بعد الانتصار الذي حققه بيل كلينتون على جيري براون في الانتخابات التمهيدية التي جرت في ولاية كاليفورنيا، أصبح كلينتون مطمئنا الآن إلى أنه سيضمن ترشيح الحزب الديموقراطي له رسميا في تموز يوليو المقبل. لكن هذا كل ما يمكن لكلينتون أن يطمئن إليه. فقد ظهر على الساحة روس بيرو، صاحب البلايين من ولاية تكساس الذي لم يخض أية انتخابات تمهيدية في أية ولاية لأنه ليس مرشحا رسميا حتى الآن عن انتخابات الرئاسة. إلا أن استطلاعات الرأي العام تبين انه سينتزع أصواتا من كلينتون وبراون أكثر مما سينتزع من الرئيس بوش فيما لو رشح نفسه رسميا في معركة الوصول إلى البيت الأبيض. وقد أقدم بيرو على خطوة تعكس عزمه على إعلان ترشيحه الرسمي، إذ اختار اثنين من السياسيين البارعين لإدارة حملته الانتخابية: الأول هو الديموقراطي هاميلتون جوردان الذي قاد حملة جيمي كارتر الانتخابية عام 1986 مما أدى إلى فوزه بالرئاسة ضد خصمه جيرالد فورد، والثاني هو الجمهوري ايد رولينز الذي أدار بنجاح عام 1984 حملة الرئيس رونالد ريغان. وتردد ان بيرو دفع لكل من جوردان ورولينز مبلغ خمسة ملايين دولار. وهكذا فان الحزبين الرئيسيين الجمهوري والديموقراطي سيعقدان مؤتمريهما الرسميين الشهر المقبل ليسمي كل منهما مرشحه، وعندها ستبدأ "الحملة الحقيقية" لانتخابات تشرين الثاني نوفمبر وتستمر أربعة أشهر. وما لم تنشأ في آخر لحظة أو فضيحة سياسية غير متوقعة فان الحزب الجمهوري سيثبت ترشيح الرئيس بوش. وإذا افترضنا - مثلما تفترض كل وسائل الإعلان الأميركية - أن بيرو سيحصل على ما يكفي من تواقيع الناخبين في جميع الولايات الأميركية فانه سيخوض الانتخابات كمرشح مستقل أو زعيم لحزب جديد يمكنه أن يعلن عن تأسيسه. وسوف يتوجه براون إلى مؤتمر الحزب الديموقراطي معتمدا على تأييد بضع ولايات، لا سيما ولاية كاليفورنيا، إذا انه فاز فيها بنسبة أربعين في المئة من الأصوات في الانتخابات التمهيدية مقابل نسبة أربعة وأربعين في المئة حصل عليها كلينتون. وكان أعلن انه سينسحب من المعركة إذا لبى كلينتون شروطا معينة يرفضها كلينتون. ولما كان من غير المحتمل أن يعرض كلينتون على براون بطاقة نائب الرئيس - ومن غير المحتمل أيضا أن يقبل براون العرض - فان من المنطقي أن نفترض في هذه المرحلة أن أربعة مرشحين سيخوضون معركة انتخابات الرئاسة في شهر تشرين الثاني نوفمبر المقبل، مما يعني أن براون وبيرو سينتزعان أصواتا من كلينتون، كما أن بيرو سينتزع أصواتا من مؤيدي بوش أيضا. ومع أن من السابق لأوانه الحكم على ما سيحدث فان فرص بوش لا تزال أفضل من غيره، على رغم أن استطلاعات الرأي العام الأخيرة تظهر بوضوح تدني شعبية الرئيس الأميركي. كما ان هذه الاستطلاعات تبين أن بيرو يتفوق على الجميع في بعض الولايات، فمن السليم أن نفترض أيضا انه في مركز قوي. وقد بدأ الجمهوريون والديموقراطيون يشنون حملات قاسية على بيرو ويطلقون عليه ألقابا مختلفة للتقليل من شانه كلقب "الديكتاتور الصغير" أو "الوحش". مشاكل بوش ويكافح بوش الآن لكي يظل في