أهم مشكلات النقد الادبي العربي المعاصر طرحتها "الوسط" على ثلاثة من النقاد المتخصصين في المملكة العربية السعودية: د. عبدالله الغذامي، د. معجب الزهراني ود. سعد البازعي. وجواباً عن ثلاثة اسئلة تشكل ثلاثة محاور تناول النقاد السعوديون طرائق تجاوز "سلبية" النقد، ومدى تأثير الاتجاهات النقدية الحديثة في الاشكال الابداعية، ومسألة الغريب والقريب في المناهج المعاصرة التي يستخدمها الناقد العربي اليوم. "الوسط": نبدأ من السؤال حول مدى اعتقادكم بأن التجربة العربية للنقد الادبي، استطاعت تجاوز "سلبية" النقد، او انها تمكنت، من خلال تماسّها مع العمل الابداعي العربي، ان تفرز رؤية تصرخ في وجه الواقع، او ان تنسج اصابع تأثير او تغيير؟! - د. عبدالله الغذامي: الامر الاكثر وضوحاً ان نتساءل عن دور تجربة لمّا تزل في معمع الفعل والتفاعل ومعمع التكوين. ومن هنا يكون السؤال عن اثر هذه التجربة مبكراً. ولن يستبين الامر الا مع جيل آخر يتلو جيلنا فيحكم على الفعل الواقع الآن. والسبب ان المرء نفسه لا يستطيع ان يحكم على فعله، والا سيتحول الى فعل انانية واضحة، اما ان تدعي للذات انجازاً مزعوماً لم يتحقق في الواقع الفعلي، او ان تمارس قتل الذات بأن تدعي تواضعاً مزعوماً وتقول بأنه لم يحدث اي انجاز، ففي الحالتين يكون الحكم غير صحيح. لماذا غير صحيح؟! لأن الذي يتفاعل هو الجمهور العريض الذي لا ندري اين هو، ولا نشعر به ولا نلامسه. هو هذه الغالبية الصامتة. هو هذا التاريخ الذي لم يؤرخ بعد. هو المستقبل الذي لم نستقبله بعد. هو المرسل اليه الذي لم نتراسل معه بشكل واع بعد. هذه الغيبوبات الكبيرة جداً، هي التي نتعامل معها. ولا ندري كيف تستقبل هذا الخطاب. اما فعل "القراءة" يختلط فيه الجانب الاستهلاكي مع الجانب الانتاجي. وفي اللحظة التي يتولى فيها الانسان القراءة، يبدو وكأنه يستهلك النص، الا انه في الواقع يعيد انتاج النص بطرق وآليات لا نعيها ولا ندركها. هناك آليات للاستقبال والتمثل والاحتواء. ولن ندرك "اثر" هذه الآليات الا بعد سنين من الآن. ان النقد الادبي في حقيقته، تفاعل وانفعال ذهني ونشاط حيوي مع اللغة من خلال نص ما، سواء كان ابداعاً "رسمياً"، كما نسميه، أم ابداعاً "يومياً"، وهو الابداع الذي يمارسه الناس، كالمشي واللبس والاكل. وكل هذه نصوص تزاحم النص الابداعي الرسمي كالرواية والشعر والتي تنتمي الى مؤسسات ثقافية لها تكوينها الخاص وشروطها الخاصة. وقراءة النص، ان كان رسمياً او يومياً، تحوّل الناقد الى قارئ او الى مستقبل. اما القارئ العادي للنص، فيتحول الى مبدع. من هنا تنشأ علاقات ما بين المبدع والناقد، ما بين المنتج والمستهلك، ما بين المرسل والمرسل اليه. وهذه العلاقات تدخل في آليات معقدة جداً. لذلك لا اغامر في التعامل مع فكرة التأثر او الانفعال او الدفع او الفعل المباشر مع الحياة، لأنني اشعر بتعقيداتها البالغة. نحن نعيش في مرحلة حضارية متأزمة جداً، ولن يتسنى لنا ان نلامس الامور على مستوى واضح وبسيط بحيث نجزم بالاجابات. اعتقد اننا سنظل نصنع اسئلة وننتج اسئلة، وهذا هو اللب الحقيقي لصناعة الثقافة. اما انتاج الاجوبة فهو مسألة "ايهامية" وخداعة. أسئلة منهجية - د. معجب الزهراني: كمدخل للاجابة عن هذا السؤال، سأطرح من جهتي مجموعة من الاسئلة، آملاً ان تُسهم في ضبط وتوجيه مقاربتي للبنيوية التكوينية تحديداً: ما هي شبكة العوامل التي تجعل اتجاهاً نقدياً او ابداعياً او فلسفياً او ايديولوجياً، ينتقل من فضائه الاصلي الى فضاء آخر مغاير، فيُستقبل باحتفالية ما؟! ما الذي يجري بالضبط بعد عملية الاستقبال هذه؟! اي كيف يتم توظيف جملة المصطلحات والمفاهيم والمقولات التي تشكل "الجهاز النظري" لهذا الاتجاه او ذاك في سياق لغوي ثقافي مختلف؟! وهل تتم هذه العملية بطريقة آلية "محايدة"، او تُجرى بعد عمليات التشويه والاختزال والابتسار، او تتم اخيراً، في سياق التعديل والتطوير والتقييم والتكييف؟! أطرح هذه الاسئلة لأنها تلامس اشكاليات معرفية ابستمولوجية ومنهجية