في يوم النمر العربي    محمد بن فهد.. ترحل الأجساد وتبقى الذكرى    دور القيم في التنمية الاقتصادية    نفوذ القائد.. سلاح أقوى من الأوامر    الأهلي ثالث أندية الصندوق في منتدى الاستثمار الرياضي    "جي إف إتش" تحقق زيادة 15.21 % في الربح الصافي العائد للمساهمين للعام 2024 ب118.50 مليون دولار    ماذا يعني إنهاء برنامج الاستدامة المالية؟    خارطة طريق مغربية لتحقيق الوصول ل26 مليون سائح    الشاعرة الشعبية وجيمس بيكر..!    الرئيس ترمب.. لا تخسر أصدقاءك وحلفاءك!    قانونية السياحة الفضائية..!    منع المقدسيين من رخص البناء والتوسع في هدم منازلهم    «بوصلة التنافسية» تعزز الاقتصاد «الأوروبي»    اختزال القضية الفلسطينية    سبل المساءلة عن الجرائم الدولية: خيارات العدالة بعد الأسد    دوران: أنا هنا لدعم النصر.. ورونالدو الأفضل في التاريخ    القيمة والتأثير    «عبدالجواد» يضم معاذ والشمراني وشهيل والنجعي لمنتخب القدامى    لا صوت يعلو في جدة على صوت المحركات    هطول أمطار متوسطة على الرياض    الحب سَمْقه وسُقمه!    نصف مقال !    ذاكرة التاريخ ونسق الثقافة والجغرافيا    الفتوّة المتأخرة    القوة الجبرية للمتغيب عن جلسات القضايا الزوجية    العنوسة في ظل الاكتفاء    لماذا التشكيك في رجاحة عقل المرأة..؟!    أيهما أسبق العقل أم التفكير؟    النصر يتغلّب على الأهلي بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    قسم الاعلام بجامعة الملك سعود يقيم فعالية الاعلام والحرف اليدوية،    الدفاع المدني ينبّه: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تطلق المرحلة الثانية من إستراتيجية البحث العلمي والابتكار    "للمرة السابعة في المملكة" .. حلبة كورنيش جدة تشهد انطلاق جولتي بطولة "إيه بي بي فورملا إي"    عسير: القبض على مخالف لتهريبه 49350 قرصاً خاضعاً لتنظيم التداول الطبي    «حرس الحدود» بعسير ينقذ مواطنيْن من الغرق أثناء ممارسة السباحة    مدير الأمن العام يدشن مركز المراقبة الميداني بالإدارة العامة لدوريات الأمن    "رمز أحمر" ب"مركزي القطيف" يخلي 10 أقسام والدفاع المدني يسيطر على الحريق    مدير عام تعليم مكة يدشّن المعرض الفني واحتفالية يوم التأسيس    الهيئة الملكية لمدينة الرياض تطلق مشروع «الحي الإبداعي»    إحتفال قسم ذوي الإعاقة بتعليم عسير بيوم التأسيس السعودي    انطلاق مؤتمر القصيم السابع للسكري والغدد الصماء بمشاركة نخبة من الخبراء    نائب أمير الشرقية يستقبل أعضاء مجلس إدارة جمعية "إطعام"    برنامج "أمل" السعودي في سوريا.. ملحمة إنسانية ونبض حياة    أمير الأحساء يكرم الفائزين بجائزة تميز خدمة ضيوف الرحمن    بيلينغهام: الريال حقق فوزاً مستحقاً في ملعب السيتي    منطلق حوار للحد من تفشي الطلاق    السعودية" أرجوان عمار" تتوج برالي أبوظبي باها 2025    سعود بن خالد رجل من كِرَام الأسلاف    الحلم النبيل.. استمرار للمشروع السعودي    5 خرافات عن العلاج بالإشعاع    ثمن المواقف الأخوية الشجاعة للسعودية والأردن ومصر.. الرئيس