مهما تنوعت الحنة، ومهما اختلفت طرق استخدامها وأصولها، تبقى القاسم المشترك الذي يجمع نساء الشرق اللواتي يكيفن هذا النبات ومنتجاته بما يتناسب والتجربة التاريخية والفنية التي يعشنها. وهكذا تأتي نقوشها على الأكف والاقدام ترجمة حرفية تحاكي الموروث الشعبي في فن الزخرفة، ونقلاً لخطوط مستمدة من البيئة المحيطة. فالحنة السودانية مثلاً تقترب كثيراً من فسيفساء الطبيعة الافريقية الاستوائية في حين تعنى الخليجية منها بالمنمنمات الشبيهة بالجواهر المصنوعة في أقصى الشرق. ان ضرورة الاقتراب أكثر من عالم الحنة للاطلاع على دورها في عالم المرأة الشرقية هذه الأيام دفع "الوسط" الى اقامة ليلة حنة عربية منوعة في دبي حضرتها نساء من الامارات والسودان والمغرب ومصر والهندوالصومال، وكان هذا التحقيق: قبل الولوج الى ليلة "الوسط" الخاصة وكلام المشاركات فيها لا بد من العودة الى التاريخ لمعرفة قصة الحناء من البداية... عرف قدماء المصريين الحناء عندما أرسل الملك رمسيس الأول بعثة طبية الى آسيا للبحث عن الأعشاب المفيدة، وقد عرف عن الفراعنة اهتمامهم وبراعتهم في شؤون التداوي والطب، ويقال بأن أبرز انجازات البعثة الفرعونية في ذلك الوقت كان العودة بنبات الحنة الذي استخدموه في أمور عدة أهمها التحنيط والتجميل واستخراج العطور كما في مراسمهم الجنائزية وذلك باحاطة الجنازة أو الميت بأغصان الحناء. وقد شاع استخدام الحناء بين العرب قبل الاسلام واستمر الأمر بعده، وهناك العديد من الأحاديث النبوية التي تحث على استخدامها لعلاج بعض الأمراض. واللافت للانتباه ان الحناء تحولت مظهراً من مظاهر البهجة والفرح في التاريخ المعاصر ويكثر استخدامها في الأعياد واحتفالات الزواج. ويحكى على سبيل المثال انه في أثناء زواج قطر الندى ابنة ضمارويه من الخليفة المعتضد سهرت القاهرة ليالي عدة تتفنن بأغنية مطلعها ياحنة.. ياحنة.. يا قطر الندى وهي أغنية لا تزال تردد في ما يسمى "ليلة الحنة" التي تحييها العروس ورفيقاتها والتي تسبق الزواج بليلة أو ليلتين حسب ما تقتضيه العادات في بلدها. البداية فارسية ويشار الى ان الملكة كليوباترا استخدمتها لصبغ شعرها، عندما كانت لا تضع الشعر المستعار على رأسها، كذلك فعل الملك توت عنخ آمون عندما صبغ بها لحيته قبل 1400 سنة من الميلاد. وتشير المكتشفات الأثرية في انحاء عديدة الى ان استخدام الحنة يعود الى 3500 عام قبل الميلاد. وهناك اشارة الى أن جميع المومياوات المصرية القديمة تم وضع الحناء على أيديها وأظافرها بشكل خاص. وهذا جزء يسير من أسرار التحنيط غير المعروفة حتى الآن في ذلك الحين. ويعتقد بأن الحنة ظهرت لأول مرة واستخدمت في بلاد فارس، وان كانت مصادر أخرى تؤكد بأن مصدرها الهند بلاد النباتات العطرية وذلك قبل أن تنتشر بسرعة في المناطق المحيطة بها وبخاصة في منطقة الخليج وباكستان والشرق الأدنى ومصر والمغرب والسودان لسهولة عملية زراعتها وسرعة الحصول على انتاجها