وايديولوجية، لا بد من اثارتها. سواء كنا بصدد الحديث عن النقد او عن الأدب والفكر عموماً. ولعله من البدهي ان نقول ان هذه الاشكاليات هي من الحدة والبروز في الفضاء العربي بحيث لا يمكن تجاهلها من قبل اي خطاب معرفي جاد. اعتقد ان البنيوية التكوينية كما بلورها "لوسيان غولدمان" خصوصاً، كاتجاه نقدي، تقارب النص الادبي من "خارجه"، اذ تنطلق في الاساس من مقولات منبثقة من حقلي الاجتماع والفلسفة ثم تتجه بالنص الابداعي لتبحث فيه عن تجلياتها، وكأنما الامر يتعلق هنا بحقل نصي يتم فيه اختبار "فرضيات" مسبقة. ولعل "محمد بنّيس" من اوائل الذين حاولوا، في الفضاء العربي، استثمار هذا الاتجاه بشكل جدي من جهتها حاولت "يُمنى العيد" ان تستفيد من هذا الاتجاه بطريقة اقل "مدرسية". فلم تكن تعلن انتماء مباشراً اليه. الا ان اغلب دراساتها كانت تحاول كشف وتحليل وتأويل البنى الاساسية في النص الابداعي الرواية والقصيدة وذلك في سياق علاقاته بالشروط والوضعيات الاجتماعية التي انتج واستقبل في اطارها. ولعل اهمية انجاز هذين الناقدين المرموقين هو انهما اكثر وفاء للنص الابداعي من "غولدمان"، مما يشير الى ان توظيفهما لهذا المنهج لم يكن مشروطاً سلفاً بالمقولات والمعتقدات الايديولوجية "الدوغمائية". ومن الضروري، اخيراً، الاشارة الى الجهد الذي بذله الباحث التونسي "محمد رشيد ثابت"، اذ طبق هذا المنهج، وبنفس الروح الابداعية - النقدية، في دراسته الهامة لپ"حديث عيسى بن هشام" لپ"محمد المويلحي" معنيان لپ"السلبية" - د. سعد البازعي: حين دخلت البنيوية حقل الدراسات الادبية الاوروبية، في حوالي الستينيات الميلادية، كان احد اهم مرتكزات مشروعيتها صفة العلمية التي جاءت لتمنح الدراسات الادبية قدراً عالياً من اليقينية في الاستنتاج بعيداً عن فوضى الاذواق والانطباع والاحكام القيمية. من هنا اتخذت البنيوية، سواء الشكلاني منها أم التكويني، موقعاً مضاداً للنقد الادبي التقليدي، بوصف هذا الاخير مرزوءاً بالذوقية والتقييم والانطباع، كما رأى البنيويون. والاشارة الى "سلبية" النقد في النص المقتبس في السؤال تعود في تقديري الى هذه الخلفية السجالية بين اهل البنيوية واهل النقد. وعليها يُفهم ان النقد "سلبي"، بما هو عاجز عن تأسيس مقولاته على مرتكزات "علمية"، وليس سلبياً بمعنى انه يرفض مواجهة الواقع او محاولة تغييره. بل ان البنيويين يرون ان مشكلة النقد هي في غرقِهِ في الواقع وعدم تجاوزه اياه عبر الاطر والانماط الذهنية المجردة. ويجب ان نضيف ان ادعاء البنيويين "ايجابية" العلم قد تقوضت بفعل آراء "ديريرا" و"بول دي مان" و"رولان بارت" في مرحلته الاخيرة. فاذا فهمنا السؤال بالمعنى الاول للسلبية، اي الابتعاد عن يقينية العلم وانضباط ودقة منهجه وادواته، كان الجواب هو ان التجربة النقدية العربية قد سعت في جانب منها الى التأسس العلمي عبر البنيوية وغيرها، متجاوزة بذلك ما يوصف بپ"سلبية" النقد. اما ان كان المقصود هو المدلول الثاني للسلبية، فاعتقد ان التجربة النقدية العربية قد انتجت ما جابه الواقع وحاول التأثير في مجرياته. وان كان من المفيد ذكر امثلة، فيمكن الاشارة في الجانب الاول، البنيوي، الى نتاج نقاد مثل "محمد برّادة" و"خالدة سعيد" و"اعتدال عثمان" و"كمال ابو ديب". اما في الجانب الثاني، النقدي، فهناك "محمود امين العالم" و"رجاء النقاش" و"حسين مروّة" و"طراد الكبيسي"، وغيرهم ممن لا يقلون تميزاً وتأثيراً. ومن هنا، تبدو خارطة النقد العربي اكثر اتساعاً وتعقيداً بتياراتها ومؤلفيها من ان تُختصر في حكم شمولي وسريع بالسلبية او غيرها. مستويات القراءة المتعددة "الوسط": أيمكن القول ان الاتجاهات النقدية الجديدة، اثّرتْ في خلق الاشكال الابداعية الحديثة ام العكس؟! وهل استطاعت هذه الاتجاهات ان تتجاوز صفحات الكتب الاكاديمية ومقاعد طلبة الجامعة الى حياة المبدع او القارئ او كليهما؟! - د. عبدالله الغذامي: في البدء، لا بد ان نميز بين مصطلح "المبدع" ومصطلح "القارئ". سأجاري المصطلح العام المستخدم مجاراة، تعين