تجربة الحكم التونسي مع "الاصوليين الاسلاميين"، وخصوصاً حركة النهضة، تجربة مثيرة للاهتمام ومختلفة عن تلك التي اتبعها الحكم الجزائري مع الجبهة الاسلامية للانقاذ. فقد بدأت العلاقة بين الرئيس التونسي زين العابدين بن علي والاصوليين الاسلاميين على اساس الرغبة في الحوار والمشاركة في الحياة السياسية التونسية، ثم انقلبت هذه العلاقة واتخذت طابع العداء والمواجهة ووصلت الى ذروتها في محاكمة القيادات الاصولية الاسلامية وعدد كبير من اعضاء حركة النهضة او انصارها بتهم مختلفة تشمل السعي الى اسقاط النظام وزعزعة الاستقرار في البلاد ومحاولة اسقاط طائرة الرئيس بن علي. ما قصة العلاقة بين بن علي والحكم التونسي عموماً وبين الاصوليين الاسلاميين وحركة النهضة؟ التحقيق الآتي يروي هذه القصة ويكشف جوانب غير معروفة من هذه العلاقة المثيرة للاهتمام. كنا مجموعة من الصحافيين العرب والاجانب، جنسياتنا مختلفة لكن موضوع الحديث واحد: ما هو مستقبل التيارات والقوى الدينية الاسلامية المتطرفة في منطقة المغرب العربي بعد اغتيال الرئيس الجزائري محمد بوضياف وقيام تركيبة حكومية جديدة في الجزائر، وفي الوقت الذي بدأت السلطات التونسية محاكمة عناصر حركة "النهضة" المحظورة بتهمة العمل على الاستيلاء على الحكم بالقوة والتآمر لتغيير النظام؟ وقال لي صحافي وكاتب جزائري معروف: "لقد اخطأ الاصوليون الجزائريون حين اعتبروا ان الجزائر يمكن ان تكون ساحة او مختبراً لتجربة الحكم الاصولي. والذين ينتقدون اليوم عملية مواجهة انصار الجبهة الاسلامية للانقاذ باسم الدفاع عن الديموقراطية لا يدركون الاخطار التي كانت محدقة بالمجتمع الجزائري من طرف هؤلاء الذين كانوا يريدون ان يصادروا حريته باسم الدين. لقد تعاملنا نحن في الجزائر بصورة طفولية مع الظاهرة الاصولية ولم نقدر اخطارها حق قدرها بل تهاونا معها وكاد ان يجرفنا التيار. لقد تعاملت تونس تعاملاً افضل واكثر عقلانية، حيث حجبت عنهم الترخيص ومنعت قيام حزب ديني وكانت محقة في ذلك، فالدين هو قاسم اعظم مشترك بين كل افراد المجتمع لا يحق لاحد ان يدعي احتكاره". والواقع ان المسؤولين السياسيين التونسيين تعاملوا مع ظاهرة التيارات الاسلامية المتطرفة بحذر شديد ورفضوا الانخراط في عملية دعائية لابراز ما انتهت اليه قناعات الكثيرين. وكما قال لنا مسؤول تونسي كبير: "ما الفائدة من احراج الاخوة الجزائريين وهم يمرون بظروف عصيبة في مواجهة محاولات زعزعة الاستقرار التي يقوم بها الاصوليون الجزائريون؟" ويبدو انه اصبح مؤكداً ان اتفاقاً تم التوصل اليه على هامش قمة مراكش المؤسسة لاتحاد دول المغرب العربي في شباط فبراير 1989 بين الملك الحسن الثاني والرئيس الجزائري السابق الشاذلي بن جديد والرئيس زين العابدين بن علي ويقضي هذا الاتفاق بعدم اتخاذ اية خطوة للاعتراف بحزب اصولي الا بعد التشاور بين هؤلاء القادة واتخاذ موقف موحد. كما يبدو ان الملك الحسن الثاني والرئيس بن علي فوجئا في ايلول