روى منصور رحباني في الحلقة الاولى من ذكرياته قصة طفولة اتسمت بالغرابة بين مقهى فوار أنطلياس ومقهى المنيبيع وحكاية جدة ملأى بالأساطير الشعبية حيث كبر عاصي ومنصور الرحباني الى فتوة بدأت تمتلئ بالمغامرات الأولى في حقل الكتابة والموسيقى. مغامرات شحنها بالنضج راهب كان له تأثير كبير على موسيقاهما، وتمثيليات في أنطلياس بدأ معها ميلهما الى الخشبة، وهو تفجر في ما بعد اعمالاً مسرحية وغنائية. وفي ما يأتي الحلقة الثانية: في أنطلياس، بين الدكان والبيت، بدأت مواهب عاصي الكتابية تتفتح. كان ذلك في بدايات أولية في مجلة "الرياض" المدرسية الذي كان يصدرها استاذنا فريد أبو فاضل الذي انتقلنا الى مدرسته بعد مدرسة راهبات عبرين وقبل انتقالنا لاحقاً الى مدرسة كمال مكرزل. لكن عاصي أراد ان يستقل بمغامراته الخاصة، في "مؤسسة صحافية" أنشأها عام 1938: "الحرشاية - مجلة أسبوعية فكرية اجتماعية فنية". كان يحررها وحده، ويكتبها كلها بقلم الكوبيا الرصاص بخط يده على دفتر مدرسي قياس 15/19، وتتضمن: شعراً ومقالات أدبية ونقداً ومشاهد مسرحية وخواطر وجدانية ومسلسلات بالفصحى والعامية. وحين "يصدر العدد" آخر الاسبوع كان يدور على الاصدقاء في الضيعة خلال السهرات والجلسات الخاصة، يقرأ موادها عليهم بصوته الجهوري ونبرته التمثيلية. وصباح الاثنين يعود ليبدأ بالعدد التالي. كان يكتب افتتاحياته بتوقيع "حرشي" ويكتب باقي المقالات بأسماء مستعارة وهمية: يوسف بركات. أنيس الحايك، ابو عبيدة، ومراسلين لپ"الحرشاية" في عدة مناطق كمراسل لها في الزغرين زودها مرة بمقابلة مع الأمبراطور الزغريني موسى روحانا. من قصائده الساخرة مثلاً في، "الحرشاية"، وكانت المنطقة تعيش اجواء الحرب: قد جاء الليل… وظلماته غمرت أشجار الساحات لا بيت يضوي بقنديل خوفاً من ضرب الغارات وبصرت بنومي حبيبة قلبي قد ضربت لي سلامات جاءت تخطر مشياً عندي وهي من أحلى الستات فضربتها كفاً شقلبتها دحرجتها بدون كلمات برمت برمت برمت برمت شبقت خلف الكنبايات ومن قصائده التي ذاعت على ألسنة الشباب في انطلياس، قصيدة نظمها للنادي وجاء فيها: يا روضة الآداب وبهجة النادي وقبلة الطلاب يا أيها النادي يا معهداً يزدان بالعلم مبداه شعاره الايمان والله يرعاه محبة الأوطان أبهى مزاياه فهو الضيا الفتان والراشد الهادي يا روضة الآداب يا أيها النادي مجلتا "الحرشاية" و"الأغاني" وكان في "الحرشاية" مكان للأخبار الحربية، منها ما هاجمني به عاصي يوماً بأسلوب ساخر: "هاجمت طائرات البرغش طراد منصور الراسي في ميناء التخت، فأمطرته بوابل من قنابل الملاريا وأغرقته غرقاً شديداً". ويبدو ان ذاك التحرش بي استفزني يومئذ وأثار غيرتي بعدما رحت ألمس اهتمام الرفاق كل اسبوع بتلقف العدد الجديد من عاصي، فعمدت الى "تأسيس" صحيفة منافسة لصحيفته و"أصدرت" مجلة "الاغاني" التي رحت مثله أضمنها الأخبار والقصص