على الاجابة، والا في الحقيقة يجب الا نفرق بين المبدع والناقد والقارئ، فجميعهم قراء. انني استبعد ان يكون من غاية النقد، او من شرطه، ان يكون مؤثراً على المبدع. الابداع صفة يشترك فيها كل البشر، وهي صفة غير مشروطة. الابداع ضد الشرط. انه تجاوز واختراق له. ولو افترضنا ان النقد يؤثر في المبدع، فهذا معناه اننا اخضعنا الابداع للشرط، للشيء الذي يقف ضده ويتجاوزه. إن الفعل النقدي والفعل الابداعي، فعلان قرائيان. فاذا اسهم، ان اسهم، النقد فهو يسهم بصناعة القراءة. بفتح باب، لما يسمى نقدياً بنظرية القراءة. ولكي يتسع هذا الباب، يجب اعادة تعريف اشيائنا مرة أخرى، ونقول ان كل ما نفعله في حياتنا هو قراءة، بدءاً من تعليم اطفالنا لكي يقرأوا العالم من حولهم، الى قراءة العالم لنا. ابتداء من الخطى الصغيرة انتهاء الى كل ممارساتنا التي تنتهي بالموت. وهنا أستشهد بمقولة الشاعر السعودي حمزة شحاته "لا يعطي تفسيراً تاماً للحياة الا الموت". الموت هو القراءة الامثل للحياة. من الممكن ان تكون الحياة قراءة للموت. كل شيء قراءة لكل شيء. النقد الحديث يحاول ان يدربنا على الايمان بأن كل ما نفعله لا يتعدى فعل القراءة. وتبدأ القراءة بالفهم كمستوى اول، ثم بالتفسير كمستوى ثان، ثم بقراءة القراءة. اي ان يقرأ الانسان نفسه. والانسان عندما يكتب، فهو في الواقع يقرأ نفسه. فيتحول المقروء الى نص مكتوب. ويتحول هذا النص بين يدي القارئ الى نص مكتوب. والقارئ حينما يقرأ نصاً، فهو يكتبه في ذاكرته بطريقة مختلفة، فهو يعيد تفسيره وانتاجه. من خلال تداخل المبدع والناقد والقارئ في فعل القراءة، لم تعد للمؤلف سلطة على نصه. من يملك السلطة هو القارئ، الذي هو المبدع نفسه الذي يتحول الى قارئ لنصه بعد انتاج النص. والمبدع قبل ان ينتج النص كان قارئاً، وهذا الذي ادى به الى ابداع النص. فالمبدع ناتج للقارئ، والابداع نتيجة للقراءة كما انه اساس لقراءة اخرى ستتلو هذه القراءة. من هنا اركز على فكرة اختفاء ذلك المبدع القديم الذي يقول "انام ملء جفوني عن شواردها". فهو لا يستطيع الآن ان ينام. انه يسهر مثلما يسهر الآخرون. لقد انتهت ظاهرة ذلك المبدع الذي يعرف كل شيء وذلك القارئ الذي لا يعرف اي شيء، والذي ينتظر من المبدع ان يقول له ما يشاء. اما عن سؤالك حول تأثير اتجاهات النقد الجديدة على المبدع او القارئ، فأستطيع القول ان تأثيرها يكمن في جعلنا نعي ان مصطلحاتنا القديمة لم تكن معبرة تعبيراً صحيحاً عما يجري. ان التعبير الصحيح هو ان نسائل مصطلحاتنا ومواقفنا مع ذواتنا ومع العالم من حولنا، وأن ندرك في الوقت ذاته ان هذه العلائق تكمن في النص. ان للاتجاهات النقدية الحديثة دوراً في حث مفهوم "القراءة". ومن خلاله نؤصل هذا الفعل الذهني والحضاري الذي يجعل كل قارئ ناقداً، وكل ناقد مبدعاً، وكل مبدع ناقداً. بالتالي فهي "قراءة" فاعلة ومنتجة، بدلاً من القراءة القديمة التي هي قراءة مستهلكة. والنص الابداعي الجديد يتيح مجالاً واسعاً لهذا المفهوم، لأنه يقوم على مساحة من الفراغ والغياب والبياض يستطيع القارئ ان يتحرك داخلها. ان النقص الذي يمتاز به النص الحديث هو الذي يجعله اقرب الى الفعل. بينما الاكتمال والاكتناز في النص القديم جعله مغلقاً. صار النص الجديد مفتوحاً. ومن هنا صار مضماراً لحرية القارئ ولحركة التفكير ولاعادة الانتاج. الفن يموت ايضاً - د. معجب الزهراني: اعتقد ان الناقد الحديث لم يعد مبشراً بالعمل الابداعي ولا وسيطاً بينه وبين المتلقي، لسبب بسيط وجوهري، وهو ان قراءته النقدية مسكونة بهواجس تخصّها ولا تكاد تتجاوزها الى غيرها الا في اضيق الحدود. فالناقد الذي "يمتهن" العمل النقدي الاكاديمي، هو في الاساس باحث متخصص يتلبس رداء "العلمية". وينزع في خطابه الى منطق المنهجية المعرفية الصارمة، لأنه يتجه بهذا الخطاب الى النقاد الآخرين من امثاله، اي الى هذه الفئة الاجتماعية التي تشتغل معه في نفس الحقل، وتواجه معه نفس الاشكاليات. ويعنيها بالتالي ان تحاول تطوير لغتها الخاصة، وهي لغة مصطلحات