلاح النووي. لأن وضع تضييقات على الدول والاطراف المستوردة للاسلحة التقليدية فقط وترك الدول المنتجة من دون قيود، يشكل تحيزاً ومعاملة غير متكافئة لبعض دول العالم. وهو وحده لا يسير بنا الى الأمام في سبيل تخفيف اسباب التوتر واللجوء الى العنف وفي زيادة الثقة وصيانة السلام.
وللعرب تجربة معروفة في ما يتعلق بتسلح منطقة الشرق الاوسط. فاسرائيل لديها اسلحة متطورة، ساعدتها على اقامتها الخبرات والاموال الاميركية والأوروبية وغيرها. وهي تنتج اسلحة الدمار الشامل بما فيها السلاح النووي وترفض الانضمام الى اتفاقية حظر انتشار الاسلحة النووية، ولا تزال تتلقى مساعدات عسكرية من الولايات المتحدة تبلغ قيمتها ما يناهز ملياري بلياري دولار كحد أدنى كل سنة، على رغم انها تحتل الأراضي العربية. وفي حين اننا لا نملك صناعات عسكرية يمكن مقارنتها بالصناعات العسكرية لدى اسرائيل، فان الدول العربية تتعرض لتهويل كبير كلما ارادت ان تستورد بعض حاجاتها من الاسلحة التقليدية. واحياناً تحاول سفن حربية اجنبية اعتراض هذه الشحنات، كما حدث بالنسبة الى سورية، من دون اي مسوغ قانوني دولي وخلافاً لشرعة الامم المتحدة.
نحن نؤيد "السجل" ومبدأ الشفافية، شرط ان تكون هذه شاملة لكل جوانب مسألة السلاح وان تكون عادلة للجميع.
* رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب اللبناني ورئيس الوزراء السابق. وقد رئس الوفد اللبناني الى المؤتمر البرلماني الدولي الذي انعقد في نيودلهي بين 12 و17 الجاري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.