وزير الدفاع والسفير الصيني لدى المملكة يستعرضان العلاقات الثنائية بين البلدين    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    موافقة خادم الحرمين الشريفين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    ترسية المشروع الاستثماري لتطوير مستشفى متخصص لعلاج الإدمان    جمعية "إرادة" تحقق الذهبية في جائزة التجربة التعليمية    الخريجي وسفير أمريكا لدى المملكة يستعرضان العلاقات الثنائية بين البلدين    نائب أمير منطقة مكة يستقبل المندوب الدائم لجمهورية تركيا    تعيين الشثري رئيساً تنفيذياً لهيئة المنافسة    إحباط 3 محاولات لتهريب أكثر من 645 ألف حبة محظورة وكمية من مادة «الشبو»    أمير الشرقية يدشن مشروع كاميرات المراقبة الذكية بالمنطقة الشرقية    المملكة تدين القصف الإسرائيلي على مدرسة أبوعاصي في غزة    وزير الصحة: 10 % نموي سنوي لقطاع الأدوية بالمملكة    مشاركة عربية قياسية محتملة في أمم أفريقيا 2025 وغياب غانا والرأس الأخضر أبرز المفاجآت    أكثر من 6 ملايين عملية إلكترونية عبر «أبشر» في أكتوبر 2024    تدشين 3 عيادات تخصصية جديدة في مستشفى إرادة والصحة النفسية بالقصيم    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    انتظام اكثر من 389 ألف طالب وطالبة في مدراس تعليم جازان    رئيس مجلس الشورى يرأس وفد السعودية في الاجتماع البرلماني بدورته ال 29 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في باكو    "سعود الطبية" تستقبل 750 طفلاً خديجًا خلال 2024م    "وزارة السياحة": نسبة إشغال الفنادق في الرياض تجاوزت 95%    "دار وإعمار" تختتم مشاركتها في "سيتي سكيب جلوبال" بتوقيعها اتفاقياتٍ تمويليةٍ وسط إقبالٍ واسعٍ على جناحها    نمو سجلات الشركات 68% خلال 20 شهراً منذ سريان نظام الشركات الجديد    "المواصفات السعودية" تنظم غدًا المؤتمر الوطني التاسع للجودة    "الأرصاد"سماء صحو إلى غائمة على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية (GCAT)    المكسيكي «زوردو» يوحّد ألقاب الملاكمة للوزن الثقيل المتوسط لWBO وWBA    «الطاقة»: السعودية تؤكد دعمها لمستقبل «المستدامة»    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    بيولي ينتظر الدوليين قبل موقعة القادسية    منتخب هولندا يهزم المجر برباعية ويلحق بالمتأهلين لدور الثمانية في دوري أمم أوروبا    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    الإستشراق والنص الشرعي    المتشدقون المتفيهقون    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    تجاوز الدحيل القطري.. الخليج ينفرد بصدارة الثانية في «آسيوية اليد»    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    «واتساب»يتيح حفظ مسودات الرسائل    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    الابتسام يتغلّب على النصر ويتصدّر دوري ممتاز الطائرة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    ألوان الأرصفة ودلالاتها    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكرى مرور 40 سنة على ثورة 23 يوليو . هكذا قضى الملك فاروق أيامه الأخيرة في مصر قبل الرحيل
نشر في الحياة يوم 20 - 07 - 1992

كان يوم 6 ايار مايو عام 1936 من ايام مصر السعيدة. ففي هذا اليوم وصل الى الاسكندرية من لندن ملك مصر الجديد فاروق الاول ليجلس على عرش اجداده بعد وفاة والده الملك فؤاد الاول في 28 نيسان ابريل 1936. وكان فاروق في ذلك الوقت فتى يافعاً في السادسة عشرة من عمره طويل القامة يتميز بالاناقة والرشاقة وتبدو على وجهه الوسيم سمات البراءة والطيبة.
