فجأة، ومن دون سابق انذار، أعلنت جين فوندا انها قررت اعتزال التمثيل، وانها ستسعى من الآن وصاعدا كي لا تظهر على الشاشة. ليست هذه المرة الاولى التي تعلن فيها ابنة هنري فوندا اعتزالها التمثيل، فهو اعتزال اعلنته غير مرة من قبل، لكنها كانت دائما تتراجع عن قرارها، بمجرد ان يعرض عليها سيناريو يبهرها ودور تحس انها من خلاله سوف تستعيد مجدها. ولكن هذه المرة، يبدو ان المسألة اكثر جدية مما في اي وقت مضى. فما الذي جعل هذه "الصبية"، التي شارفت على الخامسة والخمسين من عمرها ولا تزال تبدو كأنها خارجة لتوها من المراهقة؟ ما الذي جعلها تتخذ قرارا جديا ومصيريا من هذا النوع، وتعلنه على الملأ، وكأن هذا الاعلان عهد لا رجوع عنه؟ أسباب عديدة تدفع جين فوندا الى الانسحاب من عالم الشاشة. اسباب بعضها لا تتوانى الفنانة عن اعلانه او التلميح اليه، ولكن بعضها قد لا تجد في نفسها الجرأة على الدنو منه. من الاسباب الاولى، زواجها من تيد تيرنر، سيد محطة "سي.ان.ان." الشهيرة وأحد كبار رجال الاعلام في عالم اليوم، واصرار تيد على أن تكون جين له وحده… ومن هذه الاسباب رغبة الفنانة في تكريس القسم الاكبر من وقتها لادارة وتشغيل ملايين الدولارات التي ربحتها خلال العقدين السابقين من السنين، بفضل افلامها جزئيا، وخصوصاً بفضل حقوقها عن الكتب العديدة وأشرطة الفيديو الكثيرة التي خصصتها لرشاقة سيدات أميركا، فأحدثت بها ثورة مدهشة… اما من الاسباب غير المعلنة فيقف في المقام الأول سبب وجيه، وهو ان الزمن السينمائي الراهن في هوليوود وغيرها، لم يعد فيه مكان كبير لممثلة من طراز جين فوندا، بدأت تجاعيد وجهها تظهر في اللقطات المكبرة، وبدأ اداؤها يبدو تقليديا الى حد بعيد، في وقت تسيطر فيه صبايا من طراز ميشال بفيفر وميريل ستريب وشارون ستون وجينا دايفيس وجوليا روبرتس، وخاصة كيم باسنجر، عبر اداء ليس تقليدياً بأي حال من الاحوال. ولقد كان السقوط التجاري المريع الذي اسفر عنه فيلمها الاخير في العام 1990، نقطة الانعطاف في حياة ومسيرة هذه التي كانت - على اي حال - من الممثلات النادرات اللواتي فزن بالاوسكار مرتين ايام العز التي تبدو بعيدة اليوم. وجين فوندا تستعيد احساسها بالفشل الذي طالما واتاها في لحظات العنف والتأزم… في وقت تجابه العالم كسيدة مجتمع وكزوجة لواحد من اصحاب السلطان في عالم اليوم. رجل الى الأبد حكاية تيد تيرنر مع جين فوندا كانت بدأت قبل عامين ونصف، يوم بدأ سيد التلفزة الاخبارية يخرج مع بطلة "العودة الى الوطن" ليليا، وكانا يبدوان في عز تألقهما معا، رغم ان كلا منهما كان تجاوز سن الشباب وحكايات الغرام الوردية منذ سنوات عديدة. ذات ليلة وبعد سهرة ناجحة مع عدد من الاصدقاء، بدأ حديث الزواج يجري على لسانيهما، ويبدو ان جين كانت هي المبادرة، قبل ان يلتفت اليها تيد قائلا بجدية: "… ولكن يجب ان تعلمي يا عزيزتي، منذ الآن، انني رجل، شديد الحماس للرجال، حتى حدود العنصرية…" فأجابته جين دون طول تفكير: "وهذا ما أريده انا بالضبط". استمرت علاقتهما لتصل الى الزواج بعد شهور، زواج كان حديث المجتمع الفني في طول هوليوود وعرضها. ان مثل هذا الحديث ما كان من شأنه ان يلفت النظر