سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الشاعر اللبناني الكبير يروي ل "الوسط" سيرته وذكريات حياته . سعيد عقل ان حكى ... "ولدت ، سريري ضفة النهر ... وكان أبي كالموج يهدر" "أحب عقلي ... لكن لا خالياً من جنون"
هذه سيرة سعيد عقل كما رواها بنفسه ل "الوسط". فمنذ أكثر من نصف قرن، وسعيد عقل حاضر في الشعر العربي. قصائده طبعت اجيالاً من الشعراء، وهو ما زال، وقد بلغ الثمانين، مستمراً في حضوره القوي، يواصل عطاءه المميز في شتى حقول الادب والابداع والفكر والثقافة. اما سيرته وتاريخه الشخصي والابداعي، فمنجم يغري كل محب للادب بدخوله، وحكاية ممتعة غنية ومفيدة لا مفر من ان يخرج منها المرء بصيد وفير. هنري زغيب سافر الى بيروت بتكليف من "الوسط" وأمضى مع سعيد عقل خمسين ساعة كانت حصيلتها مجموعة من الذكريات والافكار والقصص الممتعة. سيرة سعيد عقل هذه ننشرها على حلقات. ومع كل منها قصيدة جديدة للشاعر الكبير، اضافة الى مختارات من قصائد شهيرة له. وفي ما يأتي الحلقة الاولى: الشاعر! الكثيرون يعرفونه بهذا الاسم على انه يختصره. وما سوى القليلين يعرفون ان الشعر سنبلة واحدة من بيدره الكثير. قد تكون الأبرز، لكنها ليست الوحيدة. عشرون عاماً - منذ عرفته - وأنا اراقبه يتجدد ولا يتوقف. يواصل الطريق والاكتشاف. واليوم، وهو في الثمانين، لم يتغير صفاؤه. يأتي دائماً من صفر الذاكرة الى امتلاء الحضور. لا يغيب اسم عن باله ولا رقم. من أول التاريخ الى احدث الارقام. من اقدم الازمنة الى آخر الاحصاءات. يقارع المؤرخين بالوقائع، والسياسيين بالحجج، و"يصدم بالارقام" كما قال غسان تويني. والارقام تعني العلم. وها هو يعترف، شاعراً وهو مَن هو في الشعر: "العلم وراء كل تحفة عظيمة. انه قصيدة القرن العشرين. لا تسحرني قصيدة كما يسحرني اكتشاف علمي. العلم هو المعرفة بأسمى ما وصل اليه العصر الذي هو فيه. حتى الشعر هو ابن العلم. لو لم يأخذ الشعر من العلم الا هيكليته، لكفاه. العلم يعصمك عن الشرود في القصيدة، فتبقى في موضوعها. حين اتعب من الكتابة، اروح اقرأ في الكتب العلمية". في محاضراته والخطب كما في مقالاته ومقدمات الكتب، تتشظى الخواطر في دروب الفكر والفلسفة والتاريخ والفن والسياسة والعلم... اما قصيدته، فيستحيل الا تجمع فيها باقة من فضائل وعواطف ومثل عليا تشيل بقارئها الى فوق، دائماً، الى أسمى، فالمناسبة لا تعود سوى مبرر، غزلاً كانت ام رثاء ام استذكاراً ام خطبة تكريم. كأنما القصيدة، بعده، تخجل ان تخرج من الشاعر الى الناس ان لم تكن مثقفة، مرتدية أبهى الافكار وأنبل العواطف. كأنها، دون هذه الافكار والعواطف، تخرج مجردة على قارعة الطريق، وتخجل بنفسها وبشاعرها. شعره والنثر من مقلع واحد: "الجمالية". بالازميل نفسه ينقش القصيدة والقطعة النثرية. ومن تسنى له، مثلي، ان يرى واحدة من مخطوطاته قبل ان تأخذ طريقها الى الآلة الكاتبة تمهيداً لذهابها الى الطبع، يعرف ان الكلمة المطبوعة مرت بمصهر من المفردات والمرادفات والتغييرات، بحيث لا يعود يمكن لأحد غيره هو، ان يقرأ النص بصيغته الاخيرة. ويكتفي؟ لا. هذه طبعات كتبه تشهد: بين الاولى والتالية ما لا يتكرر، فقراؤه يتلقفون الجديدة لا على انها طبعة اخرى بل كتاب جديد. من هنا حرصه على ذكر "مصححة ومزيدة" عند كل طبعة جديدة من مؤلفاته صدرت اخيراً كاملة في سبعة مجلدات عن "دار نوبليس" - بيروت. ولا فرق لديه بين نثر وشعر. "كلاهما فن عظيم" يقول، ويشدد: "نهين النثر اذا قربناه من الشعر، ونهين الشعر إذا قلناه منثوراً". لذا يتقن نثره باتقان شعره. وهذا ما دفع سعيد تقي الدين الى القول عنه انه "اعظم من كتب النثر في العربية". وفي السياق نفسه قال انطون قازان، في تقديمه ذات يوم: "ما خفت على نثره من شعره بل عجبت لثنائية في الابداع. هذا القلم المطيّب، حين يقدم لرفاقه يشدهم اليه بلولبة حد البراعات حتى لكأنه هو المعني. سعيد عقل، يستحيل ألا يُروع". يوم خجل الرئيس خمسون ساعة جلست اليه، وكان الزمان قصيراً. عشرون عاماً من صداقتنا معاً، لم تسعفني في استباق ما سوف يقول. ما قاله، في تلك الساعات الخمسين، كان معظمه جديداً. ذلك انه يوماً بعد يوم، يتابع، يكتشف، ويستنتج الحصائل الاخيرة. فكيف يمكن ان نكثف فكر سعيد عقل، في خمسين ساعة؟ شلال متدفق من المعلومات، باسمائها وارقامها واحصاءاتها، في صفاء ذهني عجيب، وذاكرة دقيقة لا تخون. قد ينسى تاريخاً ذا علاقة به، لكنه لا ينسى تاريخاً ولا اسماً ذا علاقة بلبنان، هو الذي لم يكتب طوال عمره كلمة واحدة إلا من اجل لبنان: "شلحُ زنبقٍ أنا اكسرني على ثرى بلادي". كيف الاحاطة بفكره؟ أتسلسلاً زمنياً ام محطات؟ بل الامران معاً، على ما فيهما من دهشة مرافقة واكتشاف. فهذا الذي يملأ اسمه سماء الشعر منذ ستين عاماً، بدأ حياته تركيزاً على الرياضيات، وفي باله ان يكون مهندساً. ولم يخطر له ابداً في تلك البدايات ان يدخل عالم الادب لولا حادثة وقعت لابيه جعلته ينتقل الى عالم الكلمة ويكون له فيه ما له من شأن وتأثير. منذ سنته المدرسية الثالثة، إثر حادثة له مع المعلمة في الصف، اكتشف تقصير الحرف في استيعاب اللغة، الامر الذي سيبقى في باله. نشأ سعيد عقل على مشهد أبيه المغالي في الكرم والعطاء، فواصل طريقه في المسار نفسه فتى ثم رجلاً... حتى إذا بلغ الخمسين اطلق الحدث الذي جاء الاول من نوعه في لبنان والعالم العربي. ويوم قرر الانتقال من الهندسة الى الادب، صمم ألا ينزل الى بيروت إلا مثقفاً كبيراً، فكان له ما كان في مكتبة ذاك الضابط الفرنسي في زحلة. ومن عبارة واحدة قالها عنه في حضوره شاعر كبير، وعى انه مهيأ ليكون شاعر عصره، يتأثر به لاحقاً حتى الاكبر منه، بشهادة غير واحد بينهم. وسعيد