الفلسطيني يشدد على اعتماد رؤية سلام عربية في القمة الطارئة    أمريكية تعتصم أمام منزل خطيبها الباكستاني    نادية العتيبي سعيدة بالتكريم    إعلاميو "الأوفياء" يطمئنون على الحداد    600 شركة عالمية تفتح مقراتها الإقليمية في المملكة    صالح الجاسر: 240 مليار ريال بقطاع النقل و «اللوجستية»    تعب التعب    مملكة الأمن والأمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سورية : الاقتصاد اذا تحرر ... والسلام اذا تحقق
نشر في الحياة يوم 19 - 04 - 1993

ظهرت منذ عام 1988 اتجاهات جديدة لدى الحكم السوري لتحرير العمل الاقتصادي بصورة تدريجية من منهجية التخطيط المركزي والاشراف الحكومي على غالبية القطاعات والنشاطات الاقتصادية. وبرزت هذه الاتجاهات لأسباب عدة متنوعة، بينها سببان رئيسيان: انقضاء عشر سنوات على قرارات قمة بغداد القاضية بتخصيص مساعدات لسورية والاردن، وانتهاء الحرب بين العراق وايران التي نتج عنها توافر معونة نفطية، ايرانية لسورية سمحت لها بالتعويض جزئياً عن تناقص المساعدات العربية وتوقف المساعدات السوفياتية منذ عام 1984.
وسبق هذه التحولات الجذرية تطورات فرضت معالجة الوضع الاقتصادي السوري، فمعدلات النمو السوري انخفضت بسرعة في الثمانينات بعد ان كان متوسط معدل النمو 10 في المئة سنوياً خلال عقد السبعينات. ففي عام 1981 بلغ معدل النمو 5،9 في المئة ليهبط عام 1982 الى 3 في المئة والى أقل من واحد في المئة في كل من عامي 1983 و1984، وما بين 1985 و1988 تقلص حجم الناتج القومي وترافق كل ذلك مع ارتفاع معدل زيادة السكان الى 5،3 في المئة، وبالتالي انحدر مستوى معدل الدخل الفردي بسرعة حيث بلغ معدل النقص في هذا المقياس الحيوي 22 في المئة بين 1983 و1988.
هذه التطورات السلبية رافقها ارتفاع سريع في معدلات الغلاء ساهم في انخفاض سعر صرف الليرة السورية بسرعة في الاسواق، وتعاظم عجز الموازنة، ما ادى الى ارتفاع ارقام الدين العام الداخلي الى مستوى 5،5 مليار دولار، بحسب الاسعار الواقعية لليرة السورية في حينه.
ومع نهاية 1988 كانت خيارات الحكومة السورية، على الصعيد الاقتصادي، محصورة بتوخي تحريك الاقتصاد بواسطة رفع كفاية عمليات الانتاج، وتحفيز المنتجين الزراعيين لتسويق انتاجهم داخل سورية بدل بيعه في لبنان وتركيا، وتشجيع السوريين العاملين في الخارج من ذوي الثروات على توجيه استثماراتهم ونشاطاتهم الى سورية. ولم تكن امكانات نجاح سورية في تجاوز ازمتها الاقتصادية التي تحكمت بها على مدى السنوات 1983 - 1988 معدومة، بل ان بعض الامكانات كانت جيدة.
فمن ناحية اولى حققت سورية اكتشافات نفطية لخامات خفيفة قابلة للتسويق الخارجي او للاستهلاك المحلي، بموجب اتفاقات مع شركات اميركية وفرنسية، وتبع ذلك اكتشافات ملحوظة لكميات من الغاز الطبيعي يجري تطويرها واستعمالها في منشئات توليد الكهرباء، ومحروقات مصافي النفط ومعامل الاسمنت. وحينما تكتمل اعمال تحويل استهلاك هذه المنشئات للغاز ستوفر سورية 15 مليون برميل سنوياً من المازوت الخفيف يمكن تصديرها مقابل 300 مليون دولار على الأقل.