ومفاهيم اساساً، لحل او تطوير او تعميق هذه الاشكالية او تلك. ولو اخذنا، على سبيل المثال فحسب، كتابات "محمد مفتاح" او "محمد الماكري" او "سعد مصلوح"، لوجدنا ان التواصل مع الخطاب النقدي الذي تتضمنه، يكاد يكون صعباً حتى بالنسبة لهذا الجمع الحاشد من النقاد الاكاديميين "التقليديين" الذين يملأون الجامعات العربية ويمنحون شهادات الماجستير في النقد، فما بالك بالقارئ العادي!! من هنا اكاد اجزم بأن القارئ الذي يقرأ "الغذامي" ليتخذ من خطابه وسيطاً بينه وبين النص الابداعي لن يخرج بطائل. كما ان المبدع الذي يقرأه لپ"يستفيد" منه في سياق تطوير تجربته او تعميق او توسيع رؤيته الابداعية، ربما يُصاب باحباط اكبر، ذلك لأنه قد لا يفهم الكثير مما يقرأ هذا ما صرح به شاعر كبير مثل غازي القصيبي في اكثر من مناسبة. ولكي لا يفهم من كلامي هذا، انني ادعو الى عزلة النقد في "برجه العلمي" العالي، اشير الى انني هنا لا افعل سوى "رصد" ظاهرة موجودة، بغض النظر عن مواقفنا منها. بل اكاد ان اقول ان سيرورة العزلة اياها لحقت بالانجاز الابداعي ذاته. ولكي اخصص وأوضح اكثر، اقول ان قصائد "مالارمية" و"رامبو" و"اليوت" و"محمد بنيس" و"ادونيس" وغيرهم لم تعد تطمح في، او تطمح الى "الوصول" الى مختلف فئات القراء. وانما تكاد تتجه سلفاً الى قارئ محدد، هو ذلك القارئ "المتواطئ معها" فحسب. فالشعر الحديث، مثله مثل غيره من الفنون الحديثة، لم يعد لساناً لكل الاحوال. وقد قطع، بقصدية ووعي، الكثير من العلاقات التي كانت تربطه بالنص القليدي الشفهي الذي كان مؤهلاً اكثر من غيره للتعبير عن مشاعر ورؤى وطموحات واحلام "القبيلة" كلها، وقد يكون في هذه السيرورة بعض ما يدعم مقولة "هيجل" الشهيرة حول الموت كمصير ينتظر الفن في نهاية الطريق. خارج هذا السياق، لا يخفى على احد ان هناك نقاداً "يمتهنون" العمل الصحافي او الثقافي العام، وتقع عليهم بالتالي مسؤولية تقديم العمل الابداعي الى اكبر فئة ممكنة من القراء. وهنا لا بد ان تتراجع لغة التخصص لصالح لغة ايصالية، اي ذات وظيفة ابلاغية بيانية اساساً، يكون هدفها "التنويه" بهذا العمل او بذاك المبدع ومحاولة كشف ابرز السمات الجمالية والدلالية في القصيدة او في القصة او في الرواية او اللوحة التشكيلية ولكي لا يُساء فهمي هنا، أشير الى انني شخصياً امارس هذا النوع من النقد في مقالاتي الصحافية لاقتناعي العميق بأهمية هذا السياق. كما ان هناك بعض النقاد الذين يمارسون النقد بهدف ادماج خطابهم الخاص مع خطاب النص الابداعي في السياق "الايديولوجي" الذي يؤمنون ويبشرون به، وهذا النموذج موجود في الفضاء العربي كما في الغرب وله مشروعيته في هذا السياق تحديداً، لكنه يظل اقرب الى الايديولوجيا منه الى اي شيء آخر. وهناك اخيراً، ادباء - نقاد يمارسون النقد التنظيري بهدف نشر وتكريس وجهات نظرهم في العملية الابداعية ذاتها. وعلى رغم اهمية هذا النموذج، الا انه لا يتجاوز، بالنسبة للناقد المتخصص، الاهمية المرتبطة بالقيمة "التوثيقية" لهذا الخطاب الذي يشكل امتداداً للخطاب الادبي - الابداعي ذاته، ولعل ابرز من مارسه ويمارسه "ادونيس"، كما هو معروف. - د. سعد البازعي: لا شك في ان الاتجاهات النقدية تؤثر في الاشكال الابداعية، مثلما ان العكس صحيح. وليس ذلك التأثير مقتصراً على الجديد، انما هو شامل لمختلف عصور الادب والنقد، لأن للعملية الابداعية نفسها بعدها النقدي، كما في قولنا ان الاديب اول نقاد عمله. فالاديب او الكاتب، شاعراً كان ام قاصاً، ام غير ذلك، يستوعب بالضرورة جملة من المفاهيم والقيم النقدية السائدة في عصره وفي الموروث. ومن الطبيعي في اطار هذا الاستيعاب ان تتشكل الكتابة الابداعية تلقائياً على اسس نقدية. واذا كان المشتغلون بالنقد هم الاكثر فاعلية في صياغة المفاهيم والقيم النقدية، فان من الممكن القول بأن ما يتبنونه من اتجاهات يسهم بشكل واع او لا واع في صياغة الاشكال الابداعية، اي ان للاتجاهات النقدية تأثيراً حتمياً. لكن هذا الكلام يظل نظرياً، تنقصه الدراسة التطبيقية