وعلى رصيف الميناء وقف لفيف من كبار رجالات الدولة والسراي يستقبلون ملك مصر الجديد، وفي مقدمتهم رجل قصير القامة مليء الجسم يبدو في عينيه بريق القوة والذكاء. وكان ذلك الرجل ذو الشخصية القوية المتسمة بالجرأة والدهاء هو علي ماهر باشا رئيس اخر حكومة في عهد الملك فؤاد الاول، والذي هيأته الاقدار ليكون الرائد الاول للملك الشاب فاروق عندما انتهت الوصاية عليه، وتولى سلطاته الدستورية في 29 تموز يوليو 1937 بعد ان بلغ سن الرشد واصبح عمره ثمانية عشر عاماً بالحساب الهجري. ففي 20 تشرين الاول اكتوبر 1937 اصدر فاروق مرسوماً ملكياً بتعيين علي ماهر رئيساً للديوان الملكي، وتسبب ذلك التعيين الذي تم من دون الرجوع الى الحكومة الوفدية التي كان يرأسها وقتئذ مصطفى النحاس زعيم الوفد في حدوث اول خلاف دستوري حاد بين الملك الجديد والحكومة. وسعى علي ماهر الى احتواء الازمة الناتجة عن تعيينه، فقام بترتيب مقابلة بين الملك والنحاس يوم 26 تشرين الاول اكتوبر 1937 وحاول الملك خلالها ان يوضح لرئيس وزرائه ان تعيين علي ماهر ليس اجراء موجهاً ضد الحكومة الوفدية باعتبار ان الملك ورئيس ديوانه فوق الاحزاب، وسيتعاونان دائماً مع الحكومة. ولم يكن علي ماهر في واقع الامر مخلصاً في نواياه بصدد احداث التقارب بين الملك والنحاس، فقد اسهم في افساد العلاقة بين السراي والوفد وسعى للوقيعة بينهما، ويكفي ان يكون اول عمل سياسي له بعد توليه رئاسة الديوان هو تحريض الملك فاروق على اقالة الحكومة النحاسية وان يشجع الملك الشاب، الذي لم يكن نضج بعد سياسياً، على اتباع تلك السياسة التي درج عليها منذ ذلك الحين وسار على نهجها طوال الخمسة عشر عام حتى تموز يوليو عام 1952 وادت في النهاية الى قيام الثورة ضده في 23 تموز يوليو 1952 وتنحيته بعد ثلاثة ايام من قيامها، وكان ذلك قبل 40 سنة.
وفي الصباح الباكر يوم 26 تموز يوليو 1952 وبعد ثلاثة ايام من قيام ثورة الجيش اخترقت مجموعتان مختلطتان من المشاة والمدفعية والمدرعات شوارع الاسكندرية، الاولى بقيادة المقدم حسين الشافعي لحصار قصر المنتزه، والثانية بقيادة العقيد احمد شوقي والمقدم عبدالمنعم امين لحصار قصر رأس التين. فلم تكن قيادة الحركة علمت بعد ان الملك فاروق ترك هو واسرته قصر المنتزه في الخامسة صباح يوم 25 تموز يوليو في سيارتين اخترقتا طريق الكورنيش بسرعة هائلة الى قصر التين، ويبدو ان سبب انتقال الملك واسرته الى قصر رأس التين يرجع الى اعتقاده ان وجوده في هذا القصر يجعله اكثر اماناً على نفسه واسرته اذ ان القصر يقع بجواره معسكر الحرس كما يجاوره الميناء حيث يرسو يخته الخاص المحروسة وبعض سفن البحرية الملكية مما يساعده على مغادرة البلاد بحراً اذا اضطرته الظروف لذلك.
وفي السابعة صباحاً تقدمت قوات من المشاة نحو قصر رأس التين واطلق جنود الحرس الملكي نيرانهم على القوة الزاحفة التي ردت على النيران بالمثل، وبادر ضابط الحرس، بتعليمات من فاروق الى الاتصال بقوات الجيش لايقاف الضرب، واستدعى الملك اللواء عبدالله النجومي كبير الياوران وكلفه بالخروج للسؤال عن سبب ضرب الحصار حول القصر الملكي، وما كاد النجومي يخرج حتى اسرته قوات الجيش وارسل مخفوراً الى معسكر مصطفى باشا مصطفى كامل حالياً. واتصل الملك اثر ذلك بالمستر جيفرسون كافري السفير الاميركي وعلي ماهر رئيس الوزراء ليسرعا بالحضور اليه.