عقل كان اول من تقاضى بدلاً على نشر قصائده في مجلة كانت يومها كبرى مجلات بيروت الادبية، ولم يستطع رفاقه ان يحذوا حذوه إلا طويلاً بعد ذلك التاريخ. مقاله الاسبوعي في "الصياد" ونصف الاسبوعي في "لسان الحال" محط انظار المثقفين والسياسيين في لبنان وعدد من رؤساء الدول العربية لما كان يضمّن مقالاته من احصاءات لا يأتيها سواه. وهو الذي، بمقطع من خمسة اسطر قرأها رئيس جمهورية لبناني، انقذ لبنان من مشروع كان يرمي الى إلغاء الضريبة فيه. ففيما كانت صحف بيروت تهلل لرقم موازنة اطلقه احد رؤساء الجمهورية، كتب في مقاله قطعة صغيرة بعنوان: "هذا رقم التعتير" فخجل المهللون وخجل رئيس الجمهورية نفسه. ذات شتاء حبسه المطر ثلاثة أيام في فندق احدى العواصم الكبرى، فلازم غرفته وترجم رائعة عالمية خالدة، شعراً الى اللبنانية، في فسحة الصفحة على هامش ترجماتها العربية والفرنسية والانكليزية. وفي كل مهرجان ادبي في لبنان او في مصر، كان يلقى الحفاوة والتكريم فتستحيل قصيدته عنوان المهرجان وقد ربطت سعيد عقل بعاصي ومنصور الرحباني علاقة صداقة، فبات مستشارهما الاول واعترفا بتأثيره على شعرهما والعديد من مبادئهما في الفن والحياة. وكانت له حادثة مع الشاعر السينغالي الرئيس سنغور وحادثة اخرى مع الشاعر التركي ناظم حكمت، فقام معهما بما عجز عنه رؤساء الدولة. وقد أسهم في تكريم العديد من كبار الشعراء والادباء وما زال يرفض ان يقام له حفل تكريمي واحد. أليس سعيد عقل، قبل ذلك كله، مكتشف لبنان الحضاري والمدن اللبنانية السبع التي ارست ركائز اساسية في الفكر العالمي، والاحد عشر لبنانياً الذين يعتبرون من عمالقة العالم... إضافة الى ما كشفه من ميزات شعب، يراه فريداً بالبطولة، أنجب "الرواقية الزينونية" التي سيكون له ان يشرحها بالتفصيل؟ كل هذه العطاءات والانجازات والافكار، والمبادئ والذكريات التي تمتد على مساحة خمسين عاماً، كيف يمكن ان تحصر في خمسين ساعة؟ أتكون لي طاقته، هو الذي قال يوماً عن الادب انه "حبس الدهر في عبارة"؟ حين جئته اجلس اليه، تهيأ لي انه سيقول الكثير مما سمعته منه في جلساتنا الخاصة، او اطلعت عليه من خطبه ومحاضراته. غير ان ما سبق لم يشكل من حديثه، في المحصلة الاخيرة، سوى النزر اليسير. ورحت أسيح معه في آخر اكتشافاته وأول الذكريات، حتى بدا لي سعيد عقل مع تقدم الحديث، جديداً، كأنني لا اعرفه منذ عشرين عاماً! ورحت اتعلم من هذا الفتى الثمانيني كيف أنعش شيخوختي الاربعينية. طوال جلساتي اليه، لم يخنه اسم او رقم او تاريخ. حاضر الذهن والذاكرة. متقد البصر والبصيرة. شباب في الحيوية والانفعال. يفاعة في الحماس والتفاؤل بالغد. مصادرة على المستقبل لتحقيق احلامه والمشاريع. لم اجئه مرة إلا وهو مهيأ، على قيافة لافتة واستعداد نضر. يومه يبدأ حين الناس نيام. "أنهض في الرابعة