التي تقابل بين المقولات النقدية ومستجدات الادب. ويبدو ان هذا النقص ليس محصوراً في الدراسات النقدية العربية، وانما يطول ما يقابلها في الولاياتالمتحدةوبريطانيا، وان بدرجة اقل ربما. فمن الدراسات القليلة في هذا الباب، كتاب ظهر العام الماضي في بريطانيا بعنوان "الشعر المعاصر يلاقي النظرية المعاصرة" لمجموعة من الدارسين. ويتضح من بعض دراسات الكتاب، مقدار التواشج بين "تقويضية" "ديريرا" مثلاً وشعر الاميركي جون آشبري و"التقويضية" هي العبارة الاصح في تقديري لترجمة مصطلح "ديكونستركشن" في اعمال ديريرا وغيره. اما في ما يتعلق بالجزء الثاني من السؤال، فأخشى انه مبني على تفاؤل شديد بأن الاتجاهات النقدية قد وصلت الكتب الاكاديمية نفسها. فان كان شيء من هذا قد حدث في جامعات المملكة، ففي نطاق ضيق جداً، ولربما صدق هذا على كثير من الجامعات العربية. ذلك ان الدراسات النقدية في مجملها لا تزال واقعة تحت تأثير قناعات وآراء لم يعد اكثرها ملائماً او صالحاً للاستمرار. واذا كان هذا حال كثير من المؤسسات الجامعية، فكيف حال ما دونها من مراحل التعليم، واخشى ان نكون بحاجة الى عقدين او ثلاثة قبل ان يدرك طلاب الثانوية ان الدراسات النقدية مرت بشيء اسمه "البنيوية"، او ان الانواع الادبية دخلت مرحلة عنوانها "الحداثة". اما القارئ العادي، فلعله افضل حالاً، اذ انه منفك من اسر بعض المناهج العتيقة والضيقة الافق. لكن الوضع عموماً لا يبعث على الكثير من الارتياح. الحضارة اتصال لا انفصال "الوسط": يوضح محمود امين العالم في كتابه "مفاهيم وقضايا اشكالية"، وتحت عنوان "الجذور المعرفية والفلسفية للنقد الادبي العربي الحديث والمعاصر"، ان: "مختلف الاتجاهات في نقدنا العربي الحديث والمعاصر - عامة" - هي اصداء لتيارات نقدية اوروبية، وبالتالي فهي اصداء كذلك، لما وراء هذه التيارات من مفاهيم ابستمولوجية وايديولوجيات". لماذا فشلت المدارس النقدية العربية ان تخلع معطف النظريات الوافدة؟! أليس بالامكان صياغة نظرية ذات لكنة عربية، تعي مفردات الذهنية للفرد العربي وتتحاور معه من خلال خصوصية هذه الذهنية؟! وهل المسافة بين التنظير والتطبيق هي السكين التي تجرح عنق الناقد العربي؟! - د. عبدالله الغذامي: انا لا انساق وراء ما يطرحه محمود امين العالم، لسبب رئيسي، وهو ان هذا الطرح يفترض وجود ما يسمى بالعالم العربي منفصلاً عن بقية العالم. لن اقول ان هذا الطرح غير صحيح، لانني بذلك، سأدخل في الاحكام "القيمية"، التي هي ايضاً غير صحيحة، لكني اقول ان ظروف هذا الطرح غير متوفرة. الفكر الانساني شجرة تنمو، ولا يمكن فصل بعض فروعها عن البعض الآخر، والا ستنهار. هذا الفكر لا ينتمي الى بقعة تاريخية او جغرافية. انه فوق وكل هذه الحدود، ولذلك عندما تقرأ "الجاحظ"، تجد "ارسطو" في كتاباته. وحين تقرأ عصر النهضة الاوروبي، تجد العرب في داخل هذا العصر. وهنا اشير الى رواية "اسم الوردة" ل "امبرتو ايكو"، حيث يكتب عن فترة تاريخية اوروبية، الا انك تكتشف ان العرب موجودون في هذه الفترة. المؤدلجون قومياً وعنصرياً، هم فقط الذين يعتقدون بامكانية التمييز عرقياً في الفكر. وهذا في نظري غير ممكن على الاطلاق. فالفكر يمتلك القدرة على الترحل والانتقال، كما يفعل البدوي حين يترحل من مكان الى مكان بحثاً عن المرعى. البدوي لا ينتمي الى التربة بوصفها بقعة جغرافية. انه ينتمي الى الماء، الى المرعى، الى الكلأ، الى الحياة. الفكر لا ينتمي الى الارض بوصفها بقعة جغرافية، ولا ينتمي الى الزمن بوصفه حقبة تاريخية. انه ينتمي الى الحياة، او الى المرعى، مستجيباً للعقل الذي يستدعيه، فاراً من العقل الذي لا يستدعيه. انا لا اجد غضاضة في التعامل مع اي شخصية مهما كان تاريخ ميلادها او هويتها الجغرافية او السياسية. ما يهمني هو الفكر وليس الشخص. وسواء استعان "العقاد" بالرومانسية الاوروبية، الالمانية بالتحديد عن طريق الانكليز، او لم يستعن بها، ستأتي الى العقاد بشخصه او بشخص آخر غير "العقاد"، لان المرحلة الزمنية كانت تستجلب هذا