وعندما وصل قائد الحركة الفريق محمد نجيب - كان الملك اصدر مرسوماً ملكياً مساء يوم 24 تموز يوليو بمنحه رتبة الفريق - في التاسعة صباحاً الى مقر الرئاسة ببولكلي بالاسكندرية، حسب الموعد الذي حدده لرئيس الوزراء عقب لقائهما في مساء اليوم السابق - عندما وصل علم من سليمان حافظ وكيل مجلس الدولة ومستشار الرأي لرئاسة مجلس الوزراء ان علي ماهر غير موجود في مكتبه، فقد توجه اثر استنجاد الملك به من فندق سان استفانو الذي كان يقيم فيه رأساً الى قصر رأس التين.
وكان مستر سباركس مستشار السفارة الاميركية بالقاهرة حضر موفداً من السفير الاميركي. وكان سباركس في حالة توتر وانفعال شديدين فعمل محمد نجيب على تهدئته، واوضح له ان قوات الجيش وزعت في الاسكندرية لحماية الامن والحفاظ على ارواح الاجانب وممتلكاتهم، وان بعض قوات الجيش اقتربت من قصر رأس التين فأطلق عليها بعض رجال الحرس الملكي نيرانهم ظناً منهم انها تنوي مهاجمة القصر وان الحادث انتهى بسلام. وانصرف سباركس بعد ان خف اضطرابه وهدأت حدة انفعاله.
ووصل الى مقر الرئاسة في بولكلي بعد فترة وجيزة رئيس الوزراء علي ماهر عقب لقائه مع الملك. ولم يكد علي ماهر يجلس حتى دخل عليه الفريق محمد نجيب القائد العام وبرفقته المقدم طيار جمال سالم والمقدم انور السادات، وقدم اليه بطريقة عسكرية الانذار التالي: "من الفريق اركان الحرب محمد نجيب، باسم الجيش ورجاله الى جلالة الملك فاروق الاول: نظراً لما لاقته البلاد في العهد الاخير من فوضى شاملة عمت جميع المرافق نتيجة سوء تصرفكم وعبثكم بالدستور وامتهانكم لارادة الشعب حتى اصبح كل فرد من افراده لا يطمئن على حياته او ماله او كرامته، ولقد ساءت سمعة مصر بين شعوب العالم من تماديكم في هذا المسلك حتى اصبح الخونة والمرتشون يجدون في ظلكم الحماية والامن والثراء الفاحش والاسراف على حساب الشعب الجائع الفقير. ولقد تجلت آية ذلك في حرب فلسطين وما تبعها من فضائح الاسلحة الفاسدة وما ترتب علىها من محاكمات تعرضت لتدخلكم السافر مما افسد الحقائق وزعزع الثقة في العدالة وساعد الخونة على ترسم هذه الخطى فأثرى من اثرى وفجر من فجر… لذلك فقد فوضني الجيش الممثل لقوة الشعب ان اطلب من جلالتكم التنازل عن العرش لسمو ولي عهدكم الامير احمد فؤاد على ان يتم ذلك في موعد غايته الساعة الثانية عشرة من ظهر اليوم السبت الموافق 29 تموز يوليو 1952، والرابع من ذي القعدة 1371، ومغادرة البلاد قبل الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه، والجيش يحمل جلالتكم كل ما يترتب على عدم النزول على رغبة الشعب من نتائج". وارتجفت شفتا علي ماهر وهو يقرأ الانذار وشحب وجهه بتأثير المفاجأة من جهة ولفرط ما احتواه الانذار من عبارات قاسية ومعان لاذعة من جهة اخرى ولكنه تجلد وقال: "هل قدرتم كل شيء؟" فأجابه محمد نجيب: "نعم" فقال علي ماهر: "زي ما تشوفوا".
وبينما اتجه علي ماهر الى قصر رأس التين ليبلغ انذار الجيش الى الملك عاد محمد نجيب في موكبه العسكري الى مقر قيادته بمعسكر مصطفى باشا مخترقاً شوارع الاسكندرية التي كانت وقتئذ محتشدة بالجماهير والمصطافين على الشاطئ وكان الجميع يقابلون موكب محمد نجيب بعاصفة من الحماسة والتصفيق، واكد المقدم زكريا محيي الدين الذي كان مسؤولاً عن ادارة العمليات لمحمد نجيب، عقب وصوله الى مقر قيادته، ان قوات الجيش في الاسكندرية - كان معظمها تم تحركه من القاهرة الى الاسكندرية يوم 25 تموز يوليو بالسكة الحديدية وبالطريق الصحراوي - على استعداد تام لفرض ارادة الجيش بالقوة في حالة رفض الملك فاروق الانذار.