سبتمبر 1989 بقرار الترخيص لحزب جبهة الانقاذ في الجزائر. وعندما جرى طرح الموضوع على الشاذلي بن جدد خلال انعقاد قمة تونس المغاربية في كانون الثاني يناير 1990 اكد انه لم يكن مسؤولاً عما جرى وان رئيس حكومته قاصدي مرباح هو الذي قام بخطوة الاعتراف بجبهة الانقاذ ولذلك فقد بادر هو الى اقالته الا انه لم يعد يستطيع التراجع عن هذا القرار. انطلاقاً من هذه المعطيات فان الغاء الاستمرار في العملية الانتخابية في الجزائر في كانون الثاني يناير الماضي قوبل بكثير من الارتياح غير المعلن في العاصمة التونسية، مع الحرص على ابراز ان تونس لا تتدخل في الشؤون الداخلية الجزائرية وهو ارتياح لم يكن عاماً في اوساط المثقفين الذين لم يستسغ بعضهم "وقف عملية انتخابية ومسيرة الديموقراطية". الا ان هذا الارتياح الرسمي الذي اعتبر انتصاراً لوجهة النظر الرسمية التونسية كان مشوباً بكثير من الحذر واليقظة. اذ لم يكن يخفى ان عشرات وربما مئات القياديين الاصوليين التونسيين كانوا موجودين في الجزائر ويتربصون بالحكم التونسي. وانهم سيحاولون في ظل الفوضى السائدة ان يتسربوا اما عن طريق الجزائر او عن طريق عواصم اخرى في المنطقة. وقد سجل بالفعل انتقال اعداد مهمة منهم الى ليبيا ومحاولة بعضهم الدخول خفية الى تونس باستعمال التسهيلات القائمة للانتقال بين تونس وطرابلس. ولذلك اتفق الطرفان الليبي والتونسي على العودة، للانتقال بين البلدين الى استعمال جوازات السفر بدلاً من بطاقات الهوية التي كانت مطلوبة حتى ذلك الحين والتي يسهل تزويرها. ولكن يبقى السؤال مطروحاً وبالحاح: هل ان السلطات التونسية لم تفكر اطلاقاً بالاعتراف بحزب اصولي؟ وهل ان قرار عدم الاعتراف هو قرار متخذ منذ حركة تغيير السابع من تشرين الثاني نوفمبر 1987 التي ادت الى مجيء الرئيس بن علي؟ ان المسافة الزمنية لا تمكّن من اعطاء جواب قاطع، ولعل المعلومات والعناصر المتوفرة تفيد بأن احتمال مثل ذلك الاعتراف قد لا يكون غائباً عن اذهان بعض المسؤولين، وقد يكون مرفوضاً لدى بعضهم الآخر في الفترة الاولى من قيام التغيير في السلطة في تونس. الا ان مجموعة تطورات ادت بالسلطة الى اتخاذ قرار قاطع بعد تردد قد يكون استمر الى نيسان ابريل 1989، كما يقول بعض المراقبين، او الى خريف 1990 كما يقول البعض الاخر. ولا بد من القول ان هناك مجموعة من السياسيين في تونس اعلنت ومنذ اليوم الاول لتغيير السابع من نوفمبر تشرين الثاني 1987 انه لا يحق لأحد ان يعطي الاصوليين امكانية اقامة حزب قانوني. ويقول هؤلاء، تبريراً لموقفهم ذاك: "ان الصراع الديموقراطي على السلطة لا يمكن ان يقوم الا بين مجموعات لا يكون بينها تناقض عميق في النظرة. اما ان يقوم مثل هذا الصراع بين فئتين يبلغ الاختلاف والتناقض بينهما حد اعلان لا مشروعية الطرف الثاني، فهذا ما لم يحدث في التاريخ". ويقول اصحاب هذا الرأي: "هل رأيتم الشيوعيين يصلون مرة الى الحكم عن طريق صندوق الاقتراع؟ ان التصور المجتمعي يمنع مثل هذه الانقلابات العميقة. فالاشتراكيون مثلاً والرأسماليون، وان كانت بينهم فروق، يجدون منطلقهم في النظرة الاقتصادية في ضرورة اعتماد اقتصاد السوق ويصبح الخلاف قائماً في درجة تدخل الدولة لا في احتكار الدولة لادوات الانتاج مثلما يريد الشيوعيون". ويقول اصحاب هذه النظرة: "ان الفوارق بين النمط المجتمعي للانظمة المدنية والتصور المجتمعي للانظمة القائمة على الاصولية اكبر وأعمق ولا يمكن ان تكون هناك اية ارضية للتعايش بين نمطين يبلغ الاختلاف بينهما قدراً يستحيل معه التوفيق او التنسيق، الا اذا كان احد الطرفين يبدي ما لا يبطن، وهو امر منتشر لدى عدد من الحركات الاصولية. وهناك مجموعة اخرى من السياسيين المؤثرين كانت تعتقد انه على العكس من ذلك فان الاسلاميين التونسيين "يتميزون بقدر كبير من الواقعية والقدرة على التفاعل مع الاحداث" وانه يمكن تطويرهم في اتجاه افضل ولذلك يجب السماح لهم بانشاء حزب بطريقة قانونية، ان لم يكن فوراً ففي المدى المتوسط. بن علي أنقذ الغنوشي ويبدو ان الحكم التونسي الجديد الذي تسلم زمام الامور، بعد الاطاحة بالرئيس الحبيب بورقيبة، اخذ بوجهة النظر الاخيرة هذه. فلا بد من القول - والاعتراف - بأن النظام الذي انبثق عن حركة 7 تشرين الثاني نوفمبر 1987 التغييرية قدم الكثير للاسلاميين. والرئيس بن علي نفسه لم يبخل على الاصوليين بل تعامل معهم بصورة جيدة. ففي صيف 1987 وحتى قبل تغيير النظام القائم في تونس بذل وزير الداخلية بن علي في حكومة الرئيس السابق بورقيبة كل جهده لانقاذ الزعامات الاسلامية، وفي مقدمتهم الشيخ راشد الغنوشي من حبل المشنقة! بينما كان بورقيبة يصر، تحت الحاح محيط متصلب، على ان تقدم له الرؤوس "على طبق من فضة". وكان وزير الداخلية بن علي والرجل القوي وقتها في الحكومة التونسية يعتقد ان مثل هذه الاعدامات لا يمكن الا ان تدخل البلاد في دوامة عنف لا مخرج منها. وقد دلت الاحداث فيما بعد ان الرئيس بن علي ليس ميالاً لتنفيذ احكام اعدام حتى في قضايا الحق العام، فبين 1972 وآخر 1991 لم يسجل الا تنفيذ حكم اعدام واحد في شخص ارتكب افظع الجرائم اذ انه قتل 12 طفلاً وطفلة، بعد ان ارتكب معهم فظاعات كبيرة. ولم يخف الاسلاميون ان الرئيس بن علي هو الذي انقذ زعيمهم الغنوشي وعدداً من كبار المقربين اليه من حبل المشنقة. اما بعد السابع من نوفمبر تشرين الثاني 1987 فقد مد الرئيس بن علي يده الى الاسلاميين، بقطع النظر عما كان يعتمل في الساحة السياسية، خصوصاً لدى الرافضين لكل احتمالات الاعتراف لهم بحزب قانوني ممن كانوا يؤكدون ان الاسلاميين حاولوا في فترات معينة التسرب الى القوات المسلحة وانه "لا يؤمن جانبهم". ونذكر هنا ست مناسبات انفتاح في اتجاه الاسلاميين، بقطع النظر عن احتمال او عدم احتمال الاعتراف بهم. 1 - اطلق بن علي بعد وصوله الى السلطة، وعلى دفعات، جميع الاسلاميين الاصوليين الذين كانوا في السجون، وسمح للمنفيين منهم بالعودة الى البلاد. كما انه اعطى اوامره بتجديد جوازات السفر للباقين منهم في الخارج ممن انتهت الصلاحية الزمنية لجوازاتهم. 