الفكر، كما كانت المرحلة الحضارية في عمرنا الحضاري في تلك الفترة تستدعي هذا الاستجلاب. وهناك مقولة تؤكد ان الامم تترجم الكتب التي كانت بصدد ان تؤلفها. فأنت تترجم العمل الذي كان في نيتك المبيتة ان تؤلفه. وكذلك الامر بالنسبة للافكار، فهي لا تنتقل من امة الى امة الا اذا كانت هناك حاجة الى انتاج هذه الافكار. تماماً مثل نقل الاعضاء في الجسم البشري، فاذا لم تتطابق انسجة العضو المنقول مع انسجة الجسم المستقبل، فان الجسم سيرفضه. واذا اجبرنا الجسم على قبول هذا العضو الاجنبي، فسيحصل انهيار لنظام الحياة في هذا الجسم. الثقافة "جسد"، ولا يمكن ان ينتقل اليها عناصر، الا اذا كانت هذه العناصر تستجيب لمكونات وخلايا نسيج هذا الجسد الفكري والثقافي. ان العالم اليوم يتجه، رغماً عنه، ليكون عالماً واحداً. فالانفجار الاعلامي جعل المأساة الانسانية واحدة، لان الناس في كل انحاء العالم يستقبلون المأساة في لحظة واحدة، بمعنى ان الاعلام يوحدنا كلنا امام هذا الحدث، ويوحد احاسيسنا وانفعالاتنا، لنتحول الى قراء لهذا الحدث. نختلف بعد ذلك، ليس اختلافاً عرقياً او قومياً، لكنه اختلاف على المستوى الفردي. فكل فرد يستجيب للفكر الذي يستدعيه. فنملك داخل الشريحة الاجتماعية الواحدة مجموعة من الذهنيات. لكن الفكر يستطيع ان يستقل عن مصدره الذي نشأ فيه، عن بقعته الجغرافية، وعن حقبته التاريخية، وان يترحل مثل البدوي من ارض الى ارض بحثاً عن المرعى. ومرعى الفكر هو الحياة. ومن هنا، نستطيع ان نتفاعل مع اي فكرة وندخلها في انظمتنا الخاصة. لا نعربها فحسب، بل نشخصها، لتتحول الى النسيج المعرفي الذاتي. بحيث اذا قرأت عن التشريحية عند "عربي"، فهي بالضرورة تشريحية "عربي" اكثر من كونها تشريحية "جاك ديريرا" حتى وان كان مصدرها هو "ديريرا". كذلك نجد "نجيب محفوظ" في فعل الاسلوب السردي للرواية يتشابه مع "بلزاك" و"ديكنز"، لكننا في النهاية امام مبدع اسمه "نجيب محفوظ"، لا "بلزاك"، ولا "ديكنز". من هذا المنطلق اختلف مع محمود امين العالم. ولا ادعي ان احدنا يمتلك المنطلق الصحيح والآخر يمتلك المنطلق الخاطئ، فهذه كما اشرت احكام قيمية لا يمكن الجزم بصدقيتها. لكن لكل واحد منا منظاره الذي يتحرك من خلاله. اما مسألة المسافة بين النظرية والتطبيق، فان اي منظر يعي تماماً بانه لا يمكن لأي نظرية ان تنشأ الا من خلال تفاعلها المباشر مع ادواتها التطبيقية. فاذا لم تمتلك النظرية منهجاً، فستكون مجرد فرضية لا يمكنها ان تصادم وتجابه وتتداخل مع الفعل الثقافي. من جهة اخرى، لا يمكن لأي نظرية ان تمنح هذا الاسم، الا اذا كانت قد انبثقت اصلاً من ممارسات في التطبيق، سواء كان هذا التطبيق على نص واحد كمثال او نموذج لنصوص اخرى مشابهة، او كان مبنياً على ابداع المنظر نفسه. لان المنظر وهو ينظّر، يبدع نصوصه التي تتفاعل مع نظريته ايجاباً وسلباً. فالفكر الفلسفي او الفكر النظري يقتفي في مرحلته التجريدية امثلة ذهنية، ثم يتحول الى مرحلته الفاعلة، عندما يتصادم مع فعل القراءة. فأنا اركز على نظرية القراءة لانها هي القادرة على تحقيق مستوى الفهم الاولي، ثم مستويات التفسير. اما بالنسبة لعباس محمود العقاد، فالذي فشل ليس فكره او نظريته، والدليل دراسته المنهجية الرائعة عن "ابن الرومي"، انما "فكر العقاد" امام "شعر العقاد". اذن فالفشل كان محدوداً. لقد تفاعل فكر "العقاد" مع الثقافة العربية ورموزها ومبدعيها، وكان له دور ايجابي في تحريكها وتفعيلها، في حين لم يستطع بشعره ان يصل الى المرحلة التطبيقية في نظريته، وهذا راجع الى فشل شاعريته وليس نظريته. واذا نظرنا الى جيل الرومانسيين مثل "علي محمود طه"، "ابراهيم ناجي"، "محمود الهمشري"، "ابو القاسم الشابي"، وبدايات تيار الشعر الحر عند "نازك الملائكة" و"بدر شاكر السياب" الذين كانوا رومانسيين... كل هؤلاء انتاج للفكر "الوجداني" ومفهوم الوجدانية في الشعر، وكان للعقاد دور كبير في اشاعة واستثارة هذا "الوعي الوجداني". التواصل مع الموروث - د. معجب الزهراني: يظهر لي ان