المتسلسلة والشعر والمقالات الادبية والمشاهد المسرحية فلاقت رواجاً مماثلاً لمجلة عاصي. وكنت اشتركت بمجلة "المكشوف" للشيخ فؤاد حبيش من أجل زيادة اطلاعي الادبي. وأدمنت الكتب في تلك الفترة فقرأت طاغور ودوستويفسكي ونماذج من الأدب العربي القديم، حتى جاء وقت كنت فيه احفظ غيباً عشرات الابيات الجاهلية والأموية والعباسية. بقي أبي خارج دائرة هذا "النجاح" الصحافي لأنه لم يكن يؤمن بأن هذه الاعمال "تطعم خبزاً" في المستقبل، اضافة الى ان كل شعر غير شعر عنترة لم يكن يستهويه. وكان دائماً ينهانا عن العزف على البزق، لكنه يعجب من بعض رندحات قد نسمعه اياها وقد تعلمناها خفية عنه. كان حنوناً بقدر ما كان قاسياً. لكن الله قدر لنا الا تبقى محاولاتنا الموسيقية متعثرة فوهبنا نعمة كبرى حلت علينا في أنطلياس، وكانت ذات منعطف مهم جداً لحياتنا الفنية في ما بعد. الاب الموسيقي بولس الاشقر في خريف ذاك العام 1938 وصل الى دير مار الياس في انطلياس الأب بولس الاشقر، المؤلف الموسيقي الضليع 1882 - 1952 المعروف بأنه، حيثما يحل، يؤلف جوقة يروح يدربها على الموسيقى والتراتيل. جمع نخبة من شباب أنطلياس وكنت انا واحداً بينهم كان صوتي عادياً ولم يأخذ عاصي لأن صوته بدأ "يرجل" وفي منطقة وسطى بين الخشونة والنعومة. وحين بدأت الفرقة بتعلم الترتيل كان عاصي يأتي معي ويقف بعيداً عن الباب يراقب قرب الهارمونيوم، وفي قلبه حسرة انه لا يتعلم معنا. وكان يتألم حين يتغيب احياناً عن "الدرس" بسبب واجباته المعنية كپ"استاذ" في مدرسة فريد ابو فاضل، حيث كان تلميذاً قبل الظهر و"أستاذ" الصفوف الابتدائية بعد الظهر. وصدف ان وصل الأب بولس يوماً الى شرح نظرية "التيتراكورد" بعد موسيقي وكان عاصي واقفاً على الباب يصغي بانتباه. حين فرغ بونا بولس من الشرح اراد ان يمتحن مدى استيعابنا لها، فسأل: "من يستطيع ان يعيد لي شرح النظرية"؟ وانتظر يداً ترتفع امامه بيننا، لكن صوتاً جاءه من الخلف، عن الباب، يقول: "انا اعرفها يا بونا" وكان ذلك صوت عاصي، فوجئ الكاهن واستغرب ان يكون هذا الفتى الواقف بعيداً التقط النظرية بذكاء نابه، فدعاه اليه وقال: "اذا استعدت شرح النظرية سأعلمك الموسيقى". وشرحها عاصي، فأحبه الكاهن ومن يومها بدأ يعلمنا الموسيقى. رأى فينا تمايزاً عن سائر الرفاق في الجوقة، فانفرد يلقننا كلينا أصول الموسيقى على الأرغن والبيانو. هكذا اكتشفنا عالم الموسيقى، كأنما كنا ننتظر باباً ينفتح كي نهرع اليه وننغمس فيه. وهذا ما حصل، حتى اننا لم نعد نذهب الى الدكان لمساعدة أبينا ولا عدنا نذهب الى البيت في الساعات المعتادة. كان وقتنا كله مبهوراً بالموسيقى في كنيسة مار الياس التي شهدت اجتماع عامية أنطلياس، كما ظهر في مسرحيتي "صيف 840". ولكثرة ما كنا نعزف الموسيقى على الأرغن والبيانو في الكنيسة، ذهب من يشي بنا الى أبينا قائلاً له: "ولداك