2 - استقبل بن علي الشيخ راشد الغنوشي وتحادث معه شخصياً اضافة الى حرصه على اقامة جسور الحوار مع الاصوليين بواسطة مجموعة من كبار المسؤولين في السلطة والحزب الحاكم آنذاك. 3 - دعوة الاصوليين التونسيين للتوقيع على الميثاق الوطني في الذكرى الاولى لتغيير الحكم في 7 نوفمبر تشرين الثاني نوفمبر 1988. وان لم تحصل تلك الدعوة بصفة رسمية، اذ ان ممثل الاسلاميين المحامي نور الدين البحيري وقّع على ذلك الميثاق بصفته الشخصية. الا انه من الواضح ان نور الدين البحيري لا يمثل شيئاً لو لم يكن احد كبار القياديين الاسلاميين. 4 - دعوة الاسلاميين ليكونوا ضمن الائتلاف الانتخابي في الانتخابات العامة لشهر نيسان ابريل 1989، وهو ائتلاف دعت اليه السلطة وسقط بسبب امتناع حركة الديموقراطيين الاشتراكيين اكبر احزاب المعارضة القانونية عن المشاركة فيه. 5 - القبول بمشاركة الاصوليين في الانتخابات التشريعية بقائماتهم البنفسجية، وان كانت تلك القائمات وضعت في خانة القائمات المستقلة بسبب عدم الاعتراف بحزب اسلامي. 6 - منحهم ترخيص اصدار صحيفة "الفجر". وقد صدرت هذه الصحيفة فعلاً لفترة ثم توقفت عن الصدور بعد ان ساءت العلاقة بين السلطة والاسلاميين. وفي المقابل فان الاسلاميين قدموا بعض شواهد الاخلاص وحاولوا ان يزيلوا التخوف منهم ومن حركتهم وان يطمئنوا السلطة في حينه الى انهم يدخلون اللعبة السياسية في اطار احترام شروطها. وقد ظهرت هذه الشواهد خصوصاً في الامور الآتية: 1 - الحديث الصحافي الذي نشرته صحيفة "الصباح" التونسية اكبر الصحف اليومية في تونس مع الشيخ راشد الغنوشي والذي ابرز فيه مواقف تقطع ما عرف قبلاً من مواقف للاسلاميين خصوصاً بالنسبة الى الديموقراطية ونمط المجتمع والموقف ايضاً من حرية المرأة وعدم الزواج بأكثر من واحدة وتحديد الطلاق وتقنينه ووضع التصريح به بيد القاضي وحده، كما اعتبر ان مجلة الاحوال الشخصية قانون ايجابي. 2 - القبول بتوقيع احد ممثلي الحركة الاسلامية على الميثاق الوطني الذي هو عبارة عن عقد معنوي يرفض استعمال العنف في العمل السياسي ويمجد النمط المجتمعي القائم والذي كان الاصوليون يدعون الى تغييره باقامة الدولة الدينية. 3 - القبول بالدخول في الانتخابات التشريعية العامة لسنة 1989 على اللوائح الائتلافية التي كان يعدها الحزب الحاكم والتي لم يتم انجازها فيما بعد لسبب خارج عن نطاق الحركة الاسلامية. 3 عوامل وإذا صح انه كان هناك احتمال ولو ضئيل لاعتراف لاحق، ولو بعد مدة، بحزب اصولي، فما الذي منع تطور الاحداث في هذا الاتجاه، ولو بصورة تدريجية، وجعل تونس تحرز في نظر الكثيرين "علامة استحسان" لرفضها تقنين مثل هذا الحزب؟ لا بد من القول اولا ان هناك ثلاثة عوامل رئيسية حكمت السياسة الحكومية في تونس بعد تغيير السابع من نوفمبر تشرين الثاني 1987: الاول، حذر شديد من السلطة في التعامل مع الحياة الحزبية وعلى رغم انه تم الاعتراف بثلاثة احزاب بعد السابع من نوفمبر فان الحكم انتهج نهج التلمس الحذر للتعامل مع المؤسسات الحزبية التي قامت في البلاد وتم السكوت عن الترخيص على الاقل لثلاثة او أربعة احزاب كلها يمكن القول انها تؤمن بالنمط المجتمعي السائد. ويبدو وكأن السلطة اختارت، من البداية، ان تقوم الحياة السياسية على عدد قليل من الاحزاب يمثل كل منها تياراً سياسياً معيناً بدل السماح لعدد كبير من الاحزاب، كما حصل في الجزائر حيث تأسس في 3 اعوام بين 50 و60 حزباً. الثاني، حذر اكبر في التعامل مع الظاهرة الاسلامية الاصولية والعمل على الا تفلت المبادرة من يد السلطة في هذا المجال، خصوصاً ان الاسلاميين الاصوليين يستعملون ادوات غير سياسية لتسجيل انتصارات سياسية اي انهم يستعملون الدين والجامع للتأثير الاجتماعي، وهو امر مرفوض من التيارات السياسية الاخرى التي ترى فيه منافسة غير متكافئة في الساحة السياسية. ومن هنا فان السلطة، اذا كانت تنوي فرض الاعتراف بحزب للاسلاميين في يوم من الايام، فانها كانت تتوقع منهم الانتظار مع استعداد منها لاعطائهم حق اصدار صحيفة وربما الترخيص لهم بتأسيس جمعية او جمعيات ثقافية لتجربتهم من خلالها وتجربة مدى انضباطهم واحترامهم القوانين المعمول بها في البلاد. الثالث، ان ماضي الاسلاميين التونسيين الظاهر من ادبياتهم خصوصاً، واكتشاف ما سمي لاحقاً القضية الامنية ونجاح الاصوليين في التسرب، الى حد ما، الى اجهزة الامن والى القوات المسلحة جعل السلطة تخشى وجود نوايا انقلابية لدى الاسلاميين ووجود استعداد للجوء الى العنف لتحقيق تغيير سياسي في تونس. الحذر من الاصوليين غير ان ما جعل السلطة التونسية وكذلك الاحزاب والقوى السياسية الاخرى في البلاد تتخوف من الاصوليين الاسلاميين هو الآتي: 1 - اللهجة التي اتبعها مرشحو اللوائح البنفسجية الاسلامية في انتخابات 1989 التشريعية العامة، فقد اعتبرت هذه اللهجة قاطعة مع التعهدات التي قدمها الشيخ الغنوشي، وكذلك مع مقتضيات الميثاق الوطني الذي وقع عليه الاسلاميون عن طريق ممثلهم نور الدين البحيري. فقد احدثت هذه اللهجة خوفاً، خصوصاً في ما يتعلق بنمط المجتمع. وقد اكد الاسلاميون ان هذه اللهجة لا تمثلهم لأن اللوائح مستقلة ويقودها عدد من الانصار الذين، وان كانوا قريبين من الحركة الاسلامية، فانهم ليسوا منضوين فيها. الا انه معروف لدى القاصي والداني ان هذه اللوائح مرتبطة بالحركة الاسلامية، وهذا ما جعل الكثيرين يقولون ان دفاع الاصوليين يبرز ازدواجية خطيرة في الخطاب ويظهرهم على وجههم الحقيقي الذي حاولوا اخفاءه بعد تغيير السابع من تشرين الثاني نوفمبر 1987 تسهيلاً "لانقضاضهم على السلطة في غفلة من الناس". 