شروط الملك
في حوالي الساعة العاشرة من صباح يوم 26 تموز يوليو عاد رئيس الوزراء علي ماهر الى قصر رأس التين واجتمع اثر وصوله بالملك فاروق واستغرق الاجتماع نحو نصف ساعة، وقد وجد علي ماهر ان من العسير عليه تسليم انذار الجيش المكتوب الى الملك نظراً الى شدة عباراته وعنف لهجته، ولذا آثر ان يبلغ مضمونه الى فاروق شفاهة، وباسلوب استخدم فيه لياقته وكياسته، ولما طلب الملك منه ابداء رأيه نصحه بالاستجابة لمطالب الجيش والتنازل عن العرش لابنه وولي عهده الطفل احمد فؤاد الثاني استبقاء للعرش في ذريته.
وقد حاول الملك فاروق ان يتظاهر بالشجاعة امام رئيس الوزراء وان يظهر قدرته على المقاومة بما لديه من قوات ما زالت موالىة له، والتي يزيد عددها - في اعتقاده - على ما لدى الثائرين ضده، ولكن علي ماهر اعترض على ذلك، وقال له ان حركة الجيش مؤيدة من الشعب كله، وان تعريض مصر لحرب اهلية سوف يجلب على الوطن الويلات والدمار وقد يعود عليه وعلى اسرته بأوخم العواقب وافدح النكبات.
وبعد نقاش قصير ادرك الملك مدى خطورة الموقف وابدى لرئيس وزرائه موافقته على ما جاء بالانذار، ولما سأله علي ماهر اذا كان يفضل السفر جواً اجابه انه يفضل السفر بحراً على ظهر يخته الخاص المحروسة، وقد ذكر محمد نجيب في الصفحتين 52، 53 من كتابه "كلمتي للتاريخ" ان الملك فاروق وافق على ما ورد بالانذار الموجه اليه مشترطاً الآتي:
1 - ان يصطحب معه زوجته ناريمان وابنه الطفل احمد فؤاد وسائر اولاده.
2 - ان يودع على الصورة التي تليق بملك نزل عن العرش باختياره.
3 - ان تشترك الحكومة في وداعه ممثلة في رئيسها علي ماهر، وكذلك القوات المسلحة ممثلة في قائدها محمد نجيب.
4 - ان ُيمكّن من مقابلة السفير الاميركي جيفرسون كافري قبل رحيله.
5 - ان تقوم قطع الاسطول المصري بحراسة الباخرة التي سيستقلها حتى وصولها الى ايطاليا.
وقد سجل محمد نجيب في مذكراته انه وافق فوراً على كل هذه الطلبات عدا الطلب الاخير الذي عدله لتكون حراسة الاسطول المصري للمحروسة حتى نهاية المياه الاقليمية فقط.
وعقب خضوع الملك للانذار طلبت قوات الجيش التي تحاصر قصر رأس التين من ضباط الحرس الملكي تسليم الايطالي انطون بوللي مدير الشؤون الخصوصية للملك ومحمد حلمي حسين السائق الخاص للملك الذي منحه رتبة عميد بالجيش اللذين ظل الملك متمسكاً ببقائهما الى جانبه حتى النهاية، وقام بعض ضباط الحرس الملكي بتسليمهما الى قوات الجيش التي قامت بالقبض عليهما، وارسالهما تحت الحراسة الى معتقل الكلية الحربية بالقاهرة.
وعندما عاد رئيس الوزراء في حوالي الساعة العاشرة والنصف الى مقر الرياسة ببولكلي اتصل على الفور هاتفياً بالقائد العام محمد نجيب في مقر قيادته بمعسكر مصطفى باشا، ودعاه للحضور اليه في مكتبه، وفي الوقت نفسه عهد علي ماهر الى مستشار الرأي لرياسة مجلس الوزراء سليمان حافظ بصياغة وثيقة تنازل الملك عن العرش، وقد آثر سليمان حافظ الا ينفرد بهذا الامر فاشترك معه القانوني الضليع الدكتور عبدالرزاق السنهوري رئيس مجلس الدولة في اعداد الوثيقة المطلوبة.