عاصي ومنصور يا أبا عاصي حولا كنيسة مار الياس الى تياترو ناديا". وكان أبي متديناً فهرع الى الكنيسة وانتشلنا من ذاك العالم السحري وأعادنا الى الدكان. لكننا عدنا في اليوم التالي خلسة الى بونا بولس، الى ان ذهب الكاهن نفسه فتحدث مع ابي وطيب له خاطره ان ما نقوم به هو من الدين ولا يسيء اليه. فهنئ ابو عاصي الى كلام الپ"بونا". عالم الموسيقى وبدأ التحول الكبير في حياتنا الموسيقية. علمنا بونا بولس المقامات الشرقية والانغام العربية وكتابة النوطة وأطلعنا في مكتبه على مراجع موسيقية نادرة كپ"الرسالة الشهابية في قواعد الحان الموسيقى العربية" للدكتور ميخائيل مشاقة، وكتاب كامل الخلعي، وكتب الفارابي والكندي. قرأناها فتعمقنا في الموسيقى الشرقية، وبقينا ندرس عليه في فترات متقاربة ومتباعدة طوال ست سنوات. وكي نرد له الوفاء كانت اول قطعة من تأليفنا وتحليننا هي مقطوعة لمناسبة عيده. وبعدها صار يركن الينا في تلحين بعض المزامير. في تلك الفترة كان عاصي يلحن وحده قطعاً او مزامير وأنا ألحن وحدي. كانت لنا مقطوعات منفصلة. لم نكن، في تلك الاثناء، بدأنا اعمالنا بتوقيع "الاخوين رحباني". منذ تلك الفترة لاحظ بونا بولس اننا "جدد" في نهجنا ومنحانا التأليفي والتلحيني. ومع اننا كنا متأثرين في طفولتنا وصبانا بأغاني عبدالوهاب كنا احياناً نسير مسافة نصف ساعة من انطلياس كي نجلس تحت بيت فيه راديو فنستمع الى اغاني عبدالوهاب الا اننا حين بدأنا التأليف والتلحين بدأنا لا نشبه احداً. جاء عطاؤنا، منذ البدايات، مميزاً ومغايراً. ونشهد اليوم، ودائماً، بأن بعض الفضل في هذه الظاهرة لدينا يعود الى بونا بولس الاشقر. وحين اقيمت له حفلة احياء ذكراه في قاعة سينما كابيتول بيروت 31/3/1963 ألقى عاصي كلمة وفاء جاء فيها: "يوم مر بونا بولس في ضيعتنا انطلياس، ندهنا من طفولتنا التائهة وعلمنا الموسيقى وكنا يومها نجهل ما الموسيقى. اخبرنا عن الفن وكنا نجهله، ولقننا الدخول الى وديان النفس والاماكن العميقة في الضمير. علمنا النوطة والنظريات الموسيقية والالحان الشرقية، ولكنه مع هذه جميعها علمنا السهر على الكلمة واللحن، وأضاء لنا اننا امام ابواب الفن نبقى تلاميذ، وأن الفرحة الكبرى هي فرحة الانسان بولادة الجمال. مرة سألته: يا بونا، علمتنا كل هذه السنوات ولم تأخذ منا شيئاً. كيف نكافئك؟ اجاب بلهجته الرضية: تكافئانني اذا اكملتما الرسالة. اكتبا اغاني وأزرعا قلوب الناس شعراً وقصائد وموسيقى وألحاناً". هذه العبارة من بونا بولس معلمنا الاول ظلت تراودنا، عاصي وأنا، طوال مسيرتنا الفنية. من الموسيقى الى المسرح من الموسيقى كان لا بد ان ننتقل الى الكلمة. بدأ في تلك الاثناء صديق لنا هو يوسف لويس ابو جودة، الكاتب المسرحي بالعامية اللبنانية، يكتب مسرحيات واسكتشات صغيرة نقوم بتمثيلها في المدرسة او ساحة دير مار الياس في بعض المناسبات