الفشل هنا لا يتعلق بعملية "الخلع"، وانما يرتبط اصلا بعملية "ارتداء" ذلك المعطف بصورة مقلوبة، او من دون فحص جيد لأبعاده ومقاساته، لنرى ان كان ملائماً لأجسادنا ام لا. وبصيغة اقل مجازية واكثر وضوحا، اقول ان الخلل يكمن، في اعتقادي، في تلك العملية الاولية التي اسميها مرحلة التواصل والاستيعاب والتمثل العميق للنظريات النقدية الحديثة ولا اسميها الوافدة، لأن هذه الكلمة تكاد تفقد اي مدلول في هذا السياق. وكثيراً ما اشرت، مع غيري، الى ان الشروط الاساسية لأي انجاز نقدي "عربي" اصيل هي: اولاً، ضرورة التواصل العميق مع الانجاز النقدي العربي "الموروث" لا بهدف القول باننا سبقنا الغرب في هذا المضمار لأن "الجرجاني" اكتشف الالسنية - عبر النظم - قبل "سوسير"، او ان "الجاحظ" سبق الشكلانيين والسيميائيين المحدثين لانه لم يهتم بالمعاني وتحدث طويلاً عن انماط العلاقات المولدة للدلالات او للعملية "البيانية". بالعكس من ذلك تماماً، فوظيفة التواصل هنا تنحصر في انها تساعد الناقد على احداث القطيعة المعرفية مع هذا الموروث. وبعيداً عن النزعة العاطفية او الايديولوجية، لكي "نعرف" بالضبط، ما الذي يمكن استثماره معرفياً من مفاهيم ومصطلحات ومقولات الاقدمين، وما الذي مات بموتهم، ويجب بالتالي التحرر من سطوته علينا اليوم، باعتبار الاسلاف "رجالاً ونحن رجال". وهنا فان "معنى المعنى" و"النظم" و"التخييل" وانواع "الادلة" البيانية والسيميائية وغيرها من المقولات والمفاهيم، يمكن ان تفيدنا الآن وهنا، سواء في سياق "تعريب" الخطاب النقدي الحديث او في سياق نقد وتعديل وتكييف هذا الخطاب ليتلاءم مع النسق اللغوي التاريخي والثقافي والحضاري الذي تنتمي اليه. هذه العملية لا يمكن ان تتم الا بتحقق شرط ثان هو التواصل مع الانجاز النقدي الحديث، لا باعتباره معرفة علمية ناجزة، وانما بصفته خطاباً يخضع مثل غيره لسيرورات تحول وتفكك وتجاوز. ولا يكاد يستقر حال، حتى ينبثق عنه ومن داخله ما يفضي به الى حال اخرى. وهنا تكمن ضرورة التعامل معه، لا من منطلق التبشير به والدفاع عنه وتبريره، وانما من منطلق حواري نقدي بالدرجة الاولى. لان لمثل هذه الرؤية امكانية مساعدتنا على تحديد علاقاته بالمرجعيات الفكرية والفلسفية والايديولوجية التي يستند اليها، والعمل بالتالي على تحرير مقولاته ومفاهيمه ومصطلحاته من حمولاتها التي قد لا تتلاءم مع وضعياتنا الخاصة. فاذا كانت عملية "انحياز المنهج" مسلّمة او بديهة لا يحسن الجدل حولها طويلاً، فان الموقف الايجابي الاسلم من هذا النهج او ذاك ليس رفضه وهجاءه واغلاق الابواب من دونه، وانما تمثله ونقده وتعديله وتكييفه وتتميمه، اي تفكيكه واعادة تركيبه وانتاجه معرفياً، ليكون اكثر انجازية من جهة واكثر ملاءمة للحقل النصي الذي يشتغل فيه الناقد العربي. اما الشرط الثالث، فهو اعم واشمل من الشرطين السابقين، ويتعلق تحديداً بضرورة ان نعي جيداً ان الباحث العربي او المسلم، مضطر ومدفوع بقوة الاشياء والتاريخ الى التعامل مع المعرفة الحديثة، النقدية وغيرها، لا باعتبارها "غربية" او "اجنبية" او "وافدة"، وانما باعتبارها ملكاً مشاعاً، ساهمت الحضارات البشرية "كلها" في انجازه، ولها بالتالي الحق في استثمار مختلف فروع هذه المعرفة بما يخدم ويحقق طموحاتها واهدافها الوطنية والقومية والحضارية. أبعد من النقد - د. سعد البازعي: ينصبّ هذا السؤال في بؤرة الازمة الحضارية الكبرى التي يعيشها عالمنا العربي، والتي لا تنحصر كما هو معروف في اطار النقد الادبي. فغياب التوجهات النقدية المنبعثة من خصوصيتنا الثقافية هو ايضاً غياب توجهات كثيرة مماثلة في مختلف العلوم التطبيقية والانسانية. ويبود لي ان المشكلة ليست في مجرد التهالك على موائد الفكر النقدي الغربي، وانما هي في تبرير هذا التهالك ومنحه المشروعية الثقافية تحت شعارات مثل: وحدة العلم، أو وحدة الانسانية، او انها بضاعتنا ردت الينا، وما الى ذلك من مقولات شعارية غير ممحّصة فكرياً او علمياً. واذا كان من المؤكد والطبيعي ان الحضارات تتداخل