وتحقق كميات النفط والغاز المكتشفة حتى الآن حاجة سورية، اما الصادرات منها فستتضائل تدريجياً حتى عام 2005، ما لم تحقق اكتشافات نفطية اضافية في السنوات المقبلة، ومعلوم ان التنقيب يرتبط الى حد بعيد بنشاط وتوقعات شركات النفط الاجنبية، وكي تبقى هذه الشركات متحمسة للعمل في سورية لا بد ان تكون علاقاتها العملية جيدة، وقد اولت الحكومة السورية هذا الموضوع الكثير من الانتباه.
ثاني المعطيات الايجابية في مجال تطوير الانتاج النفطي السوري وحجم الدخل القومي، يتمثل في مجال زيادة الانتاج الزراعي والحيواني لكفاية نسبة اكبر من احتياجات الاستهلاك. والواقع ان سياسات تشجيع الاستثمار في الشركات الزراعية، وتحرير اسعار غالبية المنتجات الزراعية، وتخفيف دور الدولة في هذا القطاع، امور اسرعت في زيادة الانتاج وتنوعه وتوافر كميات كبيرة للتصدير من الخضار والفاكهة، لكن نقطة الضعف الاساسي تبقى متمثلة بحاجات استيراد اللحوم، وهذه لن يمكن التغلب عليها نهائياً ما لم تتوافر اسباب تشجيع قيام مزارع الابقار على نطاق واسع وتوافر المياه لري حشائش الاعلاف.
ثالث المعطيات الايجابية يتمثل بطاقات السوريين المادية والفنية المتوافرة في الخارج، ولا شك ان هذه الطاقات ملحوظة ومتطورة، لكن عودة المال والخبرة مرهونة بالاطمئنان الى السياسات الاقتصادية والامنية، وليس من شك بأن السلطات السورية بذلت جهوداً كبيرة لطمأنة المستثمرين السوريين كما الشباب السوري المتعلم للعودة والعمل في البلاد، والقانون رقم 10 الذي صدر بتاريخ 4/5/1991 أفسح مجال الاستثمار في الصناعة والزراعة والسياحة مع اعفاءات ضريبية ملحوظة وضمانات على حرية تحويل الارباح وجزء لا بأس به من المعاشات، وكانت حصيلة هذا القانون، حتى الآن، تأسيس مشاريع خلال اقل من سنتين برؤوس اموال وازت 4،2 مليار دولار دفع نصفها حتى الآن، ولا يزال هنالك مجال واسع لزيادة عدد الشركات المستفيدة من هذا القانون، وربما تتأسس شركات تستطيع منافسة بعض شركات القطاع العام الامر الذي يؤدي الى تحفيز هذه الشركات التي استكانت لأوضاعها طويلاً وتغافلت عن ضرورات المنافسة والمعاصرة.
رابع المعطيات الايجابية لزيادة الدخل القومي في سورية هو الامكانات السياحية والتاريخية التي تميز سورية الى حد بعيد في منطقة الشرق الاوسط، لكن التجهيزات السياحية الفندقية، وتجهيزات النقل السياحي، والمطاعم والملاهي والخدمات لم تكن على المستوى المناسب لتشجيع تطوير السياحة، كما ان الوجه الامني الصارم اعاق تدفق السياح من البلدان الغربية. ولا تزال هذه الصورة طاغية الى حد بعيد.
مع حلول العام 2000 سيتجاوز عدد سكان سورية 18 مليون نسمة حيث من المعروف ان النسبة السنوية لزيادة عدد السكان في سورية مرتفعة، وبعد حرب الخليج الثانية واستمرار الحذر من الحروب وتقلص الفوائض، لم يعد بامكان سورية ولبنان والاردن توقع تدفق مساعدات عربية كبيرة، في وقت انهارت بلدان اوروبا الشرقية التي كانت تقدم مساعدات اقتصادية وعسكرية لسورية. وجميع هذه التحولات تفرض على سورية ترشيد استعمال الاموال وتحقيق أفضل مردود ممكن للاستثمار وتشجيع تدفق الاموال والزوار الى البلاد ولا شك في ان هذه التوجهات جديدة بالنسبة الى سورية، وكي تستطيع تحقيقها بنجاح لا بد لها من اقرار سياسات متنوعة تحرر القرارات الاقتصادية من الاشراف المركزي الحكومي، باستثناء ما يتعلق بأمن الدولة وصحة المواطنين.