الخاصة. وكان صاحب المدرسة نفسه، الاستاذ فريد ابو جودة، كتب مسرحيتي "أرينب بنت اسحق" و"النعمان الثالث ملك الحيرة". وغالباً ما كان يؤخذ عاصي للتمثيل ولا اؤخذ انا بسبب ضخامة جسمي وعدم لياقته للتمثيل، فأبقى على الحياد وفي قلبي غصة وحسرة. وكذلك مثّل عاصي في رواية "وفاء السموأل" في بكفيا حيث امضينا ذات عام فصل الشتاء في مدرسة راهبات القلبين الاقدسين. منذ تلك الفترة اخذ الحنين بي يكبر الى هذا العالم الجميل الغريب: المسرح. وتدريجاً، مع مسرحيات انطلياس، بدأ المعنيون يأخذونني لأدوار صغيرة كرامى لعاصي. وأخذت تجري لنا حوادث طريفة في تلك البدايات الانطلياسية، منها ما دخل بشكل او بآخر في اعمالنا المسرحية لاحقاً، ومنها ما بقي في الذاكرة لكنها اثرت بشكل لا واع على مسيرتنا في ما بعد. من الذاكرة مثلاً، ما حصل ذات يوم حين كنت امثل دوراً جانبياً في مسرحية، وكنت جالساً فوق صندوق خشبي على طرف المسرح المبني على ركيزتين فقط، وأخشابه زادت نحو مترين من كل صوب عن الركيزتين. وكان من المفروض ان ندخل حماراً الى المسرح ليلة التمثيلية، ما ان شاهد الناس الحمار على طرف المسرح حتى اخذوا يصفقون بشدة ويضحكون مقهقهين، فپ"دهش" الحمار وجفل وحرن ولم يعد يصعد الى المسرح. صرخ الجمهور للممثلين: "شدوا بذنبه" ففعلوا فأخذ يرفس، صرخ الجمهور: "احملوه" فحملوه على الاكف وهو يستمر في رفسه ونهيقه، ودخلوا به الى المسرح في هرج وفوضى ففقد المسرح توازنه على الركيزتين تحته وهوت الخشبة كلها فزلقت من اول المسرح الى آخره، ووقعت مع من وقعوا في بستان الليمون. كانت تلك تجربتي المسرحية الاولى التي انتهت بضمادات على جروحي. مشاكل المسرح مرة اخرى كنا نمثل "يوسف بك كرم" في ساحة انطلياس. وكان الشبان الشيوعيون في الضيعة ضد هذه المسرحية، فلما شهر يوسف بك كرم سيفه هجم الشبان على المسرح حاملين العصي والقضبان فهربنا عن المسرح وهرعنا الى بساتين الليمون المجاورة فيما تتمزق ثياب التمثيل وتعلق على جذوع الاشجار واغصانها. وكان نصيبي من ذلك بضع ضربات على رأسي وظهري من اولئك الشبان الغاضبين. وذات يوم كنا، عاصي وانا، نازلين من الدكان ففوجئنا بمظاهرة للشيوعيين تسير صوب ساحة انطلياس. ندهنا بعض الشباب للسير في المظاهرة ففعلنا. صاروا يرددون هتاف: "فليحيى حزب العمال ورمز الحرية ستالين… ولما ولّع غليونو دخانو غطى برلين" وهو ما عاد فتردد مؤخراً في مسرحيتي الحالية "الوصية" وعلم ابو عاصي بأمرنا فلحق بالمظاهرة وسحبنا من بين عناصرها واخذنا الى الدكان، حيث اجبرنا على الركوع طوال المساء كي لا نعود الى الاختلاط بمظاهرات حزبية. ومشاهد المظاهرات تلك بقيت في بالنا وترددت في اكثر من مسرحية لاحقاً منها "يعيش يعيش" و"ميس الريم". في تلك الاثناء حاولنا تلحين الاوبرا، فجئنا بمسرحة "النعمان الثالث ملك الحيرة" وكان كتبها نثراً فريد ابو فاضل وحولناها