* أخطأنا بغزو افغانستان ولم نحقق شيئاً هناك * رفسنجاني مختلف كلياً عن الخميني وعلاقاتنا مع ايران جيدة يروي الجنرال فاديم اليكسييفيتش كيربيشنكو، كبير رجال المخابرات السوفياتية والروسية في الشرق الاوسط، في هذه الحلقة الرابعة من حواره الطويل مع "الوسط"، ذكرياته عن اليمن وليبيا وافغانستان. ويتناول في حديثه العقيد معمر القذافي والرئيس اليمني الجنوبي السابق علي ناصر محمد. ويعترف كيربيشنكو، في حواره هذا، بأن غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان كان خطأ، وان السوفيات فشلوا تماماً في افغانستان. كما يتحدث عن ايران والخميني ورفسنجاني وامور اخرى مثيرة ومهمة. وهذه هي المرة الاولى التي يتحدث فيها كيربيشنكو الى اية مطبوعة عربية او روسية او اجنبية. وقد امضى كيربيشنكو سنوات طويلة في مصر والعالم العربي قبل ان يصبح عام 1974 ولمدة 18 عاماً النائب الاول لرئيس المخابرات الخارجية في الاتحاد السوفياتي سابقاً ومسؤولاً خلال هذه الفترة عن نشاط هذه المخابرات في الشرق الاوسط. وهو يشغل حالياً منصب كبير مستشاري يفغيني بريماكوف مدير جهاز المخابرات الخارجية في روسيا. وفي ما يأتي الحلقة الرابعة من الحوار مع كبير رجال المخابرات السوفياتية والروسية في الشرق الاوسط: بدأ كيربيشنكو حواره بالحديث عن ايران: "اهتمامنا بايران كبير، سواء في السابق - حين كان هناك اتحاد سوفياتي - او الآن. وقد بلغ اهتمامنا بها ذروته في اطار القضية الافغانية وتورط القوات السوفياتية في افغانستان. زرت افغانستان مرات عدة، لكنني لم ازر ايران ابداً الا انني تلقيت اطناناً من التقارير عن تلك البلاد. وأعتقد انك تعرف عن المشكلات التي واجهت المخابرات السوفياتية ومحطة "كي. جي. بي" في طهران، وهي مشكلات استمرت بعد ان أبقى النظام الجديد على جهاز المخابرات الايرانية سافاك. ومن الطبيعي ان تكون شخصية آية الله الخميني مثيرة جداً للاهتمام. اذ ان شخصيته في حد ذاتها حدث، كان على درجة استثنائية من القوة، كما ان ظهوره على المسرح كان حدثاً تاريخياً. كان التذمر الشعبي من نظام الشاه في تعاظم والبلاد تزداد فقراً. وسأكشف لك سراً. لقد كان مركز المخابرات السوفياتية في طهران هو الذي ابلغ القيادة السوفياتية، قبل الديبلوماسيين العاملين في سفارتنا في العاصمة الايرانية، بأن نظام الشاه سينهار. حين عاد الخميني الى طهران بعد سقوط الشاه، ايقظ المشاعر والأحاسيس الوطنية لدى الجماهير، كما دمر الطبقات المحظية، لا سيما طبقة الضباط واستخدم المال الذي توفر له من موازنة الشاه العسكرية القديمة لشراء المواد الغذائية مما ساعد على تقوية سلطة الحكومة الاسلامية في تلك المرحلة. كان للخميني نوع من السلطة الغيبية. وكان بدء العراق الحرب مع ايران عام 1980 اشبه بهدية للنظام الايراني لأن هذه الخطوة مكنت الخميني من ايقاظ المشاعر الوطنية وتحويل الاهتمام عن الظروف الاقتصادية الصعبة داخل البلاد. والخميني كاقتصادي لم يكن يعرف شيئاً، اذ كانت لديه بعض الافكار المبهمة الغامضة، التي لم يكن وراءها شيء. وكان تدخله في الاقتصاد كارثة. اذ طبق مثلاً مجانية المواصلات العامة مما ادى الى انهيار نظام المواصلات. وواضح من التقارير التي تصلني من طهران ان هاشمي رفسنجاني الرئيس الايراني الحالي