كثيرا… لكنه يعود ويرتدي كل غرابته وطرافته حين يكون اسم العروس جين فوندا، التي عرفت ذات يوم بنضالاتها السياسية، وخاصة بنضالها الشرس في سبيل كل ما له علاقة بتحرير المرأة… يومئذ كان ذلك الانقلاب الجديد في حياة جين فوندا مجرد انقلاب عادي من تلك الانقلابات التي كثيرا ما عرفتها حياة جين فوندا ومسيرتها السينمائية: انقلابات تنتقل عبرها من النقيض الى النقيض، دون ان يبدو على السيدة انها شديدة الاهتمام اذا هي ازعجت الآخرين. ففي ذات يوم وقفت جين مناضلة من اجل حرية الفيتناميين، لكنها هي نفسها عادت وشجعت جنود اسرائيل حين غزوا لبنان في العام 1982. وجين فوندا، يوم تزوجت السياسي اليساري الاميركي توم هايدن، وقفت الى جانب كافة قضايا اليسار في الولاياتالمتحدة، ثم لم تتوان عن تأييد رونالد ريغان والانخراط في خط اليمين الاميركي المحافظ، مما أوصلها - بالطبع - الى الاقتران بپ…تيد تيرنر. وجين فوندا التي بدأت حياتها المهنية متمردة على انتمائها العائلي، ولا سيما على ابيها الفنان هنري فوندا، كما فعل اخوها الممثل والمخرج بيتر فوندا، قدمت لأبيها قبل ان يموت واحدا من اجمل ادواره في فيلم "منزل قرب البحيرة" 1981، الذي انتجته بنفسها ومثلته الى جانبه، في تآلف عائلي مدهش! من النقيض الى النقيض على الدوام، اذن، كانت حياة جين فوندا كتلة من التناقضات المتتالية وتحولا من النقيض الى النقيض. فهل نقول ان هذا هو ما جعل لها خصوصيتها، التي اتبعتها حتى النهاية محبوبة ومحترمة من نمط معين من محبي الفن السابع، رغم كل تلك السنوات التافهة التي تركت فيها السينما جانبا، لتنخرط في نشاط يعلم النساء كيف يخففن من وزنهن عبر تمارين رياضية ارتبطت باسمها؟ ربما… المهم ان جين فوندا تقترب اليوم من عامها الخامس والخمسين، وتحافظ على جزء كبير من جمالها القديم ولا تزال تحمل تألقها. قبل اعتزالها، على اي حال، كان كثيرون من النقاد يقولون عن جين فوندا، "ان مهنتها السينمائية صارت وراءها". ولكن في الوقت نفسه كان ثمة من يقول ان بامكانها، بعد ان تعطي الكثير. ويبدو اليوم ان جين قد حسمت هذا الجدل باعلانها الاعتزال، خصوصاً ان ما قامت به من ادوار خلال السنوات العشر الاخيرة كان يؤكد على الرأي الاول، اذ ان الفشل كان من نصيب معظم افلامها الاخيرة، ولا سيما فيلم "الغرينغو العجوز" 1986، وان المخرجين الجدد لم يعودوا يبدون كبير حماس للعمل معها: البعض لأنه يرى انها صارت بالفعل جزءاً من الماضي، والبعض لأنه يرى ان العمل معها صعب، فمزاجها يتبدل باستمرار، وآراؤها تتناقض بسرعة عجيبة. اما هي فكانت، حتى من قبل اعلانها الاعتزال، تقول انها غير جاهزة، لأنها مشغولة بأمور اخرى غير التمثيل في السينما. هذه المشاغل، وهذا الحاضر غير البرّاق ينبغي ألا تنسينا، على اي حال، بأن جين فوندا عرفت، رغم تناقضاتها وتقلباتها، كيف تعطي دائما افضل ما عندها في بعض اجمل الافلام التي مثلتها، وفي شتى مراحل مسيرتها، بدءا من المرحلة الاولى حين اعطيت ادوار المرأة - الدمية في هوليوود، ولكن ايضا في فرنسا يوم تزوجت من المخرج روجيه فاديم، الذي جعلها بطلة بعض افلامه كفيلم "بارباريلا" واطلق شهرتها كممثلة مطواعة لينة العراك