جائزة نوبل للآداب، كانت هذه العام من نصيب الكاتبة الاميركية توني موريسون. نحاول في ما يأتي تسليط الضوء على تجربة هذه الاديبة السوداء التي طلعت كلماتها من "هارلم"، حيث عبرت عن الهامش المنسي، في مناخات قاتمة لا تنقصها السخرية، ولا تفتقر الى الحب… قبل أيام انعقد لسان الكاتبة الاميركية السوداء توني موريسون 62 عاماً حين زف اليها "هاتف في الفجر" بشرى حصولها على جائزة نوبل، وبدأ أدونيس وآخرون رشحتهم وكالات أنباء وصحف عالمية لنيل هذا الشرف موسم انتظار آخر. والدهشة تليق بموريسون، كونها لم تتخيل ان "الأنوثة" والزنوجة" اللتين جعلتا عالمها "أكثر رحابة"، ستكونان جناحيها الى محفل "العظام". وهذا الانتصار الثاني، في ثلاث سنوات، لأدب المرأة لم تحققه سوى ست كاتبات بين 1901 و1990. الا ان موريسون نموذج مختلف عن نادين غوديمور التي حصلت على نوبل قبل عامين، فلكل منهما نمط كتابة واسلوب "التزام" مغايران. والجائزة الجديدة ليست صك اعتراف فحسب لسيدة تدرس الأدب في جامعة برنستون، ومحررة سابقة لدى دار نشر "راندوم هاوس" الاميركية "اليسارية"، بل هي مكافأة لتقاليد فنية عريقة بقيت طويلاً منسية: أدب الاميركيين والاميركيات السود الذي غرف من الثقافة الافريقية الأصيلة، وتبلورت معالمه "المكتوبة" في عشرينات هذا القرن مع اشتداد زخم حركة "نهضة هارلم". وفي عالم موريسون الذي يزدان بروايات ست أولاها "العين الاكثر زرقة" 1970، تترجع اصداء زورا نيل هوستون ونيلا لارسين ومارغريت ووكر وغيرهن… فهموم هؤلاء الكاتبات الزنجيات اللواتي سبقنها بقيت حاضرة في أعمالها باستمرار: من واقع التمييز العنصري الى الفقر "الاسود" في هارلم وآلام المرأة الزنجية المضطهدة في منزلها وخارجه. كل هذه المواضيع، نسجتها موريسون في مناخات تستوحي ايقاعات الجاز والميثولوجيا "البدائية"، وتتشبع بالفولكلور الاسود الذي يسكن قصصها كما ينضح من أدب "الزنوجة" بشكل عام. ولئن كانت قصصها تحفل بهذه العناصر "القديمة"، فهي بمثابة مختبرات تشتغل فيها على القديم حتى يستحيل جديداً متفرداً. وقد تكون "محبوبة" 1987، وهي أهم رواياتها التي أتتها بجائزة بولتيزار المثال الأبرز على كيفية تماهيها مع الماضي الأدبي ومعارضته في آن. فالرواية تقدم عبودية الاميركيين السود في صياغة لا تقل اثارة لمشاعر القارئ عن "كوخ العم توم" التي نشرتها هارييت بتيشر عام 1852. لكن قصة موريسون تتميز في طريقة تعاطيها مع النظام الكريه، ومن خلال تطويع مراراته "فنياً" على نحو لم يبلغه عمل بتيشر، فبدت الرواية الجديدة وكأنها تصحح سابقتها. وفي "محبوبة" التي نقلها الى العربية امين العيوطي ونشرها مركز الأهرام للترجمة، يتجلى هاجس اعادة خلق الماضي "الأسود" او "التذكر من جديد". اذ نجد مظاهر القسوة الفظيعة منسوجة بلغة "مفككة" تتداخل فيها الواقعية بالواقعية السحرية، ويتعانق الشعر النثري مع النثر الشعري والسخرية مع الوحشية في فضاء قاتم لا يفتقر، مع ذلك، الى الحب. هذه "المتناقضات" حولت العمل رواية منفلتة من قيود نمطها الفني، على طريقة تولستوي في "الحرب والسلام"، هكذا جاءت قصص موريسون كلها - وكذلك مسرحيتها اليتيمة "آميت الحالمة" التي لم تطبع بعد موسومة بجدة غير مألوفة. فالرعب المتفشي في "محبوبة" الذي سميت موريسون بسببه "ملاك الانتقام"، يختلط في رواية "جاز" 1992 ايضاً بسخرية "سوداء". وشكل القصة الأولى الدائري الذي يكشف تدريجياً عن نسق معقد البناء، يجد نموذجه الأكمل في عملها الأخير: القصة - الاغنية التي نعرف حبكتها في الاسطر الاولى، قبل ان تسلمنا موريسون الى شخصيات تنوع على الموضوع، وكأنها ترتجل مقطوعة جاز طويلة. والقصة - الاغنية تروي ماضياً "واقعياً": هجرة السود الى الشمال الاميركي الفقير في العشرينات هرباً من التمييز العنصري. وعلى الرغم من موضوعها الواقعي، لم تستغنِ الرواية المذكورة عن التخييل، مثل سابقتها "سولا" 1973 حيث ترسم موريسون صورة "أمينة" لحياة حي زنجي تعود اليه البطلة مصحوبة بپ"وباء طيور أبي الحناء". وفي "طفل القطران" 1981 تغدو الطبيعة شاهد عيان، فالاسماك خائفة، والفراشات مذعورة والاشجار قادرة على الايلام، والشعر يوشّي كتابة موريسون كلها، كما الاسطورة التي تشكل محور "أغنية سليمان" 1977. في أدب موريسون لامكان للنبرة السياسية "المباشرة"، فهي تدرك أن العنصرية لا تموت الا بموت خطابها. لذا تعكف على تفكيك الصور النمطية المكرّسة للانسان الاسود، في سياق مشروع فني يطمح الى "استنباط طريقة كتابة يتعذر طمس طبيعتها الزنجية". غير انها كتابة تشرع أبوابها للآخر، على نحو يميز موريسون عن سول بيلو، "الاميركي الابيض" قلباً وقالباً.