رجل مختلف كلياً عن الخميني فهو يفهم الاقتصاديات ويفهم العلم. وقد عادت علاقاتنا مع طهران الى طبيعتها وهي علاقات جيدة. لم يعد هناك تطرف. ولكن من الصعب جداً على نظام اصولي ان ينسجم ويتلاءم مع العالم الحديث. وأنت تقول ان الاصولية ليست ايديولوجية جديدة وإنما هي قديمة. ولكن لا احد يعرف ما هي لأنها متفاوتة من بلد الى آخر. والاصولية تخدم اهدافاً مختلفة في اقطار مختلفة. أنظر مثلاً الى الجزائر وليبيا. فالمسألة الدينية في الجزائر كانت وليدة البطالة لا سيما بين الشباب الذين يعارضون البورجوازيين الاثرياء". لماذا فشلت الشيوعية عندنا؟ وسألته فجأة: - وماذا عن الاشتراكية؟ لماذا نجحت في السويد مثلاً وفشلت في الاتحاد السوفياتي وأدت الى انهيار هذه القوة العظمى؟ اجاب: "في وسع المرء ان يقارن بين نجاح الاشتراكية في السويد وفشلها في الاتحاد السوفياتي. فنقاط البدء وظروف البداية كانت مختلفة: اذ ان السويد كانت دولة رأسمالية على درجة عالية من التطور وفيها امكانات اقتصادية كبرى. اما هنا فقد كنا بشكل عام فلاحين فقراء. ولم تلجأ السويد اطلاقاً الى اية مركزية بينما كانت المركزية المتزمتة التي تفتقر الى المرونة احد اسباب فشل الشيوعية والاشتراكية في الاتحاد السوفياتي. ويبدو لي احياناً ان بعض الانظمة الاصولية تريد تقليد اسوأ اخطائنا. ولو كانت لدينا قيادة ابعد نظراً وأكثر حكمة وطبقت الاقتصاد المختلط لكان نموذجنا اكثر ملاءمة الآن. وأنت تسأل هل اراد خروتشوف وكوسيغين فعل ذلك؟ نعم. ولكن لو طبقنا اصلاحات سياسية عميقة في عهد خروتشوف لاستطعنا تطوير هذا المجتمع من دون المشكلات التي نواجهها هذه الايام. الا ان الحكومة شعرت بالذعر لذلك تراجعت الى التزمت وعدم المرونة. وفي هذا ما يوضح اهمية بعد النظر والخيال". وسألت كيربيشنكو: "مثلما تنجح الاشتراكية في بلد متطور متقدم مثل السويد وكندا ولا تنجح في روسيا او غينيا فان الاصولية الدينية هي اكثر نجاحاً في مجتمع غير متعلم، فما رأيك؟". رد بقوله: "نعم ربما كان هذا صحيحاً. اذ ان التطرف في اي دين يمكن ان يكون خطيراً. والتطرف في دين ضد دين آخر خطير ايضاً لأنه يقود الى حروب. فهذه وصفة للدمار. وقد عشنا كل هذا منذ عهد محاكم التفتيش". وسألته عن اذربيجان ورغبة ايران في اقامة اتحاد فيدرالي معها، فقال: "اذربيجان اقرب الى تركيا منها الى ايران في ثقافتها لأن اللغة في اذربيجان تركية الاصول وبقاعدة عربية مثلما هي اللاتينية بالنسبة للغات الاوروبية. وهناك اناس يتكلمون الفارسية بالطبع، لكن الثقافة تركية. انما الطاجيك اقرب الى ايران لأنهم يتكلمون الفارسية. ونحن مهتمون بايران، وتركيا وجمهورياتنا الاسلامية السابقة في آسيا الوسطى. لكن هذه المسألة لا تشكل خطراً خاصاً على روسيا. اذ اننا نعمل من اجل تحقيق وحدة اقتصادية مشتركة للجمهوريات السوفياتية السابقة. فقد كانت هذه الجمهوريات جميعاً تنتج اشياء للسوق السوفياتية الكبرى لم تكن تنتجها الجمهوريات الاخرى. فمثلاً تنتج اوزبكستان القطن واليورانيوم، بينما كانت طاجاكستان تبيع الآلات الى روسيا البيضاء. اما الآن فهي جميعاً تريد البيع الى ايران للحصول على العملة الصعبة. كذلك تريد اذربيجان بيع منتجاتها للحصول على العملة الصعبة، ولكنها لا تبيع الاسلحة السوفياتية