منذ عام 1989 وسورية تحقق نتائج مشجعة على الصعيد الاقتصادي تستدعي الانتباه لاسباب متعددة منها: واجهت سورية مصاعب اقتصادية في حقبة الثمانينات ارتبطت بتدني الدخل الخارجي نتيجة الانكماش الاقتصادي في بلدان الخليج ما بعد 1982 وتعليق المساعدات السوفياتية وتلاشي المساعدات العربية، وقد تسببت هذه التطورات اضافة الى عبء المواجهة العسكرية واكلاف التعبئة في وجه اسرائيل بتدني معدل الدخل الفردي بنسبة 22 في المئة خلال السنوات الثلاث الممتدة من 1986 وحتى 1988. استطاعت سورية الحصول على موارد خارجية ملحوظة من 1977 وحتى 1988 بلغت قيمتها 77 مليار بليون دولار. وبعد اندلاع الحرب العراقية - الايرانية حصلت سورية على معونة من ايران موازية لقيمة مليون طن من النفط سنوياً وحسم بمعدل 20 في المئة على سعر 5 ملايين طن اضافية، لكن قيمة المشتريات التي تتراوح بين 5،4 و5 مليارات دولار اصبحت ديناً على سورية لايران. ارتفاع عدد السكان بمعدل 5،3 في المئة سنوياً الامر الذي يجعل عدد السوريين 18 مليوناً عام الالفين، وغالبية السكان دون سن العشرين، اي ممن لا يزالون في سن الدراسة وممن يحتاجون الى الرعاية الاجتماعية والتعليمية، فالديمغرافية البشرية في سورية تحمل الدولة اعباء كبيرة لجيل الشباب، لكن البلد في المستقبل يحوز كتلة كبيرة من الايدي العاملة النشيطة والمتمتعة بمستوى علمي مقبول، وكي تحقق سورية الفائدة المرجوة مستقبلاً من هذا الذخر البشري، لا بد لها من تسريع معدلات الانماء وتراكم الاستثمار لكي تتوسع فرص العمالة بقوة. على رغم اتساع رقعة سورية جغرافياً على مساحة 185180 كيلومتراً مربعاً وانحصار الكثافة السكانية بمعدل يوازي 65 مواطناً لكل كيلومتر مربع، كان هنالك حركة واسعة للنزوح من الارياف الى المدن، بحيث تتجمع نسبة 55 في المئة من السوريين في المدن، والانتاج الزراعي لم يعد كافياً لتغطية الحاجات، بل اصبحت سورية عام 1988 تحتاج، استناداً الى احصاءات الانتاج الزراعي يومها، الى استيراد نسب الكميات الغذائية التالية بنهاية العقد الحالي. فالحبوب التي كانت نسبة الكفاية منها في فترة 1984 - 1986، اي الانتاج المحلي، 62 في المئة ستصبح نسبة الكفاية منها في نهاية العام الفين 54 في المئة. والشعير الذي كانت نسبة الكفاية منه في الفترة نفسها 67 في المئة ستصبح نسبة الكفاية منه في العام الفين 44 في المئة. واللحوم التي كانت نسبة كفايتها 96 في المئة ستصبح 87 في المئة. ويبين هذا الوضع ان سورية اصبحت بحاجة ماسة لزيادة الانتاج الزراعي وتحسين معدلات الانتاجية، ولهذا السبب بالذات الغيت القيود على اسعار ووسائل بيع المنتجات الزراعية، باستثناء السكر والارز والزيوت النباتية التي تحظى بدعم حكومي وسقوف للتسعير. حققت سورية نمواً متسارعاً منذ عام 1989 وبدأت تقر اجراءات لتوسيع دور القطاع الخاص والتحول تدريجياً عن البرمجة المركزية للاسعار والانتاج. ونتيجة لهذه التحولات في التوجه الاقتصادي والاداء الانتاجي حققت سورية على مدى ثلاث سنوات وفراً على حساب ميزان المدفوعات. وفي ايار مايو1991 اقرت سورية قانوناً للاستثمار يشجع السوريين والعرب والاجانب على الاستثمار في المشاريع الزراعية والصناعية والسياحية، وقد منح هذا القانون اعفاء من الضريبة لمدة خمس سنوات من تاريخ بدء الانتاج يمكن زيادتها الى 7 سنوات اذا اكتسب المشروع 50 في المئة من دخله من الصادرات او السياحة الاجنبية، كما اجاز القانون تحويل الارباح ورؤوس الاموال بالعملة الاجنبية، والزم القانون لجنة وزارية بتقديم الاجازات للاستثمار في حال تناسبها مع التوجهات الاقتصادية خلال 30 يوماً، وفي آخر اجتماع للجنة تم السماح بانشاء 60 مشروعاً برؤوس اموال توازي 45 مليار ل. س. او مليار دولار. ولعل افضل دليل على نجاح الاقتصاد السوري في السنتين المنصرمتين يتجلى في تحسن سعر صرف الليرة السورية في الاسواق المجاورة - الاردنولبنان - من 