يبدأ العام الجديد ولبنان يعاني من أزمة اقتصادية واجتماعية مع فارق اساسي هو أن اللبنانيين مع بداية العام 1993 اقل تشاؤماً بالمستقبل على رغم الاجماع الحاصل على ان ما يعاني منه الاقتصاد الوطني يحتاج الى الكثير من العمل والوقت. ويجمع خبراء اقتصاديون في بيروت على ان الفرحة التي احدثها تعيين السيد رفيق الحريري رئيساً للحكومة بلغت نهايتها وأن الحكومة الجديدة بلغت حدود التماس مع الاستحقاقات الاقتصادية المهمة، وهو امر تعكسه بوضوح تصريحات حكومية متعددة حول صعوبة الوضع وضرورة اعطاء الفريق الحكومي ما يحتاج من الوقت والامكانات، ومساعدته في مواجهة المشاكل المزمنة من خلال اظهار المزيد من التفهم للاجراءات التي يمكن ان تلجأ اليها الدولة وبعضها قد يكون مكلفاً على الصعيد الاجتماعي، كما قد يكون مكلفاً على الصعيد السياسي والاقتصادي في آن. وتتركز الخطط الحكومية التي باتت شبه جاهزة للتنفيذ على قطاعات أساسية أهمها اصلاح الادارة اللبنانية مما اصابها خلال السنوات الپ16 الاخيرة، وجعلها قادرة على مواجهة المرحلة المقبلة. وفي هذا الاطار، أعدت الحكومة مشروع قانون لرفع الحصانة عن الموظفين الحكوميين بهدف تطهير الادارة من العناصر التي تتهم بأنها حولت المصالح الرسمية الى اوكار للرشوة والتزوير وافساح المجال امام كفاءات جديدة. وللمرة الاولى، تفتح الحكومة أبواب القطاع العام امام الكفاءات من القطاع الخاص، من خارج مجلس الوزراء، اذ سمحت بتقديم الترشيحات للفئتين الأولى والثانية في القطاع العام، وهما الفئتان اللتان كان التعيين فيها حكراً على القرار الحكومي في اطار التوافق السياسي بين كبار النافذين. الا ان الحكومة اوجدت سابقة في هذا المجال، لم توضح الطريقة التي سيتم اعتمادها لحسم موضوع الرواتب الحكومية، وجعلها موازية لتلك التي يعتمدها القطاع الخاص، الى جانب الحوافز الوظيفية الأخرى التي من شأنها ان تشجع اصحاب الكفاءات على القبول بمبدأ الانتقال الى العمل في المؤسسات الرسمية. والمعروف ان رواتب موظفي الدولة في لبنان فقدت من قيمتها بفعل الانهيار الذي اصاب سعر صرف الليرة طوال السنوات الست الماضية، وباتت قمة الرواتب القائمة لا تتجاوز الپ300 دولار اميركي للذين في قمة الهرم الاداري، وهو مستوى من الاجور بات لا يوفر الحد الادنى المطلوب للعيش. وقد تكون مشكلة تدني قيمة الرواتب احدى اهم المشاكل التي واجهت القطاع العام، وساهمت في تقليص فعالية الاداء الوظيفي لعشرات الألوف في سائر الادارات الحكومية، والمصالح التابعة لها. وعلى رغم الاصرار الذي اظهرته الحكومة الجديدة لتعيين موظفين حكوميين أكفاء، الا ان "الرياح السياسية لم تجر كما تشتهي السفينة الحكومية". وظهرت فجأة خلافات ارجأت اكثر من مرة تعيين موظفي الفئة الاولى، وهم قمة الهرم الاداري، وفيما يصر بعض المسؤولين على اعتماد مقاييس محددة لاختيار المدراء العامين في الدولة، يذهب بعض الممارسات الى حد اعتبار التعيينات المنتظرة "بازاراً" سياسياً بالدرجة الاولى، يجب ان تحافظ فيه الطوائف والمناطق والزعامات على حصصها التقليدية. ويشكك كثيرون في امكان نجاح الدولة في اعطاء صورة براقة عن ادائها من خلال التعيينات الادارية الجديدة، اذ في حين يتحدث المسؤولون عن مقاييس معينة للاختيار على اساسها، كشفت الدفعة الاولى من التعيينات عن ان لا تغيير مهماً سيحصل، وقد يكون اكثر الطرق أماناً ضد عدم اختلاف "أهل الحكم" في العودة الى "السلة" التي تم التوافق عليها اثناء ولاية الحكومتين السابقتين برئاسة الرئيس عمر كرامي ورشيد الصلح، لكن لم تتوافر لها المناخات السياسية الكافية لاطلاقها. وما يمكن ان يعزز هذا التشكيك أن مشروع قانون رفع الحصانة عن الموظفين في اطار السعي للقضاء على الفساد الاداري