وقد استقر رأيهما على ان تصاغ وثيقة التنازل عن العرش في صورة امر ملكي. وبعد ان اعدا الصورة المقترحة توجها بها الى مكتب رئيس الوزراء علي ماهر لعرضها عليه فوجدا عنده بالمكتب القائد العام محمد نجيب وبرفقته المقدمان انور السادات وجمال سالم الذين حضروا الى مقر الرياسة ببولكلي اثر الدعوة التي وجهها علي ماهر الى محمد نجيب عقب لقائه مع الملك كي يحضر اليه، وعرض سليمان حافظ مشروع الامر الملكي على الحاضرين فتمت الموافقة عليه بعد ان اضيفت اليه عبارة اقترحها جمال سالم واقرها السنهوري وسليمان حافظ، وهي عبارة "نزولاً على ارادة الشعب" قبل عبارة النزول عن العرش.
وعقب اقرار الصياغة امر علي ماهر بنسخ الامر الملكي على الورق المعد للمراسيم وطلب من سليمان حافظ التوجه على وجه السرعة الى قصر رأس التين لتوقيع الامر من الملك فاروق قبل الموعد المحدد في الانذار. وقد وعد القائد العام بأنه سيتم الاتصال بقوة الجيش التي تحاصر القصر للسماح لسليمان حافظ بالدخول.
واستقل سليمان حافظ احدى سيارات حرس الوزارات التي توجهت به الى قصر رأس التين، ولكن قوة الجيش التي كانت تحاصر القصر منعته من الدخول لعدم وصول اذن القيادة بدخوله القصر، وبعد ان امضى حوالى 20 دقيقة في الانتظار جاء المقدم انور السادات في عربة جيب وامر الجنود بإفساح الطريق لسليمان حافظ معتذراً له عن عدم وصول امر القيادة الى القوة التي تحاصر القصر بسبب عطل مفاجئ في جهاز اللاسلكي.
وعندما دخل سليمان حافظ الى ساحة القصر الداخلية قاده ضابط من الحرس الملكي الى مبنى انيق استقبله على بابه العميد احمد كامل قائد بوليس القصور الملكية وادخله الى صالة فسيحة مستديرة في وسطها منضدة كبيرة من الرخام الاسود المموه باللون الابيض واجلسه على احد المقاعد الوثيرة، وبعد ان غاب احمد كامل قليلاً في الداخل عاد الى سليمان حافظ واخبره ان الملك فاروق قادم لمقابلته، وقال ان للملك امنية يتمنى ان تتحقق قبل رحيله، فقد اعتقل رجال الجيش انطون بوللي وحلمي حسين عند خروجهما من القصر صباح ذلك اليوم، ونظراً لما يكنه الملك لبوللي من اعزاز بسبب ملازمته له منذ طفولته فسوف يسره ان يتوسط سليمان حافظ للسماح لبوللي ولحلمي حسين - ان امكن - بالرحيل معه في ذلك اليوم واذا لم يتيسر رحيلهما معه فهو يرجو على الاقل الافراج عنهما.
وبعد حوالي ربع ساعة اقبل الملك فاروق الى الصالة وهو يرتدي اللباس الصيفي للقائد الاعلى للقوات البحرية وقصد الى المنضدة التي في وسط الصالة فنهض سليمان حافظ وتقدم نحوه حيث صافحه واخرج وثيقة التنازل من غلافها وقدمها للملك وكان نص وثيقة التنازل كما يلي: "امر ملكي رقم 65 لسنة 1952 - نحن فاروق الاول ملك مصر والسودان - لما كنا نتطلب الخير دائماً لامتنا ونبتغي سعادتها ورقيها، ولما كنا نرغب رغبة اكيدة في تجنيب البلاد المصاعب التي تواجهها في هذه الظروف الدقيقة، ونزولاً على ارادة الشعب قررنا النزول عن العرش لولي عهدنا الامير احمد فؤاد واصدرنا امرنا بهذا الى حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء للعمل بمقتضاه - صدر بقصر رأس التين في 4 من ذي القعدة سنة 1371 - 26 تموز يوليو 1952".
وتناول الملك الوثيقة وسأل سليمان حافظ عما اذا كانت محكمة الوضع من الناحية القانونية فقال له سليمان حافظ "نعم" وبعد ان قرأ الملك الوثيقة سأل سليمان حافظ عن اسباب النزول عن العرش فقال له: انه قد تم استلهامها من مقدمة الدستور.