الصدارة. إلا أنه يفتقر إلى التأييد الشعبي الواسع في مجال خبرته الرئيسي ألا وهو السياسة الخارجية، إذ أن السياسة الخارجية أقل أهمية الآن مما كانت عليه في أية انتخابات منذ عام 1944، نظرا إلى نهاية الحرب الباردة من جهة، والى "تناسي" الأميركيين، تدريجيا، حرب الخليج، وهي الحرب التي أدت إلى إنهاء احتلال العراق للكويت. واللافت للانتباه أن كلينتون وبراون وبيرو عارضوا حرب الخليج الثانية منذ البداية. كذلك يواجه بوش تذمرا شعبيا في القضايا الرئيسية التي يرجح أن تهيمن على الحملة الانتخابية وهي: الصحة والبطالة والتعليم والجريمة والبيئة. فأميركا هي الدولة الوحيدة في العالم الصناعي التي ليس فيها تأمين صحي. كما أن مستويات التعليم الابتدائي والثانوي فيها من أضعف المستويات في العالم المتقدم - مع أن المستويات الجامعية من أعلى المستويات. كذلك أدى عدم وجود قوانين فعلية للتحكم بحمل السلاح، وعدم رغبة الحزبين في فرض قوانين خاصة لتجارة المخدرات، إلى أن تصبح الولاياتالمتحدة الوجهة التي يقصدها الطامحون في الجريمة من مختلف أرجاء العالم، لولا الجهود التي يبذلها مكتب التحقيقات الاتحادي إف. بي. آي. في ملاحقة الجرائم التي تتجاوز في نطاقها ولاية واحدة، وبعض الجرائم القليلة الأخرى. ومع أن معظم الولايات تطبق عقوبة الإعدام ما يثني عزم المجرمين عن ارتكاب الجرائم، فان الدولة تتحمل تكاليف باهظة للإبقاء على نسبة واحد في المئة من مجموع السكان في السجون. إذ أن كلفة الإبقاء على سجين داخل السجن تزيد على كلفة تأمين تعويض مالي للعاطل عن العمل بنسبة الضعف. كذلك يعاني بوش من نقطة ضعف أخرى لأن نائبه دان كويل لا يعتبر من ساسة الوزن الثقيل. والمعروف أن الولاياتالمتحدة هي واحدة من دولتين فقط يتولى فيهما نائب الرئيس منصب الرئاسة لباقي فترة الحكم إذا عجز الرئيس عن مواصلة مهامه، مما يعني وجود احتمال تولي كويل الرئاسة. إذ أن بوش سيبلغ التاسعة والستين من عمره في العام المقبل والثالثة والسبعين عندما ينهي فترة ولايته الثانية، إذ فاز. وبذا سيكون أكبر الرؤساء الأميركيين سنا في التاريخ الأميركي بعد سلفه رونالد ريغان. ولا شك في أن استراتيجية كلينتون لاختيار نائبه ستنطوي على اختيار مرشح ذي خبرة سياسية كبيرة. وفي هذا الصدد ترددت أسماء من بينها اسم السيناتور جون روكفلر والجنرال كولن باول رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة. أما بيرو فلا يعرف أحد حتى الآن من الذي سيختاره نائبا له، مع أن في حكم المؤكد أنه سيميل إلى اختيار أحد الأعضاء المرموقين في مجلس الشيوخ أو أحد حكام الولايات المعروفين. وهناك، تكهن في بعض الدوائر في واشنطن مفاده أن بيرو ربما يختار الرئيس السابق جيمي كارتر الذي يتمتع هذه الأيام بشعبية تفوق شعبية كل من بوش وكلينتون. كما تتردد أنباء أن بيرو قد يختار نائبة للرئيس هي جين كير كباتريك سفيرة الولاياتالمتحدة السابقة لدى الأممالمتحدة والمعروفة بتأييدها الشديد لإسرائيل. وهناك احتمال أن يخضع بوش لضغط قيادي حزبه ويتخلى