المستشري، كما احالته الحكومة الى مجلس النواب، يبقى القرار النهائي في يد مجلس الوزراء كسلطة سياسية بدلاً من احتضانه للسلطات الادارية والقضائية العليا، اذ يحق لمجلس الوزراء الرفض كما القبول من دون ان يكون مطالباً بتبرير قراراته، سواء في الاقالة ام في الاستقالة، الأمر الذي يترك الباب مفتوحاً للتشكيك بنزاهة الاجراءات الحكومية. الشروط الدولية ولا ترتبط اهمية الاصلاح الاداري في لبنان بتوفير الخدمات اللازمة للمواطنين، وإنجاز معاملاتهم اليومية بنزاهة وتجرد، بقدر ما هي احد الشروط التي فرضها صندوق النقد والبنك الدوليان كمقدمة للافراج عن القروض التي يمكن ان يحصل عليها لبنان من الخارج، سواء من مصادر دولية ام من مصادر أوروبية وعربية. فقد كان التأخير في انجاز الاصلاح احد الأسباب التي أخّرت حتى الآن قروضاً من البنك الدولي، كما أدت سابقاً الى تبلغ لبنان ملاحظات أوروبية قاسية، كادت تؤدي الى ازمة ديبلوماسية في بعض الاحيان، وذلك عندما تساءل احد السفراء الاوروبيين عن مدى قدرة الحكومة اللبنانية على التصرف بملايين الدولارات من القروض والمساعدات، في حين تفشل في ادارة بعض المؤسسات والحد من الرشوة، عندما اضطرت سفارته الى دفع مبلغ كبير من المال لاصلاح خطوط الهاتف لديها، على رغم التوصية التي حصلت عليها من اكثر من مرجع حكومي ووزاري. وتركز الحكومة على "تلميع" الصورة اللبنانية في الخارج كبلد قادر على انفاق مئات الملايين من الدولارات لتحسين مستوى الخدمات، وإعادة تأهيل القطاعات الأساسية، وتشتمل الخطة التي أعيد ترتيبها قبل حوالي الشهرين، على مشروعات لاعادة الاعمار في البلاد بكلفة 5،2 مليار دولار، بدلاً من 5،4 مليار كلفة الخطة التي سبق لمجلس الانماء والاعمار ان وافق عليها استناداً الى دراسات وضعتها مجموعة "بكتل" الاميركية بالتعاون مع احد مكاتب الاستشارات المحلية. وبحسب مصادر قريبة من الرئيس الحريري، فان الخطة المعدلة سيتم طرحها للبحث والمناقشة في الاجتماع المقرر للدول المانحة للبنان في باريس وبرعاية البنك الدولي، والذي من المتوقع ان يعقد اما في كانون الثاني يناير الحالي، أو يتم ارجاؤه الى آذار مارس المقبل. لقد حصل لبنان حتى الآن على مجموعة من القروض الدولية، كان ابرزها القرض الايطالي الذي انجزت اخيراً الترتيبات الاجرائية للمباشرة بتنفيذه اعتباراً من العام الحالي، وتصل قيمته الى حوالي 480 مليون دولار. كما حصل لبنان على قروض كويتية وعربية تصل في مجموعها الى حوالي 110 ملايين دولار، اضافة الى هبة سعودية بپ60 مليون دولار، انفقت قبل عامين على ترميم المباني العائدة لقوى الامن الداخلي والجيش، وعلى تغطية اكلاف النظافة ورفع الانقاض في بيروت الكبرى. وتوصلت الحكومة اللبنانية الى اتفاق أولي مع البنك الدولي للحصول على 175 مليون دولار لانفاقها على تمويل قطاعات اساسية مثل الماء والكهرباء والهاتف والصحة. كما حصلت على مساعدات وقروض من السوق الاوروبية المشتركة، تصل في اجمالها الى حوالي 245 مليون دولار، اضافة الى فرص الافادة من البروتوكولات المعقودة مع فرنسا منذ الثمانينات، ثم توقف تنفيذها لاعتبارات سياسية ومالية، اذ تأخرت الحكومة في سداد بعض الاقساط المستحقة، الامر الذي دفع الجانب الفرنسي الى الاصرار على دفع المتأخرات كشرط للافراج عن القروض اللاحقة. الا ان القروض من الخارج، على اهميتها وتعقيد الوضع الذي يحيط بها. بدأت تثير اعتراضات تنطلق من ضرورة عدم اثقال كاهل الاقتصاد اللبناني بديون خارجية كبيرة، وتتوافق هذه الاعتراضات مع توجه حكومي بدأ يتبلور بشكل اكثر وضوحاً، ويقوم على مبدأ "تأخير" قطاعات الخدمات لفترة معينة لاستثمارها في مقابل كلفة إنشائها او اعادة تأهيلها، على ان تحتفظ الدولة بحق الاشراف علىها من دون