2 - الحملة العنيفة التي شنوها ضد السلطة بعد هذه الانتخابات في الداخل والخارج متهمين الحكومة بتزوير الانتخابات بعدما تم انتخاب برلمان من لون واحد جميع اعضائه من الحزب الحاكم. وجاءت هذه النتيجة بسبب طبيعة طريقة الاقتراع اكثر مما جاءت بسبب التزوير، خصوصاً ان مراقبين صحافيين من الدول الغربية والعربية تابعوا عمليات الانتخاب وانتهوا الى انها كانت في العموم طبيعية وذكروا ذلك في تقاريرهم الصحافية. ولقد اعتبرت السلطة ان هذه الحملة ظالمة وتبرز ارادة في التوظيف السياسي ونوعاً من سوء النية اكثر مما تدل على ارادة حقيقية في التعامل السياسي الطبيعي. ومما زاد الطين بلة ان زعيم الحركة الغنوشي سافر بعد هذه الانتخابات مباشرة واختار ان يعيش في منفى اختياري على رغم ان السلطة لم تكن لترى مبرراً لذلك اطلاقاً، واعتبرت ان ذلك يعكس قلة ثقة في النظام او انه دليل على تحضير شيء ما من الخارج لا يمكن ان يكون ايجابياً للبلاد، وهو في اي حال مظهر تحدٍ لا غير. ولا بد من القول هنا أن الارقام الرسمية المنشورة اثر انتخابات نيسان ابريل 1989 تظهر ان اللوائح البنفسجية المدعومة من حركة النهضة حصلت على 5،13 في المئة من الاصوات الصحيحة. تجنب المأزق الجزائري لقد اخذ يتضح ان حظوظ حصول الاسلاميين على ترخيص لحزبهم بدأت تتضاءل منذ الانتخابات العامة في نيسان ابريل 1989 من خلال ما سبقها من مواقف في الحملة الانتخابية بدت للكثيرين متناقضة، كما ظهر من خلال المواقف المعلنة للحركة الاسلامية، خصوصاً على لسان زعيمها الشيخ راشد الغنوشي في الكثير من المناسبات. وإذ قدم الاصوليون تنازلات اخرى خصوصاً عند قبولهم بتغيير اسم حزبهم واختيار اسم "حركة النهضة" الذي لا يحتوي على اية اشارة دينية فانهم فاجأوا الناس من جديد بتقديم طلب للترخيص، فيما كان منتظراً منهم في اواخر 1989 او اوائل 1990 ان يقدموا طلباً للحصول على ترخيص باصدار صحيفة، وربما تقديم ترخيص او تراخيص لانشاء جمعية او جمعيات ثقافية لا اكثر. وإذ بقيت الامور على هذا النحو طيلة العام 1989 وخلال معظم فترة 1990، فان بعض المبادرات والتحركات التي قام بها الاسلاميين المتشددون زادت من الانكماش تجاههم وتقليل الثقة في ان يكونوا تركوا توجهاتهم القديمة وانضموا الى القوى الديموقراطية، وارتفعت اصوات عدة مؤكدة ازدواجية خطابهم السياسي ومنكرة على السلطة اي تصديق للمعلن من توجهاتهم. فقد اتسمت سنة 1990 بتصعيد خطير قام به الاتحاد العام التونسي للطلبة، وهو منظمة تابعة للحركة الاسلامية، وحاول من خلاله ان يعرقل السير الطبيعي لعمل الجامعات التونسية وان يصل الى سنة بيضاء. ومع بدء ازمة الخليج حاول الاسلاميون ان ينتهزوا فرصة تأييدهم للنظام العراقي بتحريك الشارع ضد السلطة والمزايدة عليها، مما جر الى انزلاقات عديدة. ويقول احد الذين كانوا ينادون من داخل السلطة بضرورة الاعتراف للاسلاميين الاصوليين بحزب قانوني ليأخذوا مكانهم بين القوى العاملة في العلن: "لقد سعى الاسلاميون الى حتفهم بيدهم. فقد ظنوا ان الوقت حان عام 1990 لزعزعة النظام من الداخل وإحراجه ودفعه اما لتحمل تجاوزاتهم حتى يفقد مصداقيته او لضربهم فيصيحون بأنه غير ديموقراطي وبذلك ينزعون