فجراً، يكون القلم قربي والاوراق. لا ابدأ ابداً بل أكمل. فهناك دائماً الى جانب سريري كتابات باشرت بها. حتى القصيدة الجديدة ليست جديدة لانها جزء من كل. استريح قليلاً فاستحم ثم اعود الى الكتابة. في الثامنة تأتي السكرتيرة. أملي عليها ما اكون هيأت فجراً وصباحاً. وأمضي قبل الظهر في تنقيح النصوص وإعادة طبعها وأحياناً في استقبال اصدقاء وزوار. بعد القيلولة، وهي قصيرة عادة، اقرأ كتباً جديدة مجلات اجنبية وصحفاً كي اتابع الاحداث في العالم. وينتهي النهار اجمالاً بمحاضرة أو امسية القيها او احضرها، او بزيارة او بدعوة عشاء، وأسعى الا تطول سهرتي، حتى انهض في اليوم التالي الى ايقاعي اليومي في الكتابة. اكتب كل يوم. الكتابة تسعدني، تخلق عندي فرحاً يحافظ على نضارة خلاياي واستمرار تجددها. منذ فترة طويلة قرأت في مقال طبي ان الكتابة الابداعية تجعل العقل في حالة ايجابية، أي في حالة فرح، تؤثر على الدماغ فيفرز مادة تتسرب مع النخاع الشوكي الى كل الجسم وتخلق له حصانة. وهذا مبدئي في الاساس: حين أضع قطعة ادبية جميلة، افرح لها انا قبل قارئي…". لعل في هذا، كل سرّ الشباب في الثمانين، ونضارة العقل وصفاء الذهن وتوقد الذاكرة. رحلة في عقل سعيد عقل؟ متعة ذهنية لا يعطاها سوى من يُقبل على المعرفة بتواضع العلماء وبكارة الاقتبال وبراءة الاصغاء. العدة اكتملت، والنية انعقدت. فلتبدأ الرحلة... ماذا علمني أبي؟ "وُلِدْتُ، سريري ضفةُ النهر، فالنهرُ تآخى وعمري... مثلما الوردُ والشهرُ وكان أبي كالموج يهدرُ، مرة يدحرج من صخرٍ... وآناً هو الصخرُ وقد علّماني الحق... ما الحق؟ دُفعةٌ كما السيل عنه انشقّ واخضوضر القفرُ" ليس كهذا الإطار الشعري من سعيد عقل أبلغ دلالة على الجو الذي شهد ولادة الشاعر في زحلة، لأبٍ هو شبل عقل، أحد أعيان زحلة وكبار ملاّكيها، وأم هي أدال يزبك من بكفيا، مثقفة على كثير من الجمال. في منزل فخم على كتف نهر زحلة الشهير البردوني، بين أب عصبي، عنيف، قليل الثقافة كثير الشهامة والعطاء، وأم أقرب الى الطوباوية، بنبلها وشهامتها واحتمالها، وشقيق بكر هو عقل، وشقيقتين هما هيفاء وإميلي، ولد سعيد صغير العائلة، يوم 4 تموز يوليو 1912. وشهدت طفولته أحداثاً شكلت الجزء الأكبر من شخصيته وطبيعته ونتاجه في ما بعد. في هذا الجو نشأ، يرى أباه الوارث أراضي شاسعة في زحلة يستغل بعضها ويبيع بعضها الآخر. ينفق بعض ثروته على أسرته كي تعيش في بحبوحة ويسر، فيما ينفق البعض الآخر على نفسه. يتذكر أباه في شمم: "أبي كان مُطْلَقياً. عنه وعيت على فكرة المطلق. كان عنيداً في الاستقامة، وعنه أخذت استقامتي. أقدم ما أذكر عنه: قراره بتوزيع الإعاشة على المعوزين في أيام الحرب العالمية الأولى حين نزح معظم سكان الجبل الى زحلة لكونها مدينة خيّرة ولم تتأثر كثيراً بالحرب. ووجد أبي انه ميسور، عليه أن