60 ل. س. للدولار الى 45 ل. س. للدولار واستقرار السعر على هذا المستوى طيلة العام المنصرم. ان اسباب نجاح سورية في تحقيق معدل نمو يفوق بنسبة ملحوظة معدل نمو السكان، اذ بلغ معدل النمو الاقتصادي 10 في المئة عام 90 واكثر من 11 في المئة عام 1991، هذه الاسباب هي ثلاثة: - تطور انتاج وتصدير النفط. - زيادة الصادرات الصناعية - توسع دور القطاع الخاص وزيادة الاستثمارات الخارجية، نتيجة للسياسات التحريرية المتبعة تدريجياً في عدد من القطاعات الاقتصادية. تقييم بعثة صندوق النقد الدولي بنهاية شهر آب اغسطس 1991 وضعت بعثة من خبراء صندوق النقد الدولي تقريرها السنوي حول وضع الاقتصاد السوري والتوقعات المستقبلية والسياسات المطلوبة من وجهة نظر خبراء الصندوق، ونعرض في ما يأتي لمقتطفات من التقرير قبل استخلاص الصورة كما نراها في المستقبل. "وأخيراً اتخذت السلطات السورية خطوات تصحيحية لتعزيز ثقة القطاع الخاص، تخفيض ضغوط الطلب عن سبيل رفع الاسعار المدعومة، تشذيب الانفاق الحكومي، وتخفيض سعر صرف الليرة السورية. لكن الوضع المالي والاقتصادي يبقى صعباً". وتوافرت مؤشرات عن تحسن الوضع المالي والاقتصادي منذ 1989. الاستثمار الحقيقي من قبل القطاع الخاص في الزراعة والصناعات التحويلية ارتفع تجاوباً مع خطوات الحكومة في تخفيف القيود في هذا النطاق. حاصلات تصدير النفط ارتفعت بقوة، وصادرات القطاع الخاص تعاظمت خصوصاً الى الاتحاد السوفياتي، كما حصلت سورية على معونات وقروض من دول الخليج قدرت ب 5،1 مليار دولار عام 1991. وحسب وجهة نظر خبراء الصندوق، غالبية التطورات الايجابية موقتة وتأثيرها في المدى الطويل لن يكون كبيراً ما لم تقرر خطوات اصلاحية اساسية. ويعتبر خبراء الصندوق ان التحسن النسبي في الوضع المالي لسورية خلال السنوات الثلاث المنصرمة يوفر فرصة ذهبية للسلطات لاقرار الاصلاحات الاساسية الواسعة المطلوبة، وهم يشيرون الى خصائص المنهج المطلوب على الوجه التالي. "من الضروري لسورية ان تتابع برنامجها للاصلاح الاقتصادي بالاعتماد على توسيع النشاط الحر، تطوير القطاعات المنتجة، والغاء القيود على اسعار العملة والتوزيع والانتاج ومستويات الاسعار عموماً". مستقبل الاقتصاد السوري ان مستقبل سورية الاقتصادي رهن بعوامل ثلاثة اساسية هي: 1 - تطوير صناعة النفط والغاز والكفاءة في استعمال المنتجات على وجه فعال. 2 - تفاعل قرارات تحرير النشاطات الاقتصادية مع توجهات القطاع الخاص ومدخرات السوريين في الخارج. 3 - نتائج مفاوضات السلام في المنطقة. فسورية تحمل عبئاً دفاعياً يمتص قدرات 17 في المئة من مجمل القوة العاملة في الجيش كما هي تخصص 45 في المئة من موازنتها للدفاع، وسنبحث في كل من هذه العوامل. تنتج شركة النفط السورية 8 ملايين طن سنوياً من النفط الثقيل الذي يصدر لمزجه مع الخامات الخفيفة وتكريره في الخارج، ويتوقع ان يهبط معدل الانتاج هذا، لتقادم عهد حقول الشركة الوطنية، بنسبة 5،4 في المئة سنوياً حتى عام 2000 حينما يساوي معدل الانتاج 5،4 مليون طن. بالمقابل اكتشفت شركة شل بيكتين الاميركية مخزوناً جيداً من النفط الخفيف الذي تتدنى فيه نسبة الكبريت وبدأت الانتاج عام 1986. وقد وفر انتاج هذه الشركة دخلاً على حساب ميزان المدفوعات وازى 180 مليون دولار عام 1990 وحوالي النصف مليار دولار للخزينة، ويبلغ معدل الانتاج في الحقول التي تديرها هذه الشركة حوالي 400 الف برميل يومياً، او ما يوازي 20 مليون طن في السنة. وشركة ألف اكيتان الفرنسية التي بدأت اعمال التنقيب عام 1987 حققت اكتشافات مكنتها من انتاج 15 الف برميل يومياً عام 1990 وحوالي 25 الفاً عام 1991، ويقدر ان تدفع انتاجها الى 100 الف برميل في اليوم او 5 ملايين طن سنوياً، في العام الحالي او في اقصى حد العام المقبل. وبالمقارنة مع هذه الارقام بلغ استهلاك سورية من النفط ومشتقاته عام 1991 اكثر بقليل من 8 ملايين طن، ويتزايد