لقد أشرنا الى اربعة معطيات ايجابية تسهم في دعم قواعد الانتاج والدخل في سورية، لكن قطاع النفط والغاز الذي يمكنه توفير دخل صاف يساوي مليار دولار على مدى بضع سنوات، لن يستمر في دوره ما لم تتحقق اكتشافات جديدة وتخصص موارد ملحوظة للبحث والتنقيب عن مصادر اضافية، وكلما تعمقت القناعة بتوجه سورية نحو مقدار اكبر وأوسع من الحريات الاقتصادية كلما تحسنت فرص استقطاب شركات اجنبية اضافية في هذا القطاع.
ان مستوجبات تنشيط مختلف القطاعات الاقتصادية تفرض على سورية تسريع خطوات تحرير اقتصادها من القيود، وكذلك الامر بالنسبة الى النقد، فطالما ان عملة اي بلد تستمر غير قابلة للتمويل بحرية، طالما، يبقى المستثمرون مترددين في الاقدام على الاستثمار في البلد المعني. او حتى ايداع اموالهم في مصارف ذلك البلد، هكذا كان الوضع في مصر حتى تحرير الجنيه من القيود قبل اكثر من عام. ومنذ ذلك الوقت حققت العملة المصرية استقراراً ربما يفوق استقرار جميع العملات العربية، باستثناء عملات بلدان الخليج العربية. كما بدأت البنوك المصرية تستقطب الودائع العربية، التي تجاوزت 10 مليارات دولار خلال سنة واحدة. ان سورية تحتاج الى زيادة دخلها القومي بمعدل حقيقي لا يقل عن 7 - 8 في المئة سنوياً، وتخفيض معدل زيادة السكان الى 5،2 - 2 في المئة سنوياً، مع حلول عام 2000، وحينئذٍ تتحقق مستويات مقبولة للمعيشة وتطور ايجابي على مختلف الاصعدة.
لكن هذه النتائج الرقمية تحتاج الى تدفق مساعدات تتراوح ما بين 1 و5،1 مليار دولار في السنة، على مدى عشر سنوات، وتدفق استثمارات بمعدل 2 مليار دولار سنوياً، وفي حال توافر المعونات فلن تستطيع سورية تأمين الموارد المطلوبة من دون التوصل الى حل الصراع العربي - الاسرائيلي. وربما لهذا السبب بالذات يبدو الموقف السوري منفتحاً على فرص السلام شرط شمولية السلام، وهو انفتاح كان مفاجئاً للبعض، كما كانت المواقف الاعلامية السورية المعتدلة. فامام تطور الاوضاع في المنطقة، لا تستطيع سورية في الظروف المستجدة التأخر في مجالات النمو، وهي لذلك تسعى الى توفير الاسباب الضرورية لتمكين نفسها من تحقيق الاهداف الاجتماعية والاقتصادية التي اصبحت واضحة، واذا تحققت عملية السلام، فانها ستوفر على سورية نفقات دفاعية توازي 750 مليون دولار في السنة، كما ستفسح المجال لاعادة تشغيل خط النفط من السعودية الى صيدا في لبنان عبر الجولان، ويتأتى من ذلك مردود اضافي لسورية لا يقل عن 100 مليون دولار سنوياً، بمعنى ان سورية تستطيع، في حال تحقيق السلام، توفير الحد الادنى المطلوب من الموارد لتحقيق معدلات النمو الضرورية.
* خبير وكاتب اقتصادي ومالي لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.