يساهم في الإعانة. كل يوم سبت، كان الخدم في بيتنا يوزعون خبزاً وطعاماً على من يتجمع في ساحة البيت. ثم راح يطلب منا نحن أن نشترك مع الخدم في التوزيع كي نشعر أكثر بعاطفة العطاء. كان أبي مجنوناً في سخائه، وبلغ كرمه حد التبذير". هذه الصورة عن أبيه، انطبعت فيه وظهرت لاحقاً في إحدى خماسياته: "علمني أن أراهنْ أبي... أقول الجفونْ صحِبْتُهُنّ مساكنْ أحبُ عقلي... لكنْ لا خالياً من جنون". ومن طفولته الأولى هذه الحادثة التي كانت لوحدها كافية كي تطبع شخصيته السخية نهائياً: "كنت في الرابعة حين قال أبي للخادمة التي كانت ترافقني وتشتري ما أرغب، أن تدعني اشتري لوحدي. أعطاني يومها متليكاً تركياً. عند المساء استدعاني: "ماذا فعلت بذاك المتليك؟" فقلت له إنني ذهبت الى دكان عزيز في الحي واشتريت به أصابع السمسمية". تجهَّم وقال: "هذا تصرف لا أرضاه". استغربتُ: "أين الخطأ في ما فعلت؟" فقال: "هذا المتليك من عشر بارات. أعطيتها لعزيز وأخذت الحلوى. أين سخاؤك؟ السخاء أن تعطي ولا تأخذ. لو صرفت المتليك نصفين، كنت مررت بجارتنا المعوزة أم مسعد وأعطيتها خمس بارات من دون أن تأخذ منها شيئاً. هذا هو السخاء الحقيقي. يجب أن تتعلم كيف تعطي من دون أن تأخذ". ومع السنوات صار يعطيني مبلغاً أكبر لمصروفي الخاص، هو طبعاً أقل من مصروف شقيقي والشقيقتين، وكلما زاد المبلغ المعطى إليَّ كان يزيد سخائي في تقديم نصفه من دون أن آخذ شيئاً بالمقابل. "مستقبل غير عادي" هذا "الدرس" في السخاء، بقي في بال الشاعر ومناقبيته وسيكون له عام 1962 أن يترجمه عملياً في ظاهرة ستكون الفريدة من نوعها في لبنان والشرق الأوسط، كما سيجيء ذكرها في حينه. وكان له في أمه مثال اسمى: "أخذتُ عن أمي الجمال وحسّ الجمال. وأخذت عنها حب الثقافة. فهي خريجة مدرسة فرنسية، وكانت تتقن ثلاثاً: العربية والفرنسية والانكليزية. قراءتها سيرة بلوتارك بالفرنسية وروايتها على مسامعي، طبعتني كثيراً وستظهر آثار ذلك لاحقاً في كتابي "لبنان إن حكى". كانت تحب أن تحكي لي في طفولتي الأولى حكايات البطولة والأخلاق. وعنها أخذت روح الشمم والأنفة ونبذ كل ما ليس جميلاً وأنيقاً. لم تكن أبداً تحتمل البشاعة وأخبارها ورواتها. وكانت على نضج كثير". هذه الصورة عن المرأة الجميلة ذات المناقبية، ستبقى في شعره لاحقاً مثالاً سامياً للكمال والجمال. وفي ما بعد، تذكاراً لها، سيطلب من الفنان جورج قرم أن يرسم لوجهها لوحة زيتية لا تزال حتى اليوم في غرفة الشاعر، يتباهى بها دلالة على الأناقة والجمال والبساطة. أمض الشاعر ثلاث سنوات أولى من طفولته في مدرسة خاصة ل "المعلمة صوفيا"، وهي سيدة فتحت مدرسة صغيرة لأبناء الأثرياء في زحلة، وكان شبل عقل والد الشاعر يساعدها على ذلك. في تلك الأثناء، كان الاخوة المريميون الفرنسيون يديرون "الكلية الشرقية" في زحلة، فانتسب