بواسطة طرق عدة كأن تستنبت البذور أو تستخدم "العُقل" بدفنها في الأرض من أي نوع كانت طينية أو رملية وعندما يصل النبات الى درجة النضج تقطع أطرافه وتجفف وتطحن. والثابت حتى الآن ان استخدام هذا النبات في الوقت الحاضر محصور في نطاق صناعات تجميلية كثيرة مثل صبغات الشعر وتقوية جلد الرأس. وجلد الكفين والقدمين. كما يستخدم لدبغ الجلود، وتلوين المنسوجات وتركيب الأدوية الملطفة للالتهابات الجلدية ومعالجة الحروق والتخلص من الفطريات التي تصيب الجسم واستخراج زيته الذي يشكل عاملاً أساسياً في صناعة العطور. وقد كان ابن سينا أول العلماء الأطباء الذين نصحوا باستخدامه كذلك فعل الرازي وابن القيم الجوزية وغيرهم. رأي هندية وتقول رشا الهندية التي جاءت للعمل في دبي قبل سنوات وحضرت ليلة "الوسط" الخاصة: "في بلادي نستخدم الحنة لاحتفالات الزواج فقط من قبل جميع الديانات والطوائف وهي كثيرة باستثناء المسيحيين. ويكون ذلك قبل الزواج بثلاثة أيام حيث تقام ليلة خاصة بالنساء. وما يلفت الانتباه في الحنة الهندية أننا نغطي بها أجزاء أكبر من اليدين والساقين فقد تصل رسوم الحنة الى الكوع والركبة، أي جميع المناطق الظاهرة من جسم العروس. ونقوش الحنة الهندية دقيقة جداً وخطوطها تشبه الفسيفساء الهندسية حتى ان العروس تبدو وكأنها لبستها. وأهم وجوه الاختلاف بين ما نفعله في بلادنا وما تطلبه نساء العرب أننا لا نغطي أقدام المرأة من الأسفل بها، بل نكتفي بالرسم فوق المناطق الظاهرة أثناء الوقوف". وتؤكد لنا رشا أن المرأة الهندية أكثر نساء العالم استخداماً للحنة في معالجة شعرها وانها لا تقرب الصفات الحديثة اطلاقاً الى جانب الزيوت الطبيعية ما يجعلها مضرباً للأمثال في طول شعرها وغزارته. وعندما نسألها عن طريقة صنع "الخلطة" الخاصة بالحنة الهندية ترد بأنها بسيطة جداً، وتعتمد على كمية محددة من الشاي المغلي وبعض قطرات الليمون الذي يحدث تفاعلاً جيداً ويزيد من كثافة اللون المتبقي على الجلد إثر وضع "الخلطة". الحنة الصومالية يمنية وفي الصومال البلد المهشم الآن مكانة خاصة للحنة وطقوس تراعى تقوم على تنفيذها نساء يطلق عليهن اسم "المخضبات" وهن يمنيات الجذور مهمتهن إعداد العروس للزفاف وسط جو من البخور والترانيم الشجية. وتقول السيدة "افريكا صالح" التي عاشت في منطقة الخليج منذ وقت طويل وحضرت ليلة "الوسط": "ليلة الحناء طقس لا بد منه سواء كانت عائلة العروس من الأغنياء أو الفقراء. انها جزء أساسي في عادات وتقاليد الصومال "المخضبات اليمنيات" آتين بنقوشهن وطرقهن وأحببناها. وهي نقوش تحاكي بعض الزخارف المستخدمة في العمارة اليمنية القديمة". وتبدي السيدة افريكا دهشتها أمام هذا الاهتمام المتزايد من الخليجية بنقوش الحناء لدرجة ان بعضهن يبقيها دائماً فوق يديه. وتؤكد لنا أن المسنات من نساء الصومال خاصة في المناطق الريفية التي تعتمد على الرعي والماشية، يحرصن على طلاء أكعابها بالحنة لترطيبها