وامرأة ناضجة، رغم وجهها الطفل وتصرفاتها المراهقة. كانت تلك هي الفترة التي حاولت جين فيها ان تخرج من الاطار العائلي الهوليوودي، والفترة التي بدأت تتأثر فيها بأفكار اليسار الجديد في اميركا، وتناضل لكي تجعل من نفسها - هي ابنة البيت الفني العريق - "امرأة ناضجة حرة ومفيدة في المجتمع" كما قالت ذات يوم. في تلك المرحلة برزت جين فوندا كظاهرة، ولكن ليس كممثلة كبيرة او نجمة من النجوم. كان لايزال عليها، بعد، ان تنتظر المرحلة التالية: المرحلة التي عملت فيها مع مخرجين كبار، عرفوا كيف ينظرون الى داخلها وكيف يقدمون لها ادوارا ليس من السهل نسيانها حتى اليوم. فيتنام والسينما الجيدة بدأ ذلك مع آرثر بن الذي اعطاها الدور الرئيسي في "المطاردة" 1966 الفيلم الذي يغوص في مستنقعات السياسة الاميركية ويكشف فضيحة العنصرية والتفاوت الاجتماعي. بعد ذلك كان فيلم "انهم يقتلون الجياد... اليس كذلك؟" من اخراج سيدني بولاك، ثم خاصة "كلوت" 1970 من اخراج آلان باكولا. في هذين الفيلمين قدمت جين فوندا دورين وضعاها في مجابهة مباشرة وقاسية مع الحلم الاميركي، ومع الخيبة الاجتماعية. وكانت تلك هي المرحلة التي وصل فيها وعيها السياسي الى اقصى درجاته، ولقد تجلى هذا الوعي ليس فقط في اختيارها لأدوارها، بل كذلك في طريقة تقمصها لتلك الأدوار. عن دورها في فيلم "كلوت" نالت جين جائزة الاوسكار كأفضل ممثلة، في الوقت الذي كانت فيه الصحف التقليدية والمحافظة تحطمها بوصفها "خائنة للوطن". وذلك بسبب موقفها من حرب فيتنام. وكانت جين زارت هانوي معلنة وقوفها الى جانب ورثة هوشي منه، ثم دارت في طول الولاياتالمتحدة وعرضها لتدافع عن افراد الجيش الهاربين من الخدمة في فيتنام. لكن جين لم تبال بما راحت الصحافة تتقوّل به عنها، بل واصلت مسيرتها السياسية. اما في السينما، فقد وصلت الى حد التمثيل مع جان لوك غودار في فيلمه "كل شيء على ما يرام" 2719. وبعد ذلك كرّت السبحة: افلام عن فيتنام، افلام عن تحرر المرأة، وخاصة افلام ضد الفاشية "جوليا" في العام 1976 الى جانب فانيسا ريدغريف ومن اخراج فريد زينمان، وأفلام بيئوية ضد مخاطر انتشار الطاقة النووية "العارض الصيني" من اخارج ج. بريدجز.... ثم... هدأ كل شيء. وقفت جين فوندا ذات لحظة وراحت تتأمل ماضيها: كان توم هايدن اخفق في كل محاولاته لايجاد مكان له تحت شمس السياسة الاميركية. وكان ابوها هنري فوندا اضحى على اعتاب الموت، وكانت اميركا كلها بدأت تدخل المرحلة الريغانية، مرحلة الاتجاهات المحافظة. واكتشفت جين، كما تقول، انها انما ركضت دائماً وراء السراب وتعترف قائلة "كان خطأي الكبير انني كنت لا اكف عن وعظ الناس، وشرح كل ما اريد ان اقوله لهم، والكلام يخرج من فمي كالسيل المتدفق، بينما كان علي - بالاحرى - ان استمع اليهم، ان اكتشف ما الذي يرىدونه، ان افهم معاناتهم…". والنتيجة؟