عنه الهالة التي اكتسبها بعد حركة تغيير 7 نوفمبر. لكنهم اخطأوا". فقد جاءت مناسبات عدة لتؤكد ان هذا التكتيك لم ينجح اذ قامت الاحزاب والمنظمات السياسية الاخرى في وجه الاصوليين عندما اصدروا بيان 2 تشرين الثاني نوفمبر 1989 الذي تهجموا فيه على الاصلاح التعليمي الذي كانت تقف وراءه كل القوى الحية في المجتمع، ثم لمناسبة محاولة زعزعة الاستقرار عن طريق تحريك الجامعات وجعل الدراسة فيها مستحيلة. الا ان النقطة التي افاضت الكأس حصلت في شباط فبراير 1991 عندما هاجم كومندوس من الاسلاميين المقر الرئيسي لفرع التجمع الدستوري الحاكم في العاصمة واوثقوا الحراس الى مقاعدهم وصبوا عليهم المواد الحارقة قبل ان يشعلوا النار، مما اسفر عن موت احد الحراس محترقاً فيما اصيب الثاني بحروق خطيرة ان لم يدفع ثمناً لها حياته فانه سيبقى نتيجتها مشوهاً بقية الحياة. وقد استنكرت كل القوى هذه العملية ونددت بالقائمين بها، فيما ادى الامر الى انسحاب عدد من الزعامات الاسلامية من الحركة بعد تأكدهم من تورط حركة النهضة فيها وفي مقدمتهم الرجل الثاني في الحركة السيد عبدالفتاح مورو. وإذ بدا ان امل الاسلاميين في الحصول على حزب مرخص له انتهى تماماً بعد هذه العملية، فان الاسابيع التي تبعت ذلك ابرزت ان تورط النهضة في "مؤامرة لتغيير الحكم بالقوة عن طريق محاولة التسرب الى القوات المسلحة وجهاز الامن" انهت كل احتمالات مثل هذا الاعتراف، فيما اعلن مئات المناهضين من مختلف الدرجات انسلاخهم عن حركة لم يكونوا ليوافقوا على توجهاتها تلك. وقد لاحظ المراقبون، اعتماداً على المعلومات التي قدمتها الاوساط الرسمية ان بعض هذه التحركات للتغلغل في صفوف القوات المسلحة وجهاز الامن كانت تجري منذ سنة 1988، اي في الوقت الذي كانت تطلق فيه القوى الاصولية التصريحات المطمئنة وتعلن المواقف السياسية المقبولة من قبل الطبقة السياسية في الحكم والمعارضة. وهكذا يبدو ان السلطة التونسية لم تسارع مثلما فعلت الجزائر، الى الاعتراف بقوة سياسية تعتمد الدين للتأثير وسحب الانصار وانتظرت الوقت الكافي لتعرض حقيقة الامر ومدى صدق النوايا عند الاصوليين. ويؤكد بعض السياسيين التونسيين، ممن لهم دور في اتخاذ القرار في البلاد، انهم كانوا يدركون حقيقة طبيعة حزب "النهضة" وانه كان عليهم "ان يجربوا مدى قدرته على اخفاء حقيقته طويلاً، كما ان ما انتهى اليه النهضويون من اعمال ليس غريباً بل هو المتوقع اذ ان كل فاحص لأدبياتهم يدرك سريعاً انهم يضمرون ما لا يعلنون وان همهم هو الوصول الى اقامة الدولة الاسلامية وفقاً لتصوراتهم بأي ثمن وأياً تكن الوسائل". ويقول آخرون: "ان السلطة ابدت كل استعداد للتعامل مع الاسلاميين وفق مقتضيات الدولة العصرية القائمة على احترام اختيارات المجتمع في استمرار النمط المجتمعي المدني المتحرر مع التمسك بالهوية العربية الاسلامية للفرد والمجتمع التونسي. ففي المجتمع التونسي مكتسبات يتهددها النمط الذي يبشر به الاصوليون، مثل