ومنع تشققها أثناء المشي حفاة في الأشهر الحارة. وكأنها حذاء غير مرئي!! الحنة السودانية للمتزوجات فقط إن أطرف ما سمعناه في ليلة الحناء العربية هذه كان على لسان واحدة من أشهر المحنيات السودانيات المقيمات في الامارات وتدعى سلوى عبدالرحمن أحمد، التي جاءت محملة بعدتها كاملة من صندوق خشبي مصنوع باليد من خشب التيك الى "المطحن" الخشبي أيضاً المخصص لتخمير العطر المضاف للخلطة تقول سلوى: "للحنة في السودان دلالة اجتماعية تحدد هوية المرأة وما إذا كانت عازبة أم متزوجة. فالمتزوجات في السودان لا بد أن يظهرن بها على الدوام والا طلبن للزواج! ولذلك يكثر الرجال السودانيون النظر الى أيدي وأرجل النساء للتعرف الى وضعهن الاجتماعي. اذا تحولت الحنة في بلادي الى عرف. ولذلك كثر استعمالها والتفنن بأشكالها. حتى ان التطوير طال الخلطة الخاصة بها. وتعتبر حنة "الدامر" السودانية اشهر أنواع الحنة المتداولة عربياً وحتى دولياً باستخدام مصانع صبغات الشعر الأوروبية لها. و"الدامر" منطقة في السودان تعتمد بشكل أساسي على منتوجها من الحنة وهذا النوع مشهور باخضرار أوراقه وسواد لونه فوق الجلد". وتطلعنا سلوى على سر جديد في عالم الحناء يتعلق بأحجار صخرية تشبه الى حد كبير حجارة الكحل العربي "الاثمد" اكتشف أمرها في منطقة مصرية محافظة الشرقية تستخدمها نساء السودان داخل الخلطة بعد طحنها فتزيد من لمعان ورونق الحنة ويسمونها حجر "الصبغة" ولا تعرف اسماً آخر له. وتؤكد لنا ان هذه الأحجار لا تتواجد في أي مكان آخر من العالم. وان مصر منعت تصديرها الى السودان وخروجها من مصر إثر ملاحظة ارتفاع الطلب عليها. وتردد سلوى ان مصر الآن ربما تبيع هذه الصخور الى مصانع التجميل في العالم. وتحذر سلوى الحضور من لمس هذا الحجر الغامض لأنه سام جداً ويتطلب الأمر منها غسل يديها بمحلول معقم بعد كل عملية حناء. وبالطبع يضاف الى "الخلطة" الماء المغلي والشاي. وترافق الحناء السودانية طقوس معقدة، إذ لا بد من عملية التبخير بعد وضع الخليط فوق الجلد. وتستخدم أنواع محددة من الأخشاب للتبخير مثل خشب "الشاف" و"الطلح" وتقطع من أشجار ذات روائح عطرية الى جانب "المحلبية" التي تساهم بتماسك الحنة وإطالة أمدها فوق الجسم ورشة من عطر "السوروتية". عطر محلي أيضاً. وتشير سلوى الى المطحن الخشبي الذي حملته معها. لتضيف: "كل العملية تبدأ من هنا إذ لا بد من اعداد العطور التي ذكرت يدوياً. وقديماً استخدمت جداتنا "الكاز" في خلطة الحنة لاعطائها لمعاناً وتثبيتها مدة أطول. أما اليوم فالعطور التي ذكرت تكفي". أما العروس السودانية أشواق التي قررت نقلنا في تلك الليلة الى عالم الزينة والمرأة السودانية في أهم أوقات حياتها أسابيع ما قبل الزواج فتقول: "من السهل التعرف الى بيت العروس من خلال الروائح النفاذة التي تنتشر حتى مسافات بعيدة أثناء اعداد العروس للزواج، ويتم تبخيرها يومياً بحمامات بخارية معطرة برائحة الصندل الى جانب اعداد