اليها الصبي سعيد عام 1920 وهو في الثامنة من عمره "كانت المدرسة تشدد كثيراً على الرياضيات وعلى اللغة الفرنسية. كنت أسأل عن سائر اللغات ولماذا لا يدرّسونها لرغبتي في تعلم لغات اكثر. كنتُ في تلك المدرسة نصف داخلي: فالغداء في المدرسة ويوم الاحد في المدرسة، قبل الظهر للدرس وبعده للنزهة. ويوم الخميس بعد الظهر، مع انه عطلة، كان عليّ تناول طعام الغداء في المدرسة والبقاء فيها للدرس. ولم اكن اعود الى البيت الا في المساء. كنا ندرس 47 ساعة في الاسبوع، وكان البرنامج مكثفاً وممتداً على سعة المعلومات ووفرة المواد". هذا النهج سيبقى في بال الشاعر، وسيخطط في ما بعد لمدرسة مثلى وضع لها مخططاً نموذجياً لتخريج تلامذة نوابغ، سيكون من برنامجها تدريس جميع اللغات الحضارية. من تلك الحقبة، يتذكر عيداً سنوياً كانت تحتفي به زحلة في ساحة "المنشية" يوم 14 تموز يوليو، ذكرى الثورة الفرنسية. ولايزال يذكر اسم خطيب في ذلك العيد سيطبعه في ما بعد: راجي الراعي الذي سيحب الفتى سعيد لاحقاً كتابه "قطرات ندى" ويعتبره "قمة في الحكمة والادب". على ان الشاعر الذي صاره في ماپبعد، لم يكن، وهو طفل، ميالاً الى الكلمة ولا الى الادب. "منذ سنواتي الدراسية الاولى اكتشفت انني ميال الى الرياضيات. وصارت ساعات هذا الصف عندي من أمتع لذاتي. كنت أحسني اعرف ما يقال حتى بت سابقاً معلومات صفي. ومرات عديدة كنت اساعد رفاقاً لي على انجاز فروض الرياضيات مع انهم كانوا ارفع مني بسنة او سنتين. وغير مرة كنت اجادل استاذ الرياضيات في عملية حسابية ويثبت صواب رأيي وخطأ تدريسه. كان مدير المدرسة يقول: "لهذا الصبي، غداً، مستقبل غير عادي في الرياضيات". ومنذ تلك السنوات الاولى، اضمرتُ ان اتخصص في الهندسة. شعرتُ انني سأكون مهندساً بارعاً لشدة شغفي بالرياضيات. وحين فاتحت اهلي بذلك لم يمانعوا. كانوا يحترمون رأيي ورغبتي. يومها لم اكن قوياً في الادب واللغات. كانت علاماتي في العربية والفرنسية لا تتعدى معدل 9/20، وكان اساتذتي يحثونني على ان اتقوى فيهما، مع انني كنت الاول في صفي بسبب تفوقي في الرياضيات وحدها. لم يكن التشديد كبيراً على العربية، لغة وادباً، فلم يكن لي انصراف اليها، بل كان التشديد على الفرنسية مع غياب تام للانكليزية. واليوم اشعر بتعاسة لأنني لا اعرف الانكليزية، كما سيشعر، بعد سنوات قليلة، كل طالب لم يتعلم اليابانية التي سيكون لها شأن عظيم في العقود الاولى من القرن الواحد والعشرين. فالانكليزية اليوم هي اللغة العالمية الاولى. لذلك اعي اليوم انني لا اعرف من لغات العالم الحضارية الا الفرنسية التي ليست سوى اللغة الخامسة". ويعود الشاعر الى الارقام والاحصاءات، وهو فيها خبير، ليوضح: "في العالم اليوم نحو 2800 لغة سائدة، منها تسع هي التي اسميها اللغات الحضارية لا الاجنبية كما يدرسونها