شعراً وقمنا بتلحينها كاملة. وغنينا بأصواتنا الناشزة: عاصي كان "النعمان الثالث" وانا لعبت "حنظلة الطائي". واستعرنا موسيقياً واحداً من الاذاعة اللبنانية لا يقرأ النوطة ولا تدرب معنا حتى مرة واحدة، فقال لنا: "انتم ابدأوا الغناء وانا ارافقكم على الكمان كما ارى مناسباً". فكان غناؤنا نشازاً وكان عزفه نشازاً اكثر وزاد في بؤس المسرحية ان عاصي، وهو قام ايضاً بمهمة الاخراج، ابى ان يوظف خيال المشاهدين، فأصر ان يحفر حفرة في وسط المسرح ينزل فيها الممثل اسعد الزمول المفروض ان ينفذ الحكم بالموت حياً، وكان على الممثلين ان يهيلوا فوقه التراب، فدخل التراب في عيني الممثل وكانتا لا تزالان مفتوحتين واخذ من تحت المسرح يكيل الشتائم والصراخ للحفلة وللمسرحيات ولعاصي الرحباني ومن ورطه في هذه الورطة، وفرطت الحفلة وتفرق المشاهدون ضاحكين فيما المفروض انهم يشاهدون مسرحية تاريخية. القطة تفقد المطران هيبته ومن الطريف ايضاً مسرحية كتبها يوسف لويس ابو جودة لعب فيها عاصي دور شاب يقبل على الزواج، وانا لعبت دور ابيه. احتجنا الى فتاة تلعب دور العروس. اقنعنا احدى الصبايا ان تقوم بالدور واقنعنا والدها بأن دورها ان تلقي خطاباً. جاء اهلها حاملين العصي تحسباً لأي تغيير في الدور المرسوم. وكان المفروض في الدور ان يقتل عاصي قطة يؤتى بها الى المسرح، دلالة على "رجولة" العريس يوم العرس. يطلب العريس من الفتاة الذهاب الى المدينة فترفض حفاظاً على عفتها وكرامتها . لكن العريس عاصي يصرّ فترفض، ويعود الى اصراراه فيتفوه بعبارة تلميحية نابية ويأخذ القطة ويضربها بشدة على ارض المسرح للتأثير "الرجولي" على عروسه. لكن القطة وجعت واخذت تتيه مجنونه على المسرح في كل اتجاه الى ان قفزت صوب الجمهور وقعت في احضان المطران ذي الهيبة وكانت الحفلة تحت رعايته. اخذت القطة من شدة ألمها تثأر بتخديش لحية المطران حتى سال من ذقنه الدم وقفز طالباً الهرب فانقشعت عنه معالم الهيبة. وما لبث ان هجم علينا اهل الفتاة فتفرق الممثلون وهربنا عاصي وانا خلف المسرح بين بساتين الليمون وانتهت المسرحية بفوضي توزعت بين الضحك والخوف. وفي مناسبة اخرى كنا نمثل مسرحية "في سبيل التاج" لادمون روستان ترجمة حليم دموس. كان المسرح من اكياس ورق مموهة. لعبت انا دور ميشال برانكومير ولعب عاصي دور ابن قسطنطين واستعداداً للدور جئنا بكتاب عن المبارزة بالسيف كي نتعلم تماماً كيف تتم تلك. واذا بالعملية حسابية دقيقة تستلزم حفظ الضربات من والى كي لا يُصاب احدى المبارزين بضربة تجرحه. وهي عملية مبنية على العد وعلى اتفاق مسبق كي تأتي المبارزة طبيعية، وعاصي كان منذ بداياته مع المسرح الواقعي الطبيعي. كان المفروض ان ابني قسطنطين يجيء كي يقتلني لارتكابي خيانة عظمى ضد الوطن بإدخالي الاعداء الى اراضيه. النار تلتهم المسرح وبدأت المبارزة. وبسبب ضعفي في امور العد