الحنة بالطرق السالفة الذكر. وللمحنية في السودان دور آخر غير نقش الحنة وتسريح شعر العروس وهو تدريبها على الرقص، فمن العادات الراسخة في تقاليد العرس السوداني ضرورة رقص العروس في ليلة عرسها". وعندما نسأل سلوى اذا كان ممنوعاً على الفتاة العازبة استخدام الحنة في بلدها، ترد بسرعة يستحسن ألا تفعل والا قيل فيها الكثير وأصبحت حديث المجالس، فهي بذلك تتعجل دعوة الرجل للزواج وهذا عيب لا يقبله المجتمع!! وفي دول المغرب العربي تكتفي النساء كما اخبرتنا صبيحة "المحنية" المغربية باستخدام الحنة في الأعياد والمناسبات الدينية مثل عيد مولد الرسول عليه الصلاة والسلام والأضحى والفطر المبارك الى جانب حفلات الزواج والطريف ان صديقات العروس يفضلن استخدام الخلطة نفسها التي تعدها المحنية للعروس فقد تجلب لهم الحظ مثلما فعلت لصاحبتها ويتزوجن بعدها. وليلة الحنة المغربية مهرجان نسائي للطرب والفولكلور الشعبي والرقص تتخلله طقوس جميلة تختلط بها الأناشيد الدينية بالزغاريد وروائح البخور والعطور المختلفة. انها بحق ليلة عمر كما تردد صبيحة. والنقوش المغربية محددة المعالم توارثة منذ القدم لم يطرأ عليها تغيير كبير مثلما يحدث في بلدان أخرى. تشكيل عالمي فوق الأكف وأخيراً في الامارات ومثلها سائر دول الخليج حيث تحافظ النساء على نقوش الحنة لفترة أطول وتوليها عناية خاصة بسبب ارتفاع مستوى الدخل وتوفر الخدم الذين يقومون بالأعباء البيتية. وقد جرت العادة اقامة ليلة الحنة يوم الثلثاء أي أول أيام العرس، باعتبار أن ليلة الجمعة هي ليلة الدخلة وإتمام الزواج. ويحضر أهل العروس الحناء وتأتي احدى القريبات أو صديقة للعائلة لعجنها بالليمون أو ماء الورد الذي يكسبها نعومة. ومن أطرف اللحظات بالنسبة الى العروس ليلة الحنة هي تلك الوقفة والانحناءة وسط صديقاتها اللواتي تحلقن حولها علها تجلب لهم الحظ السعيد قبل البدء بعملية النقش. وترتدي العروس الخليجية ثوباً تقليدياً أخضر اللون مطرزاً بخيوط الذهب والفضة، وتتزين بجميع ما لديها من حلي هذبية وتشترك جميع النسوة والفتيات حتى الصغيرات جداً منهن بوضع الحناء ونقش أيديهن. بقي أن نذكر بأن ازدهار مهنة المحنية في دول الخليج العربية ساهم في تطور نقوشها وتنوعها حتى ان كل محنية أصدرت "كاتالوغاً" خاصاً بها حذرت من نقل نقوشه دون اذنها توزع في صالونات التجميل التي تخصص أقساماً خاصة فيها للمحنية، وان تكلفة نقش الكفين والقدمين قد تصل الى 500 درهم وربما أكثر حسب مستوى المحنية وقدرتها على الابداع. ويتم الحصول على خدمات المحنية بتحديد موعد معها قبل فترة كافية فجدول مواعيدها قد يكون مزدحماً، والخليجيات مفتونات بالنقوش الهندية والسودانية هذه الأيام، لكن أطرف ما سمعناه في ليلة الحنة العربية في دبي هو اخبار تلك الفنانة التشكيلية اليوغوسلافية التي جاءت الى أبو ظبي منذ فترة وفضلت نقش الحنة على رسم اللوحات مستخدمة كل قدراتها في رسم الأكف الناعمة.