وقد ذكر سليمان حافظ في التقرير الرسمي الذي رفعه الى رئيس الوزراء علي ماهر بشأن واقعة تنازل الملك فاروق عن العرش ان الملك كان يبدو هادئاً ولكنه لاحظ انه كان في حالة انفعال وكان يعمل جهده للسيطرة عليه. وقد وصف سليمان حافظ بدقة في تقريره اللحظات الحرجة لواقعة تنازل الملك عن العرش فقال: "عاد الملك الى قراءة الوثيقة مرة اخرى ثم تناول قلماً من جيبه وقرأها بعد ذلك كلمة كلمة وقال: الا يمكن اضافة كلمة - وإرادتنا - بعد عبارة - ونزولاً على ارادة الشعب؟ - قلت: لقد صغنا نزولكم عن العرش في صورة امر ملكي - قال: تريد ان تقول ان الامر الملكي ينطوي على هذا المعنى - قلت: نعم قال: فليس اذن ما يمنع من اضافة تلك الكلمة - فقلت: اننا لم نصل الى الصيغة المعروضة عليك الا بصعوبة - قال في اهتمام: اذن فقد كانوا يريدون مني ان اوقع ورقة اخرى… قل لي يا بك ماذا كان فيها؟ قلت: لم اطلع عليها، قال: انت تمسك عن ذكر ما فيها حتى لا تجرح شعوري لكني اعدك الا اتأثر مما اسمع فأكدت له بشرفي انني لم اطلع عليها، فوقع الامر الملكي ثم قال: لعلك تقدر الظروف فتلتمس لي العذر في ان التوقيع لم يكن كما اود ولذا سأوقع مرة اخرى". ثم وقع في اعلى الوثيقة، واقترب العميد احمد كامل من سليمان حافظ وقال للملك على مسمع منه انه حدثه في شأن بوللي وحلمي حسين، فكرر الملك رغبته في الافراج عنهما باهتمام شديد، ووعده سليمان حافظ بالسعي لدى رئيس الوزراء ولدى القائد العام لتحقيق رغبته.. وصافح الملك سليمان حافظ الذي لم يلبث ان غادر قصر رأس التين عائداً الى مقر الرياسة ببولكلي حيث سلم الامر الملكي موقعاً عليها من الملك السابق الى علي ماهر وابلغه برغبة الملك بشأن بوللي وحلمي حسين، فأوضح له علي ماهر ان هذا الطلب عسير التحقيق اذ ان رجال الجيش لن يوافقوا عليه، وذهب سليمان حافظ وفاء بوعده لفاروق الى معسكر مصطفى باشا حيث عرض على محمد نجيب وضباطه رغبة الملك الاخيرة في اصطحاب انطون بوللي معه ولكنهم رفضوا هذا الطلب
اللقاء الاخير مع محمد نجيب
كان محمد نجيب وعد بالاشتراك في وداع الملك فاروق عندما يغادر قصر رأس التين ليستقل الباخرة المحروسة، ولذا غادر مقر قيادته في معسكر مصطفى باشا معسكر مصطفى كامل فيما بعد في وقت مناسب للوصول الى القصر الملكي، ولكن تجمعات اهالي الاسكندرية وازدحامهم في الشوارع لتحية قائد حركة الجيش ادت الى تعطيل وصوله في الموعد المحدد، كما ان سائق سيارته ضل الطريق فبدلا من التوجه الى الميناء الملكي بقصر رأس التين توجه الى ميناء خفر السواحل خلف القصر ولما عاد الى الميناء الصحيح كان الملك توجه الى المحروسة منذ اربع دقائق في الساعة السادسة تماماً كما جاء في الانذار الموجه اليه من الجيش. وقد كانت لحظات مغادرة الملك لقصر رأس التين شديدة التأثير على المحيطين به، سواء اولئك الذين عملوا معه او الذين حضروا لوداعه في لحظاته الاخيرة على ارض مصر، وكان من ضمن المودعين السيدة اصيلة صادق والدة الملكة السابقة ناريمان واثنتان من شقيقات فاروق هما فوزية وزوجها اسماعيل شيرين وفايزة وزوجها محمد علي رؤوف، كما كان من ضمنهم رئيس الوزراء علي ماهر والسفير الاميركي جيفرسون كافري وبرفقته مستشار السفارة الاميركية وبعض ضباط الياوران والحرس الملكي.