والحساب اخطأت العدد وصار سيفي يلوح في الهواء دون طائل وسط ضحك الجمهور وصرخاته الى عاصي: "اقتله. اقتله. انه خائن". عندها شك عاصي السيف في صدري كأنه يقتلني فانبطحت ارضاً كأنني مت. وصرخ عاصي حسب الحوار: "اشعلوا النار. اضيئوا المشاعل وليستفق المواطنون ويهبوا للدفاع عن الوطن". وكنا اعددنا بضعة اكياس ورقية خلف المسرح لايهام الناس باضواء المشاعل. ولكن النار غدرت بالكومبارس وامتدت الى ديكور المسرح وهو ايضاً من الاكياس فأخذ المسرح يشتعل. سمعت صراخ الجمهور: "حريق. حريق. احترق المسرح بالممثلين". فقفزت مذعوراً ورحت اساعد الممثلين في اطفاء النار وسط صياح الجمهور: "قام الميت". ثم عدت الى انبطاحي ومت من جديد. عندها القوا القبض على قسطنطين لاعتباره خائناً قتل ابيه واقاموا تمثالاً لابيه ميشال. كان عليّ بصفتي ميشال برانكومير، ان اقوم مجدداً بدور التمثال شاهراً سيفي طوال كامل الفصل الاخير وهو يستغرق 45 دقيقة . لذا كان لزاماً عليّ ان اتصنم طوال الفصل لا اؤتي حراكاً. ولشدة ما تهيأت خلال فترة التمرينات تمكنت من السيطرة حتى على حركة عيني. وكنت اسمع اصوات اصدقائي بين الجمهور يرددون: "هل هذا منصور ام انه تمثال حقيقي؟" ويحاولون اضحاكي فلا اضحك. يرشقونني من تحت بحصى صغيرة فلا اتحرك. ذلك ان عاصي، وكان مفروضاً انه مكبل على قدمي تمثال ابيه، كان قاسياً في اصراره كمخرج على طبيعة تمثيل الدور. ولم يكن يتهاون مطلقاً بالامور الفنية. كارثة وهموم في تلك الاثناء، وسط كل ذاك الهرج الضاحك والتسلوي في مسرحيات انطلياس وما كان يحصل لنا من طرائف، كانت حياتنا في البيت بدأت تصاب بالهموم: العائلة كبرت كنا اصبحنا ستة: عاصي وانا وسلوى ونادية والياس والهام. مقهى المنيبيع لم يعد منتجاً بسبب كارثة حلّت علينا في آخر صيف 1943 حين جاء طوفان هائل جرف المقهى والعليّة والعرزال، فهربنا الى دير مار الياس شويا نبيت فيه ريثما نجمع اثاثنا الباقي وما اختبأ فيه من عقارب وبقايا طيور تشرينية غريبة بدأت تحوم حول المقهى المدمر مشاهد مؤلمة بقيت في خيالنا، عاصي وانا، وقتاً طويلاً. الدكان في انطلياس لم يعد مثمراً ولا عاد يفي بمتطلبات العائلة، كان لا بد من الاتكال على عاصي وعليّ بوظيفة تدعم قليلاً معاش البيت. مرّ عام 1944 ثقيلاً علينا بهموم اقتصادية لم تخفف من وطأتها تسلياتنا المسرحية في انطلياس، بل زادتها حادثة اليمة اصابتنا في اوآخره، حين قرر الاخوان في انطلياس ان يكرمونا، عاصي وانا، لما اضفينا على بلدتنا من نشاط مسرحي وثقافي، فصمموا على احياء حفلة تكريمية في ليلة عيد الميلاد، في 24 كانون الاول ديسمبر. راحوا يتهيأون ورحنا "نتهيأ لقطف ثمار نجاحنا"، غير مدركين ان القدر كان لنا بالمرصاد تلك الليلة بالذات، وفجعنا بما تشاءمنا بعده طوال حياتنا من كل احتفال تكريمي: مات ابو عاصي. الحلقة المقبلة: عاصي البوليس ومنصور الشرطي