ليس قليلاً عدد آل فوندا العاملين في السينما الاميركية، ولئن كانت الوحيدة من افراد العائلة الموجودة على الساحة حالياً هي بريدجت، ابنة بيتر فوندا، فان هذا الاخير لا يزال بدوره حاضراً وان كان حضوره نادراً. اما الاشهر فهي جين فوندا، اخت بيتر وعمة بريدجت التي صارت الآن زوجة لأحد أقطاب الاعلام في العالم: تيد ترنر، صاحب شبكة "سي. ان. ان" بعدما شغلت الصحافة والناس طوال اكثر من ثلاثة عقود، حيناً بكونها ممثلة من طراز رفيع، وحيناً بكونها مناضلة سياسية، وبعد ذلك بكونها رائدة في رشاقة الجسم. هذه العائلة الصغيرة الشهيرة، تنحدر كلها من فنان هوليوودي كبير هو هنري فوندا، الذي لم يقلّ ابداً شهرة عن ابنه بيتر وابنته جين، بل فاقهما من ناحية قيمته الفنية، كما من ناحية استمراريته. فهو اذا كان رحل عن عالمنا يوم 13 اب 1982، فان حين رحل كان في السابعة والسبعين من عمر امضى ثلاثة ارباعه ممثلاً كبيراً وذا حضور طاغ. وهنري فوندا مثله في ذلك مثل بعض كبار اهل الشاشة الاميركية، ايطالي الاصل، وان كان ولد في نبراسكا الاميركية في العام 1905. منذ بداياته أغرم هنري فوندا بالمسرح والتحق بغرف التمثيل المدرسية ثم الجامعية، وفي العام 1928 بناء على توصية من أم مارلون براندو، التي كانت ذات نفوذ فني كبير، التحق هنري بفرقة "ممثلي الجامعة" التي حققت نجاحاً كبيراً اواخر العشرينات وبداية الثلاثينات. وكان من ابرز مسرحياتها "المزارع يتخذ لنفسه زوجة" التي لعب فيها هنري دور البطولة. وحين اشترت "فوكس" حقوق تحويل المسرحية الى فيلم كان من الطبيعي ان يسند الدور الاول اليه. وكان المخرج هو فيكتور فليمنغ، الذي عرف خاصة بادارته الجيدة للممثلين. وهكذا كانت بداية هنري فوندا، في العام 1935، بداية طيبة. وبين العام 1935 والعام 1982، عام رحيله، لم يتوقف هنري فوندا عن العطاء في واحدة من اطول المسيرات الهوليوودية عمراً. ولكن دائماً في ادوار تكاد تكون متشابهة حيث غلب على ادواره طابع الاميركي الهادئ المتزن النزيه، الى درجة ان بعض كاتبي سيرة حياته وصفوه بأنه اضحى "ضمير الديموقراطية الاميركية السينمائي". خلال 47 سنة، مثل هنري فوندا في اكثر من ثمانين فيلماً، كان له في معظمها دور البطولة. والحال ان معظم افلامه يعتبر من المستوى الجيد في المقاييس الهوليوودية العامة، حيث ان هنري فوندا عرف كيف يختار، غالباً العمل تحت ادارة مخرجين كبار، من فريتز لانغ في مرحلته الهوليوودية الى هنري كنغ ومن ويليام ويلمان الى جون فورد الى الفرد هتشكوك. ومن هنا، حتى لئن كان بإمكان اسم هنري فوندا ان يغيب عن الاذهان حين تستعاد ذكرى كبار نجوم هوليوود، فان مجرد التذكير بأفلام مثل "المتهم الخطأ" لهتشكوك، او "12 رجلاً غاضباً" لسدني لامبث، او "عاصفة على واشنطن" لاوتو برمنغر، او حتى "حدث ذات مرة في الغرب" لسرجيو ليوني، هذا التذكير كاف لان يحيل اسم هنري فوناد الى مكانة الصدارة، حيث نتذكر انه كان ممثلاً جيداً اكثر مما كان نجماً. مهما يكن فان عمل هنري فوندا السينمائي يمكن تقسيمه الى مرحلتين اولاهما تبدأ مع بداياته وتتوقف في العام 1948 حيث نجده وقد انصرف الى المسرح بعد مغامرات سينمائية حققت له مكانة ولكنها لم تحقق ما يكفي من الشهرة، اما المرحلة الثانية فتبدأ في العام 1955، حين اختاره ألفريد هتشكوك ليمثل دور البطولة في "المتهم الخطأ" ثم كان بعد ذلك تألقه في الدور الرئيسي في "12 رجلاً غاضباً" الذي يعتبر من اشهر افلام المحاكم في تاريخ السينما الاميركية. وبعد ذينك الدورين لم يتوقف هنري فوندا عن العمل. وكان من الطبيعي لكبار المخرجين ان يختاروه للعب ادوار الشخصيات الاكثر التباساً والتي تعيش حالة من الشك، على غرار اميركا التي كانت، في ذلك الحين، تعيش مرحلة تساؤل وشكّ حول هويتها. ولعل أطرف دور لعبه هنري فوندا، كان دور هنري فوندا نفسه في فيلم "فيدورا" 1978 من اخرج بيلي وايلدر، حيث يمثّل في الفيلم دوره كنجم يحمل الى غريتا غاربو جائزة الاوسكار التي تفوز بها. اما نهايته السينمائية فكانت في فيلم "بيت بجانب البحيرة" الذي مثّل فيه الى جانب كاثرين هيبورن دور عبقري عجوز ينفر من الآخرين. وهذا الدور مكّنه من الحصول على جائزة الاوسكار التي انتظرها طويلاً، فلم تأته الا وهو في فيلمه الاخير و… في الرمق الاخير، اي قبل شهور قليلة من رحيله.