لطلابنا. هذه التسع هي نوافذنا على الحضارة في العالم من خلال الكتب المنشورة بهذه اللغات. وترتيبها هو الآتي: الانكليزية، يصدر بها 23$ من كتب العالم، الروسية 17$، الالمانية 15$، اليابانية 11$، الفرنسية 9$، الاسبانية 7$، الايطالية 6$، البرتغالية 5$، الصينية 4$. تبقى نسبة 4$ من كتب العالم تصدر في سائر اللغات السائدة". الكارثة المالية انطلاقة سعيد عقل المدرسية العاصفة في تلك السنوات، لم يقدر لها ان تستمر. فها هو شبل عقل "مجنون السخاء"، كما سماه ابنه سعيد، يصاب عام 1927 بكارثة مالية قاصمة: خسر امواله بعد عمليات مصرفية عدة، وكان بذر اموالاً كثيرة فاضطر الى بيع ما تبقى من اراضيه حتى يسدد الديون التي تراكمت عليه. وانكسر رغد العيش الذي كان يلف البيت. الوالد الأنوف أبى عليه كبرياؤه ان يعود ويخرج الى الناس، فانزوى في بيته. وارتأى بكره عقل ان يهاجر فغادر الى اميركا في ذلك العام نفسه. وغادر الفتى سعيد المدرسة، وهو مازال في الخامسة عشرة، دون ان يذهب الى ما هو أبعد من الصف الثاني تكميلي عربي والثالث تكميلي فرنسي. وانصرف الى العمل كي يقوم بمصروفه وبعض مصروف العائلة التي اعتاد في كنفها عيشة الهناءة والرخاء. امام هذا الواقع المر، عدل سعيد عقل عن مشروع درس اختصاصه كمهندس في بيروت، فباشر عمله في بعض مدارس زحلة استاذاً للرياضيات. "كنت أدرس مادة الجبر مع انني كنت احب الهندسة الجيومتري اكثر، لكنني لم اوفق في تدريسها". والى جانب التدريس بالفرنسية بدأ العمل في حقل الكتابة بالعربية. كانت الخطوات الاولى في جريدة "الوادي" الزحلية لصاحبها ندرة الوف، وسرعان ما تطور العمل من التحرير في الجريدة الى تحرير الجريدة كلها. ازاء هذا الواقع تغير مصير الفتى الذي كان يرنو الى الهندسة وقرر ان ينتقل الى عالم الادب. ولكن بالطريقة نفسها: "فكرت منذ البداية: اريد ان اكون اديباً ضليعاً كما كنت انوي دراسة الهندسة بوسع وعمق ومعرفة كي اكون مهندساً ضليعاً. ولماذا قررتُ الانتقال الى الادب مع ان الادب ليس ميلي ولا من طبيعتي؟ لسبب بسيط: اكتشفت ان الادب هو العقل الوحيد الذي يمكن ان ادرسه لوحدي واقوم بتحصيله فيما انا اعمل. عندها صممت ان ألج عالم الادب مثقفاً ضليعاً فيه. والطريقة الوحيدة: ان اطالع الادب العالمي، كي اعرف ماذا يجب، من اول الطريق، ان يكون في رأس الاديب ليكون خلاقاً، تماماً كما علي كطالب الهندسة ان اطلع على عالم الهندسة كي اكون مهندساً خلاقاً. على الاديب، اذن، ان يكون مطلعاً على الادب كي يصبح اديباً مبدعاً. ولما لم اكن اعرف من اللغات الحضارية سوى الفرنسية، كان عليّ ان اطلع، بالفرنسية، على آداب العالم الاخرى. وهذه المهمة كانت لتبدو مستحيلة، لولا مصادفة، حملتني ذات يوم الى نبع وفير". الاسبوع المقبل: الحلقة الثانية من شعره المُذاع يا قارئ القرآن... صل لهم غنيتُ مكة... أهلَها الصيدا والعيدُ يملأ أضلُعي عِيدا فرِحوا...