وقبل الموعد المحدد للرحيل بنصف ساعة نزلت الملكة ناريمان والاميرات الصغيرات فريال ونادية وفوزية من زوجة فاروق السابقة فريدة والطفل الصغير احمد فؤاد ولي العهد تحمله مربيته الانكليزية وذهبن الى اليخت الملكي "المحروسة" مباشرة.
وبعد قليل ظهر الملك السابق فاروق وهو يرتدي ثياب القائد الاعلى للقوات البحرية وهبط سلم القصر وهو ينظر حوله نظرات زائغة، وعزفت الموسيقى السلام الملكي وادى حرس الشرف التحية العسكرية ثم انزل العلم الملكي من فوق سارية القصر وطواه احد ضباط الحرس الملكي وسلمه الى فاروق الذي وضعه مطوياً على ذراعه، ونظر فاروق الى ساعته وقال مخاطباً مودعيه: "الآن يجب ان اذهب فالساعة اوشكت على السادسة تماماً".
وصافح الملك مودعيه بينما كان ضباط الحرس الملكي وخدم القصر يجهشون بالبكاء، وكان رئيس الوزراء علي ماهر يبكي بشدة.
وقال السفير الاميركي لفاروق بالانكليزية وقد اغرورقت عيناه بالدموع: "حظ سعيد يا صاحب الجلالة". وعندما انتقل فاروق الى اليخت "المحروسة" وبدأ اليخت في التحرك من الميناء اطلقت المدفعية الساحلية 21 طلقة تحية للملك السابق وانتهى الوداع الرسمي في غاية الوقار، ولم يتمالك السفير الاميركي نفسه فأعلن اعجابه بهذه الروح المتحضرة المتأصلة في المصريين والتي تجلت في اروع مظاهرها في وداع الملك السابق.
وعندما وصل محمد نجيب متأخراً اربع دقائق عن موعد رحيل فاروق كانت اثار الدموع ما زالت تلمع في عيني علي ماهر وفي عيون معظم المودعين، وسأله علي ماهر عما ينوي عمله فقال له: انه سيذهب الى الملك السابق في الباخرة "المحروسة" لوداعه وفاء لوعده، واستقل محمد نجيب لنشاً عسكرياً وبرفقته العقيد احمد شوقي والمقدم حسين الشافعي والمقدم طيار جمال سالم والسكرتير العسكري النقيب اسماعيل فريد، ودار اللنش حول المحروسة دورة كاملة بما يعتبر تحية في التقاليد البحرية، ولكن محمد نجيب ذكر لقائد اللنش انه يريد الصعود على ظهر "المحروسة".
وكانت "المحروسة" وقتئذ راسية في عرض البحر انتظاراً لوصول بعض حقائب فاروق التي تأخر وصولها والتي كان احد اللنشات يتولى عملية نقلها من ميناء القصر الى المحروسة. وحينما التصق اللنش "بالمحروسة" صعد محمد نجيب على ظهرها يتبعه الضباط الاربعة، وكان الملك السابق ينتظرهم، على مسافة منه الى الخلف وقفت بناته الاميرات الثلاث، ولم تحضر ناريمان هذا اللقاء التاريخي ربما لفرط تأثرها من رهبة الموقف.
وادى القائد العام محمد نجيب التحية العسكرية للملك فرد عليه بالطريقة نفسها ثم صافحه بيده ومضت فترة سكون.
وبعد فترة من الصمت الثقيل كسر محمد نجيب حاجز الصمت وخاطب الملك: "عندما اقتحمت الدبابات البريطانية في 4 شباط فبراير 1942 قصرك كنت انا الضابط الوحيد الذي قدم استقالته احتجاجاً على هذا الاعتداء الشنيع على استقلال البلاد… فعلت هذا باسم الجيش كله وعبرت به عن شعور هؤلاء الضباط الذين قاموا بالحركة اليوم… وفي هذا ما يدل على مبلغ ما كان من ولائنا نحن رجال الحركة لك… اما الآن فقط تطورت الاحوال وانقلبنا نحن حماتك الى ثوار عليك نتيجة اعمالك وتصرفات من حولك". وفوجئ فاروق بعبارات محمد نجيب فرد عليه قائلاً: "على كل حال انني اتمنى للجيش كل خير واني اوصيك خيراً بالجيش المصري فهو جيش ابائي واجدادي… ان مأموريتك شاقة وصعبة". ورد محمد نجيب قائلاً: "اني اعرف ان الكولونيل سيف سليمان باشا الفرنساوي هو الذي بدأ تكوين الجيش المصري".