، وقفت جين الى جانب رونالد ريغان في معظم معاركه الداخلية… ووقفت الى جانب اسرائيل في ضربها للفلسطينيين وغزوها للبنان. وهكذا مرة واحدة قامت جين بأكبر انقلاب في حياتها: انقلاب على كافة المواقف اليسارية والتقدمية التي كانت وقفتها و…انهماك في ابتكار حركات رياضية لتخفيف وزن النساء. "انه نضال من نوع آخر. نضال من اجل صحة وسعادة المرأة الاميركية"، تقول جين وهي تبتسم… وتحصي الملايين التي درها عليها هذا النضال الاخير!! الضحك وأوزان النساء وفي السينما، كذلك، قررت جين ان تحدث تبديلاً اساسياً في مسارها، اذ عادت تحنّ من جديد الى ادوار المرأة - الدمية وليس بالطبع على شاكلة دورها في الفيلم الذي حققه الراحل جوزف لوزي عن مسرحيته "بيت الدمية" لهنريك إبسن في العام 1974، ولكن الاوان قد فات. فجين فوندا الجديدة لم تعد ابنة العشرين، ولا ابنة الثلاثين. بدأت تقترب من سن الكهولة. فلم تنل سوى بعض الادوار الفكاهية، وبعض الادوار التي تظهر فيها كسيدة اعمال تعيش مداعبة الحلم الاميركي من جديد… فلماذا؟ "لقد اكتشفت فجأة انني بكيت وحزنت بما فيه الكفاية على الشاشة، وان الوقت قد حان لاضحك وأضحك الناس بعض الشيء. فأنا - على اي حال، ورغم الصورة "البكاءة" المشهورة عني - اميل في طبعي الى الضحك. احب ان اضحك واضحك الآخرين معي…". ومن هنا كانت أفلام ساذجة من نوع "اضحك مع ديك وجين" 1977، و"من 9 الى 5" 1980، حيث مثلت جين فوندا دور… جين فوندا، ساخرة من نفسها. في ذلك الحين اصبحت ادوارها العظيمة جزءاً من ماضيها، ومجرد ذكرى لا تبارح خيال محبي السينما. وكانت فازت بأفضل ما يعطى لممثلة سينمائية من جوائز الاوسكار مرتين بين جوائز أخرى. وبدأت الكتب تصدر عنها وعن تاريخها وفنها تباعاً، وقدمت لابيها هدية الوداع الاخير انتاجها لفيلم "بيت قرب البحيرة"، فهل جعلها كل هذا راضية عن نفسها؟ قبل شهور من اعلانها الاعتزال، حاولت جين فوندا ان تجيب على هذا السؤال فقالت: "لا. أنا لم أرض أبداً عن نفسي. بل كنت كلما انتهيت من العمل في فيلم وشاهدته اقول لنفسي: ان اية ممثلة اخرى كان بإمكانها ان تؤدي الدور افضل مني. واذكر هنا دوري في فيلم "كلوت" لآلان باكولا حيث لعبت دور فتاة هوى. لقد اعجب الدور الكثيرين، اما انا فقد خيل لي انني فشلت في ادائه. لماذا؟ لانني خلال العمل عليه كنت ارتدي ثياب الفيلم، دون ان اخبر احداً بذلك، وأرتاد الحانات لكي ارى ما اذا كان الرجال سيتحرشون بي… فلا يفعل ذلك احد، فأعود الى المخرج باكولا واخبره بذلك والحزن يغمرني، مقترحة عليه ان يستبدلني بممثلة اخرى. فيبتسم ويهدئ من حزني!". لازم هذا الفشل جين فوندا على الدوام… وكان دون ادنى شك واحداً من الاسباب التي حملتها اخيراً على اعلان اعتزالها. فهل ينبغي علينا، اليوم، ان نقر معها بأنها، في الاصل، امرأة فاشلة؟ سؤال لا يمكن لأحد ان يجيب عليه… حتى جين فوندا نفسها، بشكل قاطع. المهم انها تألقت نحو ربع قرن في عالم السينما، ولا تزال حتى اليوم وهي تخطو نحو عامها الستين، حسناء، كما كانت دائماً، وسيدة ناجحة في حياتها، تشتهر ببديهتها المتقدة وبحبها للسينما، اضافة لحبها للسيطرة ولكل ما هو غريب. كانت جين فوندا تقول انها "مستعدة دائماً للبدء من الصفر كل مرة من جديد". فما معنى هذا؟ هل معناه انها اليوم في مرحلة الاعتزال كرمى لعيون تيد تيرنر، وكرمى لعيون ملايينها التي تدير شؤونها. لكنها في لحظة من اللحظات ستعود الى الصفر، فنراها على الشاشة من جديد، ولكن في اي نوع من الادوار يا ترى؟