وتشترك في كثير من اسسها، فان من المؤكد ايضاً، ان ثمة سياقات تتفرد بها حضارة او ثقافة عن اخرى. والافكار والنظريات حين تنتقل من محيط ثقافي الى اخر، فإنها لا تمر بطريق معبدة، كما يقول "إدوارد سعيد" في مقال له بعنوان "إنتقال النظرية" ضمن كتابه "العالم النص الكتاب"، لكنها تمر بعمليات تمثيل وتأسيس تتخلق فيها الفكرة او النظرية من جديد. بيد ان هذا يجب ان ينبهنا الى ناحية مهمة تغيب عادة عند الحديث عن الحاجة الى ما يوصف بنظريات عربية في النقد وغيره. فتخلق النظريات والافكار من جديد لا يعني الانقطاع التام عن الاصول وبالتالي الجدة المطلقة، فهذه مستحيلة. وانما الحديث هو عن اعادة تكييف الاسس النظرية والتقنيات المبثوثة هنا وهناك كإرث انساني مشترك لتكون اكثر ملاءمة لشخصية الثقافة. فلو ابتدعنا في العالم العربي نظريات نقدية، لن نخرج في ما ابتدعناه عن بعض القواعد الاساسية التي حكمت توجهات النقد منذ القدم. والنظريات الرائجة في الغرب، ليست سوى تنويع على هذه القواعد، التي لا تخرج عن قطبين رئيسين يمكن تمييزهما على ما بينهما من اشتباك، وهما قطبا الشكل والمضمون، لكن التنويع المشار اليه هو بيت القصيد، لانه محك الاختلاف الحضاري وميزان التميز. فإذا خرجنا بنظرية جديدة، ستكون شكلانية او اجتماعية او نفسية مثلاً، لكن على الطريقة العربية، تماماً مثلما ان شكلانية "بارت" او "فراي" تعبر عن الظروف الحضارية والتاريخية والسمات الفردية التي عاشاها. من هنا، يتضح ان الشخصية العربية للنقد الذي نتطلع اليه، لن تكون استنساخية في موقفها نحو الغرب، اي لن تكون تتلمذية مبهرة امام الاخر، وانما مستشعرة لخصوصيتها، ساعية اليها. ولسنا في واقع الامر بعيدين جداً من هذه المرحلة من التأصيل، بل نحن قريبون منها بفعل الاجتهادات الكبيرة التي يقدمها نقاد مثل "شكري عياد"، الذي نشر أخيراً عدداً من الدراسات اخرها كتابه "اللغة والابداع" في مسعى متواصل لصناعة نقد عربي متميز. ولا شك ان هذه الجهود تتضافر مع ما يسعى اليه مفكرون تأصيليون من امثال "عبدالوهاب المسيري" و"حسن حنفي". عبدالله محمد الغذّامي: - من مواليد مدينة عنيزة - السعودية 1946م. - حصل على الدكتوراه في الادب والنقد من جامعة "إكستر" البريطانية - 1978م. - استاذ النقد والأدب الحديث في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة من 1978م الى 1989م. - يعمل حالياً استاذاً للنقد ونظرية الادب في كلية الآداب - جامعة الملك سعود في مدينة الرياض. - منح جائزة مكتب التربية العربي لدول الخليج في العلوم الانسانية لعام 1985م، عن كتابه "الخطيئة والتكفير". - من أعماله: * "الخطيئة والتكفير": من البنيوية الى التشريحية دراسات: جدة: النادي الادبي 1985م. * "الصوت القديم الجديد" دراسات: القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987م. * "الموقف من الحداثة ومسائل اخرى" دراسات 1987م. * "تشريح النص: مقاربات تشريحية لنصوص شعرية معاصرة": بيروت: دار الطليعة 1987م. * "الكتابة ضد الكتابة": بيروت: دار الآداب 1991م. * "ثقافة الاسئلة": جدة: النادي الادبي 1991م. معجب سعيد الزهراني: - من مواليد الباحة، جنوب غرب السعودية، 1954م. - حاصل على الدكتوراه في الأدب المقارن صورة الغرب في الرواية العربية، جامعة السوربون، فرنسا 1989م. - استاذ الادب المقارن والنقد الادبي الحديث وعلم الجمال، قسم اللغة العربية، جامعة الملك سعود في الرياض. - له العديد من الدراسات، خصوصاً، حول "اشكالية الآخر كما يطرحها الخطاب الادبي"، ويعد حالياً لاصدارها في مجموعة من الكتب. - شارك في مؤتمرات ثقافية داخل المملكة وخارجها. سعد البازعي: - حاصل على الدكتوراه من جامعة "بردو" الاميركية 1983م. - استاذ مشارك للادب الانكليزي والاميركي في جامعة الملك سعود في الرياض. - نشر دراسات في عدد من الدوريات الجامعية. كما نشر مقالات نقدية في صحف ومجلات سعودية وعربية. - صدر له كتاب "ثقافة الصحراء: دراسات في ادب الجزيرة العربية المعاصر"، الرياض 1991م.