ما توفر من حريات عامة وحفاظاً على كرامة البشر ومساواة متقدمة بين المرأة والرجل وروح تسامح كبيرة، كما ان تونس لم تعرف قط التطرف، لا الديني ولا غير الديني، اضافة الى ان الوضع الاقتصادي يعتبر مرضيا الى حد ما، وهو لا يهدد بالانفجار مثلما هو الشأن في الجزائر. وتونس ايضاً بلد عرف حركة اصلاحية واسعة منذ ما قبل منتصف القرن الماضي، مثل مصر ولبنان، وبالتالي فان فيها شرائح واسعة من المجتمع متشبعة بالروح الاصلاحية ولذلك فلا مكان في تونس لأي حزب متطرف يريد ان يعود بها الى الوراء او التنكر لروح التسامح الموجودة فيها منذ قرون، او الخروج عن الاجماع السائد من حيث النمط المجتمعي المنفتح والناظر الى المستقبل من زاوية مزيد من الانفتاح على الحضارات والثقافات العالمية المتقدمة". ومن هنا يبدو الشعور السائد في تونس سواء لدى السلطة او لدى الطبقة السياسية، بأن تونس اختارت الطريق الامثل عندما لم تسر في اتجاه الاعتراف بتقنين حزب اصولي وجنبت نفسها ما حصل في الجزائر التي لا بد من القول ان هناك اسباباً موضوعية دفعتها الى هذه الطريق: 1 - عمق تجذر التيار الاصلاحي في تونس والذي يعود، كما رأينا، الى ما قبل 1840. وقد عرفت تونس عدداً كبيراً من المصلحين في تلك الفترة، من بينهم خير الدين باشا والطاهر بن عاشور والطاهر الحداد الذي هو رديف لقاسم امين في مصر ومعاصر له والحبيب بورقيبة، وغيرهم كثيرون. وهذا التيار الاصلاحي طبع الحياة السياسية التونسية على مدى احقاب، كما انه استفاد من تيارات مماثلة في المشرق وفي الغرب، اذ ان تونس عرفت مباشرة رافع رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الافغاني وخصوصاً محمد عبده الذي اقام فترة طويلة فى تونس كما عرفت عدداً من كبار المفكرين اللبنانيين. 2 - ان الوضع الاقتصادي في تونس اذا لم يكن جيدا فهو معقول، وتونس الخالية من اية ثروات طبيعية يبلغ مستوى الدخل الفردي فيها حالياً 1700 دولار سنوياً وهو اعلى دخل في القارة الافريقية، باستثناء الدخل الفردي المسجل في الدول البترولية. كما ان هذا الدخل في تصاعد مستمر، اما المديونية التونسية فهي بمقدار 6 مليارات دولار وتبدو معقولة، خصوصاً ان اكثرها تم الحصول عليه بشروط ميسرة ولآماد طويلة، ولا يشكل سدادها عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد التونسي بل هو في مستوى قدراته. 3 - ان خدمات السكن، والمتوفر من السلع التونسية والاجنبية يجنب البلاد اية ازمات تموين، وهذا من شأنه ان يمنع قيام علامات الغضب التي نشهد مثيلاً لها في الجزائر حيث لا تتوفر المساكن ولا مياه الشرب وتشح بصورة كبيرة المواد الاستهلاكية الضرورية، وهذه هي الاسباب الرئيسية للنجاح الذي سجله الاصوليون في الجزائر، اذ انهم اصبحوا الملجأ امام صعوبات الحياة وفي ظل فقدان كل شيء من السوق وانتشار البطالة بصورة واسعة جداً وانسداد الآفاق في بلادهم. اما تونس فظروفها مختلفة، وكذلك تجربتها مع القوى الاسلامية المتشددة.