التدخل في تحديد سياسة التسعير والتسويق. ويشتمل هذا الاتجاه على اعادة هذه القطاعات الى الدولة بعد مهلة زمنية محددة تكون الشركة الخاصة قد استعادت اكلافها مع هامش معين من الأرباح. ويبرر اصحاب هذا الاتجاه سياستهم بأنها توفر على الدولة اعباء الديون الخارجية مستقبلاً. القروض السعودية لقد زار رئيس الحكومة حتى الآن الرياضوباريس الى جانب زياراته المتكررة لدمشق. وأظهرت المعلومات التي توفرت ان الدعم السعودي الرسمي قد يتأجل الى اوائل الربيع المقبل. في حين ان الاستعدادات للاستثمار في لبنان كانت من القطاع الخاص، اذ بدأت مجموعات مالية سعودية استعدادها للمساهمة في مشاريع محددة. فقد درس مجلس الوزراء اللبناني في جلسة عقدها الشهر الماضي عروض ثلاث شركات سعودية للمساهمة في اعمار لبنان وهي: شركة التوفيق للصناديق الاستثمارية، وشركة الكابلات السعودية، وشركة زينل للصناعات المحدودة. وأبدت شركة "التوفيق للصناديق الاستثمارية" استعدادها لانشاء صندوق لاعمار لبنان برأسمال مصرح به مبدئياً قدره 500 مليون دولار اميركي، وأعلنت عن انشاء الصندوق فتمت تغطية المئة مليون دولار الأولى من الرأسمال، وهي على استعداد لفتح باب المساهمة في المئة مليون الثانية في اول فرصة. وأشارت في عرضها ان الصندوق المشار اليه مستعد لأخذ مسؤولية مالية في عملية اعادة تأهيل البنية التحتية، وعلى الأخص ما يتعلق بخدمات الهاتف والكهرباء والمياه والمطار والمرفأ والسكة الحديد والطرقات، اي انه سيكون الشريك المالي الذي يدخل مع الجهات الفنية المؤهلة للعمل، وانه سيعطي شروطاً موحدة لكل المنافسين. وأكد العرض ان امكانية الصندوق ليست مرتبطة بحجم رأسماله، فهو يستطيع ان ينشىء ويحوّل استثمارات تصل على الاقل الى أربعة أضعاف الرأسمال المعلن عنه: 500 مليون دولار، اي ان حجم الاستثمارات يمكن ان يزيد على ألفي مليون دولار اميركي. والشركة هي التي سبق ان انشأت صندوق اعمار الكويت وصناديق استثمارات اخرى. أما عرض شركة الكابلات السعودية، وهي من اكبر عشر شركات في مجال التصنيع للكابلات في العالم، ولديها عشرة مصانع في الشرق الاوسط، فأظهر استعدادها لتمويل احتياجات المشاريع الكهربائية والهاتفية كلها، ومدّها بمختلف الكابلات التي لديها القدرة على تصنيعها. وأعلنت الشركة حجم استعدادها للتمويل بمليار ريال سعودي سنوياً حوالي 270 مليون دولار اميركي على مدى ثلاث سنوات، يتم تسديدها بعد خمس سنوات على أساس الاسعار العالمية. أما عرض شركة "زينل للصناعات المحدودة" فهو انشاء محطة كهرباء في لبنان بقدرة 1292 ميغاوات تبلغ كلفتها 1600 مليون دولار اميركي. وذلك على اساس منح الشركة امتيازاً تقوم بموجبه بترتيب عمليات التمويل بموافقة البنك الدولي لانشاء هذه المحطة و"تسليم المفتاح" وإدارتها وتشغيلها. وتعتبر هذه العروض مغرية لأنها تستثمر اموالها وتحدد ارباحها وتتعامل مع المواطنين او مع القطاعات وتوفر حجماً للاستثمار لا توفره الدول المانحة والصناديق الاخرى التي يبحث معها لبنان في تمويل مرحلة اعادة النهوض الاقتصادي. وأوضح مسؤولون في "شركة التوفيق للصناديق الاستثمارية" التابعة لشركة "دلة البركة" ان خطة الشركة للمساهمة ستوضع قيد التنفيذ قريباً. وفي ما يخص باريس فالى البروتوكول المالي المعقود مع بيروت فانه من المتوقع طبقاً لمعلومات خاصة ان تستقبل الحكومة اللبنانية مسؤولين فرنسيين للبحث في امكان استئناف المساعدات الفرنسية. اللبنانيون يعترفون بصعوبة المستقبل، وهم اكثر استعداداً من أي وقت مضى لقبول فكرة ان الصورة المشرقة للبنان القديم باتت غير ممكنة مع تغيير كل شيء، في الداخل كما في الخارج. ربما يشعرون، للمرة الاولى، بأن ما كان مستحيلاً قبل سنوات أصبح ممكناً، ولو بكثير من التضحيات.