مع إطلالة العام الجديد 1993، يمكنني أن ألخص مشاعري بما قرأته في احدى الصحف البريطانية هذا الاسبوع. فهناك شركة استثمارات في لندن تعقد ندوة كل نهاية عام لمستثمريها وزبائنها، وكان عنوان ندوة العام الماضي: "دخول نظام عالمي جديد" أما ندوة 1992 فكان عنوانها: "لا تتوقعوا شيئاً فلن يخيب أملكم". من الطبيعي ان الشركة كانت تفكر في الاقتصاد العالمي، اما انا فأفكر في الدرجة الاولى في الامن العالمي. لكن حالة القنوط واحدة. ويزداد هذا الاحساس شدة لانني قبل اعوام ثلاثة بالضبط كنت أحلق فوق عنان الريح. فقد انهار جدار برلين، واطيح بنيكولاي تشاوشيسكو في رومانيا، وبدأت شعوب اوروبا الشرقية تتخلص من نير القمع الشيوعي، كما ان الاتحاد السوفياتي بدأ يشهد حقبة من الانفتاح والمصارحة مهدت الى انهيار الشيوعية ككل. كانت تلك لحظة النصر للغرب. فقد اعلن الرئيس جورج بوش مولد نظام عالمي جديد. بل واستطاع المؤرخ الاميركي فرانسيس فوكاياما ان يكسب ثروة طائلة من كتابه الذي اختار له عنوان "نهاية التاريخ". اما اليوم فلا شك ان الخواطر اكثر رزانة واتزاناً. صحيح ان الانهيار التقريبي للعالم الشيوعي كان شيئاً جيداً. وانا اقول التقريبي لان الصين لا تزال معقلاً لعدم الاستنارة السياسية على الاقل مع ان وضعها الاقتصادي ربما كان مختلفاً. الا ان المشكلات التي كان يمثلها الاتحاد السوفياتي الجيد التسليح بالنسبة الى العالم حلت مكانها الآن اخطار وتهديدات عدة للسلام والامن نجمت عن انهياره الى حالة من الفوضى كما حصل في الاجزاء المهمة من الامبراطورية القديمة، وعن حالة الشلل التي اصابت بقية المجتمع الدولي في تعامله مع تلك الاخطار. اذ ان روسيا على حافة الانهيار. وها هو الرئيس الروسي بوريس يلتسن يعترف علناً بأن مركزه اصبح معرضاً للخطر. كما ان اجزاء اخرى من الاتحاد السوفياتي السابق تديرها مجموعات لا تعدو كونها عصابات. وروسيا نفسها تعاني من نسبة تضخم خيالية، والناس فيها يشكون من نقص الطعام. فقد انهار الاقتصاد واخذت السوق السوداء تزدهر ايما ازدهار. في مواجهة هذه الفوضى لا بد من توجيه اسئلة صعبة، وفي مقدمتها: ما الذي حصل للترسانة العسكرية السوفياتية القديمة؟ ان ما نستطيع رؤيته هو انها تباع الآن لكل من لديه المال الكافي للشراء. وبين المشترين دول لا يريد اي عاقل ان يراها تمتلك هذه الانواع من الاسلحة. فلنأخذ ايران مثلاً. اذ تفيد الانباء الغربية انها اشترت للتو غواصتين روسيتين. واذا افترضنا ان ما نقرأه في الصحف لا يشكل سوى جزء بسيط مما يجري فعلاً، فإن هذا يقود الى سؤال مهم آخر وهو: اذا كان الروس على استعداد لبيع الغواصات الى ايران فكيف يمكن لنا ان نتأكد من انهم لا يبيعون الاسلحة النووية الى الايرانيين؟ والمشكلة الجوهرية في دول الاتحاد السوفياتي القديم هي اننا غير متأكدين ممن يسيطر على ماذا فيها. فنظام الحكم بأكمله انهار مما اتاح الفرصة امام عدد من الناس، وبينهم مجموعة ليس لديها اي حصافة على الاطلاق، للثراء بأسرع ما يمكن وبأية طريقة ممكنة. ولا شك في ان بيع الاسلحة افضل وسيلة للثراء السريع في روسيا اليوم، وكلما كانت الاسلحة اكثر فتكاً كلما كان ثمنها أغلى. اذن ما الذي حدث للمخزون السوفياتي من الاسلحة الكيماوية؟ هناك اشاعات ان بعضها وجد طريقه الى ايران. فهل هذه الاشاعات صحيحة؟ ثم هناك سؤال يثير الانزعاج ايضاً وهو: من الذي يدير المفاعلات النووية التي يزيد عددها على عشرة، والتي لا تزال تشكل خطراً على السلامة الدولية لا سيما اذا ما تكرر ما حدث في مفاعل تشيرنوبيل؟ والمعروف ان اجراءات السلامة لم تكن جيدة في اي وقت في العهد السوفياتي برغم وجود آلة حكومية قوية. وانا لا اظن ان هناك اية ثقافة او معرفة حتى الآن بأهمية السلامة. الغرب مذنب وأخيراً، نحن نعرف منذ مدة طويلة ان يلتسن نفسه يواجه مشاكل خطيرة. فهو يخوض صراعاً مع البرلمان. كما ان ارتفاع نسبة التضخم الحالي جعل يلتسن يفقد شعبيته بسرعة مثلما فقد تأييد النواب. ولكي يتابع تنفيذ سياسات الاصلاح التي ربما تنقذ روسيا في المستقبل نجد انه مضطر لان يجعل نفسه اقل شعبية لان من المؤكد ان الامور ستسوء قبل ان تتحسن في نهاية المطاف. وهكذا فلن يستطيع تحقيق ما ينشده للبلاد الا من خلال تحوله الى ديكتاتور مما يقلل بالطبع، وهذا ما يعرفه يلتسن نفسه، من فرص بقائه طويلاً. إذن من الذي يريد المراهنة على ان يلتسن سيكون في الحكم بعد اثني عشر شهراً؟ ولكن اذا لم يبق في السلطة فمن الذي سيتولى مكانه؟ علينا ان نتذكر ان روسيا لم يسبق لها ان كانت دولة ديموقراطية في تاريخها المضطرب ابداً. ومن الحكمة ان نفترض انه اذا ما اطيح بيلتسن فإن النظام الذي سيخلفه سيكون نظاماً مقيتاً وربما كان نظاماً عسكرياً. والا، فإن كل شيء سيهوي الى مزيد من الفوضى مما يعني ان المزيد والمزيد من الاسلحة والتكنولوجيا ستقع في ايدي الناس الخطأ في مختلف ارجاء العالم. وعندما يحدث ذلك سنسمع الكثير من صيحات الندم بالطبع. ففي الولاياتالمتحدة واوروبا سنبدأ جميعاً في سؤال انفسنا: لماذا سمحنا بهدر تلك الفوائد التي ترتبت على انهيار الشيوعية واضاعة الفرصة من بين ايدينا وسمحنا بتدمير الديموقراطية الروسية الناشئة ولم نفعل شيئاً لرعايتها والحفاظ عليها؟ لقد دعا جورج بوش الى نظام عالمي جديد، ولكن بصراحة لم يفعل شيئاً لتحقيقه. فما بين تحرير الكويت وبين نوبة عرض العضلات اخيراً في الصومال كان بوش منهمكاً كلياً في السياسة الداخلية الاميركية وبفقدانه السيطرة على الرأي العام الاميركي . اما في اوروبا الغربية فقد انهمكنا وانشغلنا الى درجة تكاد تصل حد الشلل في نقاش مكثف لادق التفصيلات المتصلة بمستقبل المجموعة الاوروبية. يقال ان الامبراطور نيرو كان يعزف الموسيقى بينما كانت روما تحترق. وهذا ما نفعله نحن في الوقت الذي انهارت فيه الامبراطورية السوفياتية القديمة ويوغوسلافيا وهوت في احضان الفوضى المطبقة. وهذا هو الاتهام الذي ستوجهه الاجيال المقبلة الى الغرب. ومن الصعب ان نرى كيف يمكن للغرب الا يعترف بأنه مذنب. صحيح ان في وسع الولاياتالمتحدة والمانيا ان تقولا انهما وفرتا مبلغ 24 مليار بليون دولار من المساعدات المالية لروسيا هذا العام. وهذا مبلغ كبير من دون شك. ولكن وحتى في هذه الايام نجد ان الولاياتالمتحدة تخصص مبالغ تزيد على ذلك كثيراً لشراء انظمة اسلحة جديدة مع انها الدولة العظمى الوحيدة في العالم وهي بلا شك افضل تسليحاً وتنظيماً من اية جهة اخرى. وستظل كذلك لفترة طويلة مقبلة حتى ولو لم تشتر اي اسلحة جديدة لسنوات طويلة مقبلة. ولهذا فإن تحليلي فيه قنوط مثل مزاجي. فمن ناحية أخذ المدّ التاريخي يتفاقم نتيجة فشل ارادتنا مما يعرضنا جميعاً للخطر، ليس في حالة عدم بقاء يلتسن فحسب، بل وحتى لو ظل في السلطة. وحتى لو تركنا جانباً جميع الجوانب الاخرى المزعجة جداً من الازمة، فإن من الواضح في رأيي انه ما لم نتخذ خطوات فعلية لمنع انتشار الاسلحة، فإننا سنواجه في مكان ما من العالم، وربما قريباً جداً، كارثة كبرى. ان النظام العالمي الجديد ليس سوى خطابة رنانة تحتاج بشكل ماس جداً الى جوهر ومضمون وسأحاول ان اشرح هذا الجوهر والمضمون في مقالتي القادمة. * وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية ووزير التراث والفنون سابقاً.