ولاحظ فاروق ان المقدم جمال سالم يحمل عصاه وهو في حضرته فتوقف عن الحديث واشار له قائلاً: "ارم عصاك"، وحاول جمال سالم ان يعترض، ولكن محمد نجيب منعه من ذلك، فألقى عصاه ولكنه ثنى ركبته ووقف وقفة تدل على عدم المبالاة، وبعد ان ادى محمد نجيب ورفاقه التحية العسكرية صافحهم فاروق مودعاً وقال لمحمد نجيب "انتم سبقتوني في اللي عملتوه… اللي انتم عملتوه دلوقتي كنت انا راح اعمله" ثم استأذن الملك من القائد العام في تأجيل رحيل "المحروسة" نصف ساعة حتى تصل بقية حقائبه فوافق محمد نجيب بلا تردد، وعندما عاد اللنش الى ميناء قصر التين كان علي ماهر ما زال في انتظار القائد العام ورفاقه، وكان رئيس الوزراء ما زال متأثراً من موقف الوداع الاليم.
وكانت الاوامر التي صدرت من القيادة العامة الى قائد "المحروسة" ان يكون تحت امرة فاروق حتى يصل الى الجهة التي يرغب في الذهاب اليها ثم يعود بالباخرة ثانية الى الاسكندرية، ومن مفارقات القدر ان الباخرة "المحروسة" هي بذاتها التي اقلت الخديوي اسماعيل جد فاروق الى ميناء نابولي بإيطاليا بعد خلعه عن العرش عام 1879، وهكذا عادت بعد 73 عاماً لتقل حفيده الى الميناء الايطالي نفسه ليقضي بقية حياته في المنفى. وكانت عملية اخراج الملك من البلاد تمت في سرية تامة عن الجماهير التي كانت تشعر ان هناك شيئاً ما في الجو ولكنها لم تكن تعرف بعد اسرار هذه الساعة الخطيرة في تاريخ مصر.
وكانت الاذاعة مهدت لذلك منذ الخامسة بإذاعة بيانات باسم القائد العام تدعو الناس الى التزام الهدوء والنظام وضبط الاعصاب، وفي الساعة السادسة والنصف مساء يوم 26 تموز يوليو 1952 اذيع بيان عزل فاروق عن العرش ورحيله عن البلاد صادراً من القائد العام محمد نجيب، وكانت الفقرة الاخيرة منه كما يلي: "ان نجاحنا الى الآن في قضية البلاد يعود اولاً واخيراً الى تضافركم معنا بقلوبكم وتنفيذكم لتعليماتنا واخلادكم الى الهدوء والسكينة، واني اعلن ان الفرح قد يفيض عن صدوركم لهذا النبأ، غير انني اتوسل اليكم ان تستمروا في التزام الهدوء حتى نستطيع مواصلة السير بقضيتكم في امان وفقنا الله لما فيه خيركم ورفاهيتكم".
وفي الساعة الثامنة مساء - اي بعد رحيل الملك بساعتين - اذاع محمد نجيب بنفسه على الشعب البيان التالي: "ان ما نسب الي من عمل مجيد ان هو في الحقيقة الا مجهود وتضحيات لرجال الجيش البواسل من جنود وضباط ولم يكن لي الا شرف قيادتهم" وجاء ضمن البيان ما يلي: "قد امر جلالة الملك السابق فاروق عندما طلب الجيش اسناد منصب القيادة العامة الي بأن ينعم عليّ برتبة الفريق بدرجة الوزير فلم اعلن رفضها حتى لا يعرقل ذلك غرضاً اسمى وهو تنازل الملك عن العرش… والآن وقد انتهت الامور فإني اعلن تنازلي عن هذه الرتبة قانعاً برتبة اللواء مراعاة لحالة الدولة المالية".
وكانت الباخرة "المحروسة" تحركت الى عرض البحر بعد غروب الشمس، وقال الذين رافقوا فاروق في رحلته انه دخل عقب تحركها مباشرة الى حجرته واخذ يبكي بكاء حاراً طويلاً وبصوت مسموع، ومع غروب شمس يوم 26 تموز يوليو عام 52 غرب حكم آخر حاكم من اسرة محمد علي في مصر.
* مؤرخ عسكري وخبير استراتيجي مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.