الاستهلاك بنسبة 7 في المئة سنوياً، وهنالك عدد من شركات النفط بدأ البحث والتنقيب، ومن هذه شركة توتال الفرنسية التي تفيد التقارير انها توصلت الى اكتشاف مخزون قابل للاستثمار والتطوير تجارياً . ونظراً الى ارتفاع اكلاف انتاج وتطوير النفط في سورية 5 - 6 دولارات للبرميل كانت هنالك مخاوف من ان وقع هذه الاكلاف وزيادات الاستهلاك ستؤدي الى ذوبان الدخل من هذا المصدر اواسط التسعينات، لكن التوقعات تحسنت الى حد بعيد عام 1987، بعد اكتشاف كميات ملحوظة من الغاز غير المخالط، وقد أولجت ماراتون الاميركية مسؤولية تطوير احتياطي الغاز الذي يساوي محتواه الحراري 250 - 300 مليون طن من النفط، وسورية وضعت برنامجاً لاحلال الغاز محل مشتقات النفط في توليد الكهرباء وصناعة الاسمنت الامر الذي سيمكنها من زيادة صادراتها النفطية بما يساوي 2 - 5،2 مليون طن سنوياً نتيجة الوفورات الممكن تحقيقها من استعمال الغاز في الاوجه المشار اليها. وفي حال تحسن اسعار النفط، الامر الذي يؤدي الى تحسن اسعار الغاز، تستطيع سورية تخصيص استثمارات اكبر لانتاج اوفر من الغاز يمكن تصديره الى لبنانوالاردن عبر شبكة من الانابيب. ولهذه الاسباب مع ترجيح زيادة اسعار النفط في المستقبل غير البعيد يمكن القول ان استفادة سورية من هذا المورد لن تخفض بصورة قوية قبل عام 2005 - 2010. حكومة تقنيين اختار الحكم السوري التدرج في تحرير القطاعات الاقتصادية من القيود سواء منها ما يتعلق بالدعم او تسعير الليرة للشراء والبيع او حصر الاستيراد والتوزيع بأجهزة الدولة، وشاء الحكم من التدرج وقاية الاقتصاد والمواطنين من مواجهة صدمات الاسعار وشروط العمل، وقد نجح بذلك الى حد كبير. ومن المنتظر تسريع خطوات التحرير لسبيين جوهريين: اولهما تجاوب القطاع الخاص، حتى الآن، والنجاح النسبي للخطوات المقررة، وثانيهما ان السوريين المقيمين في الخارج لديهم ما يفوق 40 مليار دولار من الادخارات، وبسبب الانكماش الاقتصادي عالمياً وانخفاض معدلات الفوائد تبدو نتائج الاستثمار في سورية، ان كانت الاستثمارات مضمونة، مشجعة، ومن اجل استقطاب استثمارات السوريين الاثرياء من اصحاب الخبرات والاموال من المقيمين في الخارج يرجح ان تسرع السلطات السورية خطوات التسريع، ولا نستبعد ان تحرر سورية نقدها من قيود التحويل قبل نهاية هذه السنة، وان تلغي جميع القيود الاخرى وان تخفض معدلات الضرائب وتسهل النظام الضريبي قبل حزيران يونيو 1993. من اجل تحقيق هذا الانتقال الكامل من اقتصاد موجه الى اقتصاد حر خلال خمس سنوات - من صيف 1988 وحتى صيف 1993 - يرجح ان تتألف في سورية حكومة من غير الحزبيين، وان تضم هذه الحكومة عدداً من التقنيين ممن كانوا ولا زالوا ينادون بتحرير الاقتصاد، وقد يحدث هذا التغيير الجوهري في الاشهر القليلة المقبلة. ان سورية تدفع ضريبة المواجهة مع اسرائيل منذ سنوات ويمكن القول انها تحملها بوقعها الثقيل منفردة منذ عام 1978، وقد عبرت عن رغبتها في نجاح مفاوضات السلام، لكن المنهج الاسرائيلي حتى تاريخه لا يدل على نية بتحقيق سلام عادل بين مختلف الاطراف. بيضة الميزان ربما ستكون الموقف الاميركي في مساعي تحقيق السلام. والاميركيون استفادوا أخيراً من حجة اضافية لفرض ضغط حقيقي على اسرائيل. فصواريخ الباتريوت التي ارسلوها لحماية اسرائيل في حرب الخليج صدرت اسرارها للصين، البلد القوي الوحيد الذي يشكل تحدياً للولايات المتحدة بعد انحلال الاتحاد السوفياتي. السلام اذا تحقق يعود على سورية بمنافع كبيرة لانها تستطيع حينئذ تخصيص موارد ملحوظة للانماء الاجتماعي والتجهيز التطويري، كما تتعاظم القدرات الانتاجية البشرية، لكن السلام ان غاب لن يؤدي الى اصابة الاقتصاد السوري بالشلل، فالتوقعات التي اوردناها توفر صورة اكثر ايجابية من تقرير صندوق النقد الدولي، وهي صورة صيغت مع افتراض استمرار حشد الطاقات للدفاع في وجه اسرائيل. * خبير اقتصادي لبناني