فلألأ تحت كل سماً بيتٌ على بيت الهدى زيدا وعلى اسمِ رب العالمين علا بنيانُهم... كالشِّهب ممدودا يا قارئ القرآن... صلِ لهم أهلي هناك... وطيبِ البِيدا * * * من راكعٌ... ويداه آنستا ان ليس يبقى البابُ مرصودا أنا، أينما صلى الأنامُ، رأت عيني السماء تفتحتْ جودا لو رملةٌ هتفت بمُبدعِها شجواً، لكنتُ لشجوِها عودا ضجَّ الحجيج هناك، فاشتبكي بفمي هنا، يا ورقُ، تغريدا * * * وأعزّ، ربي، الناس كلهمُ بيضاً، فلا فرقتَ، او سُودا لا قفرةٌ إلا وتُخصِبُها إلا ويُعطى العطرَ لا عودا الأرضُ، ربي، وردةٌ وعدت بكَ أنت تقطفُ فاروِ موعودا وجمال وجهكَ... لا يزالُ رجاً يُرجى وكلُّ سواهُ مردودا. من شعره في أمه أمي يا ملاكي يا حبي الباقي الى الابد ولا تزل يداك أرجوحتي ولا أزل ولد يرنو الي شهر وينطوي ربيع أمي وأنت زهر في عطره أضيع وإذ أقول: أمي أفتن بي أطيب يرف فوق همي جناح عندليب أمي نبض قلبي نداي إن وجعت وقبلتي وحبي أمي إن ولعت عيناك ما عيناك أجمل ما كوكب في الجلد أمي يا ملاكي يا حبي الباقي الى الابد مذاعة، غير منشورة في كتبه شاكست أمي، وطفلاً كنت، بعد، نكد قطفت عن شعرها، لي، بعض ازهار قالت: ألا ردها والعب بأسواري ما همني ذهب في المعصمين غرد قطفت عن شعر امي كل اشعاري. من "خماسيات الصبا" أجمل الاعراس ذكّرنني شجرات اللوز بالابيض بثوب إكليلها وهي اليمام البض بها تخطر، تسترخي مدللة على ذراع فتى، كالليث ان ينقض ملاكه هي، إن دسّت أناملها بين الورود استحى شوك لها وارفض من الزمان أراها اليوم راجعة تمشي الى بيتنا في طرحة أعرض لا... لا تخيلتها إلا وزند أبي يلف منها عروساً خصرها ينهض. من "كما الاعمدة" من شعره غير المنشور الوصيّة هكذا أبقى إذا خيروني... هكذا كل نفح عارض ناقل عني شذا تبرد الارض، وبي للعصافير جذى لا رأى الرائي على ورد قبري مأخذا رب قل: "يا شوكه لا يكن فيك أذى". مؤلفاته: بالعربية: 1 بنت يفتاح طبعة اولى 1935 طبعة ثانية 1991 2 المجدلية طبعة اولى 1937 طبعة ثالثة 1991 3 قدموس طبعة اولى 1944 طبعة رابعة 1991 4 رندلى طبعة اولى 1950 طبعة خامسة 1991 5 غد النخبة طبعة اولى 1954 طبعة ثانية 1991 6 أجمل منك؟ لا. طبعة اولى 1960 طبعة ثانية 1991 7 لبنان إن حكى طبعة اولى 1960 طبعة ثانية 1991 8 كأس لخمر طبعة اولى 1961 طبعة ثانية 1991 9 أجراس الياسمين طبعة اولى 1971 طبعة ثانية 1991 10 كتاب الورد طبعة اولى 1972 طبعة ثانية 1991 11 قصائد من دفترها طبعة اولى 1973 طبعة ثانية 1991 12 دلزى طبعة اولى 1973 طبعة ثانية 1991 13 كما الاعمدة طبعة اولى 1974 طبعة ثانية 1991 14 الوثيقة التبادعية طبعة اولى 1976 طبعة ثانية 1991 15 خُماسيات الصبا طبعة اولى 1991. باللبنانية: 16 يارا طبعة اولى 1960 17 خماسيات طبعة اولى 1978.