عن كويل ليختار شخصا آخر. ولما كان بوش أعلن انه يود أن يرى وزير الخارجية جيمس بيكر مرشحا للرئاسة عام 1997 فانه ليس من المستبعد أن يختاره الآن نائبا له. ومن الطريف أن اليابان أعلنت أنها سترحب بكويل سفيرا لأميركا في طوكيو إذا فقد منصبه في بداية العام المقبل. ولكن السفارة الأميركية في لندن تظل احتمالا آخرا أيضا. ومن المعروف أن الرئيس في فترة ولايته الثانية والأخيرة يجد حرية أكبر في تنفيذ سياساته مما يجد في فترة الولاية الأولى. ولهذا فان إعادة انتخاب بوش ستعطي أفضل فرصة لعملية السلام في الشرق الأوسط، وتحقيق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة وظهور كيان فلسطيني، وهو أمر بدأ الأميركيون يقبلون حتميته مع ظهور العديد من الدول المستقلة في الاتحاد السوفياتي السابق. ومن المرجح أن يتابع براون العمل في هذا المجال بسرعة. إلا أن الديبلوماسيين يعتبرونه ألعوبة في أيدي اللوبي الإسرائيلي الذي يقدم جزءا مهما من الأموال اللازمة لتمويل حملته. أما بيرو فقد تحدث عن إنفاق 250 مليون دولار من أمواله الخاصة على حملته الانتخابية، ولهذا فهو ليس بحاجة إلى أية مساهمات مالية إطلاقا. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل الكثيرين من الأميركيين يعتبرونه غير خاضع لتأثير "أصحاب المصالح". ومع أن الأصوات اليهودية مهمة في عدد من الدوائر الانتخابية لمجلس النواب، غير أنها ليست ذات شأن على الصعيد الوطني ككل. فبعد أن كانت اليهود من السكان 2.6 في المئة أصبحت الآن تبعا لما تقوله لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية أيباك - اللوبي الإسرائيلي في أميركا - لا تتجاوز 1.9 في المئة. والسبب في هذا الانخفاض هو الزيادة الكبيرة في أعداد المهاجرين من غير اليهود الذين وصلوا من أميركا اللاتينية وآسيا خلال العقود القليلة الأخيرة. ولكن على رغم أن بيرو ليس بحاجة إلى الدعم اليهودي فان المدير التنفيذي لأيباك توماس داين يقول انه لن يصادف أية مشكلة إذا فاز بيرو. وكان بيرو قال في مقابلة إذاعية أنه سيلغي جميع الاعتراضات الأميركية على بناء المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة. وهو ينتهز كل فرصة ليصف إسرائيل بأنها "صديقتنا". ومع أن بيرو كان اعترض على حرب الخليج فانه لا يعارض استخدام القوة أو "ديبلوماسية البندقية" لحل الصراعات. ولبيرو وجهة نظر "غير تقليدية" حول بعض القضايا. فهو، مثلا، قال في إحدى المناسبات انه كان ممكنا حل "المشكلة" الناتجة عن احتلال العراق للكويت عن طريق إرسال "فرقة كوماندوس" أميركية، "وربما بمساعدة إسرائيلية"، لاغتيال الرئيس العراقي صدام حسين. وسبق لبيرو أن اقترح على ريغان إرسال "فرقة كوماندوس" إلى لبنان لإنقاذ الرهائن الأميركيين المحتجزين هناك بالقوة. ومع أن اللوبي اليهودي يؤيد الآن كلينتون فانه من غير المستبعد أن يتحول إلى تأييد بيرو إذا بدا أن فرصته لإلحاق الهزيمة بالرئيس بوش أفضل. بيكر رئيسا... نظريا؟ وهناك نقطة مهمة في هذه الانتخابات، إذا ما خاضها أربعة مرشحين أو حتى ثلاثة. فإذا فاز كل واحد منهم بنسبة عشرة في المئة أو اكثر من الأصوات فان النظام الانتخابي سيواجه مشكلات معقدة للغاية. فالانتخابات لا تتقرر ببساطة تبعا لعدد الأصوات التي يحصل عليها كل مرشح. ففي عام 1960، لو صوت ستون ألفا آخرون، في مختلف أنحاء البلاد، لصالح نيكسون بدلا من كينيدي، لنال نيكسون الأغلبية الشعبية. ولكن كينيدي كان سيظل الفائز بالرئاسة في أي حال لأنه حصل على عدد اكبر من المقاعد مما حصل عليه نيكسون. ولا يزال اختيار الرئيس يستند إلى نظام المجمع الانتخابي. إذ أن عدد أصوات كل ولاية في هذا المجمع يعتمد على نوابها الذين ينتخبون إلى واشنطن، ويتراوح العدد بين اثنين من أعضاء مجلس الشيوخ وواحد من مجلس النواب، كما هو الحال في ولاية نورث داكوتا، إلى اثنين وخمسين عن ولاية كاليفورنيا تبعا لحجم السكان. لكن هؤلاء النواب والشيوخ ليسوا هم الذين يشكلون المجمع الانتخابي. إذ أن المجمع يتألف من 538 رجلا وامرأة ينتخبهم الحزب الذي يفوز في كل ولاية. وباختصار إذا فاز كلينتون بالأصوات الشعبية في أنديانا فان أصوات ممثلي الولاية في المجمع الانتخابي يمكن أن يغير رأيه بصفة فردية. وقد تؤدي انتخابات هذا العام إلى تعديل على القانون الانتخابي من أجل إلغاء نظام المجمع الانتخابي. فلكي يفوز مرشح بمنصب الرئاسة يجب أن يحصل على أغلبية عدد أصوات المجمع أي 270 صوتا. فإذا انتزع بيرو ما يكفي من الأصوات من كلينتون ليتيح الفرصة أمام براون بالفوز في كاليفورنيا فان براون سيحصل على 54 صوتا من المجمع أي على نسبة العشرة في المئة. وإذا فاز بيرو في ولاية، تكساس، فانه سيحصل على 32. وهذه ليست سوى أمثلة عشوائية، ولكنها تظهر النقطة المهمة وهي أنه سيكون من المستحيل في انتخابات يخوضها ثلاثة - أو أربعة مرشحين، على بوش أو كلينتون الفوز في المجمع الانتخابي - وهي حالة من الاستعصاء لم تحدث منذ عام 1824. عندها يمكن أن يعرض بيرو أو براون أصواته لمن يتصدر القائمة، على افتراض أن بوش أو كلينتون تصدر قائمة الأصوات. ومعنى ذلك أن أحدهما سيفوز مقابل تقديم تنازلات سياسية إلى بيرو وبراون. أما إذا لم يحصل ذلك فان مجلس النواب هو الذي يختار الرئيس. وعندها يتحول المجلس إلى مجمع انتخابي يكون فيه للحزب الذي يفوز في الولاية صوت واحد. وعندها تصبح الأغلبية المطلوبة 26 من مجموع خمسين ولاية. أما إذا لم يحصل أي مرشح على هذه الأغلبية فان مجلس الشيوخ يختار في تلك الحالة نائبا للرئيس من الاثنين ويصبح الفائز منهما "رئيسا بالوكالة" إلى أن تجري انتخابات جديدة. وفي حالة تساوي الأصوات في مجلس الشيوخ يصبح رئيس مجلس النواب خلفا لبوش أو رئيسا بالوكالة. أما إذا رفض قبول ذلك فان أكبر أعضاء مجلس الشيوخ سنا هو الذي يتولى المنصب - وهو بالمناسبة ستروم تيرموند الذي سيبلغ التسعين من عمره هذا العام. وإذا ما نصحه طبيبه بعدم قبول المنصب فان الذي سيتولاه عندئذ هو وزير الخارجية. وهذا فان جيمس بيكر يمكن أن يصبح الرئيس الأميركي الجديد - ولو من ناحية نظرية على الأقل.