الى ايران مثلما اشيع. ففي الوقت الراهن هناك قيادة موحدة تشرف على انتاج اسلحتنا وبيعها الى الخارج. ولا يزال الوضع مبلبلاً. فبعض الجمهوريات لا سيما كازاخستان تريد اقامة سوق مشتركة مع روسيا. ولهذا لا اعتقد ان كازاخستان ستبيع صواريخها الى ايران. فحتى في الوقت الراهن، اي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، لا تزال الصواريخ تحت قيادة مشتركة". ذكريات يمنية انتقلنا في الحوار مع كيربيشنكو الى ذكرياته، عن تجربته في اليمن، وخصوصاً مع علي ناصر محمد الرئيس السابق لما كان يسمى الجمهورية اليمنية الديموقراطية او اليمن الجنوبي. وبدأ كيربيشنكو يروي ذكرياته اليمنية: "زرت اليمن الشمالي مرات كثيرة قبل الوحدة بين شطري اليمن. وكانت اولى زياراتي في العهد الملكي. كما زرت اليمن الجنوبي مرتين. وقد عدت الى صنعاء اخيراً بعد الوحدة، في عام 1991 على رأس بعثة لمقابلة زعماء البلاد وبحث قضايا تهم البلدين وقبل ثلاثة وثلاثين عاماً زرت القصر الملكي السابق على التلال في تعز حيث قدمت مع سفيرنا اوراق اعتمادنا الى الملك وهو الآن متحف. وفي اول زيارة لي كنت سكرتيراً وملحقاً ثانياً ثقافياً في سفارتنا في القاهرة، لكن سفيرنا كان معتمداً في اليمن ايضاً وكانت مهامي تشمل تطوير علاقاتنا مع اليمن. ولهذا رافقت السفير لتقديم اوراق اعتمادنا. وكنت آنذاك ضابطاً عادياً في المخابرات السوفياتية كي. جي. بي وقد مكثنا في البلاد حوالي اسبوعين لكي نرفع تقاريرنا الى موسكو. كان اليمن اكثر الدول تخلفاً في العالم العربي. اذ كان يعيش في العصور الوسطى. وكان كل شيء محظوراً وكانت الصلة الوحيدة مع العالم الخارجي هي طائرة يتيمة تأتي في رحلات غير منتظمة من اثيوبيا. اما في الجنوب فكانت عدن مستعمرة بريطانية. وكانت ميناء مهماً لبريطانيا. الا انها كانت اكثر تطوراً وتقدماً، وكان فيها حركة نقابية وحركة وطنية تطالب بالاستقلال. وحين استقلت عدن وأصبحت اليمن الجنوبي ساعدناها على بناء جهاز للمخابرات ولكنه كان دائماً جهازاً ضعيفاً. وحافظنا على علاقات وثيقة مع اليمن الجنوبي ومع جهاز مخابراته. وفي كانون الأول ديسمبر عام 1982 عدت الى هناك حيث قلّدنا الرئيس علي ناصر محمد انا والقائم بأعمالنا وسام الوفاء. وكان الرئيس علي ناصر محمد يشغل آنذاك ايضاً منصب رئيس الوزراء والأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني. كان علي ناصر محمد رجلاً ذكياً يدرك الحاجة الى تحسين علاقاته مع جيرانه. وكنت اقول له دائماً ان عبدالناصر كان مصيباً حين اعلن ان قوة العرب تكمن في وحدتهم. وفي كانون الثاني يناير 1986 انفجرت احداث عدن الدامية. ووفقاً للتقارير التي تلقيتها من عدن فان ما حدث هو ان علي ناصر محمد هو الذي فجر الصدام بينه وبين التيار الآخر في القيادة الحاكمة والحزب الاشتراكي. ويقال عن التيار الآخر انه تيار متشدد وكان بقيادة عبدالفتاح اسماعيل وعلي عنتر وصالح مصلح قاسم. لقد استفز علي ناصر محمد التيار الآخر وقام بخطوة وقائية فوجه الضربة الاولى الى هذا التيار. ودخل رجال الحرس الجمهوري قاعة الاجتماعات حيث كانوا مجتمعين، وبدأوا اطلاق النار على خصوم علي ناصر محمد. وكان السياسيون تركوا اسلحتهم في بهو الاستقبال، فهرعوا الى التقاطها، واتسع نطاق القتال ووقعت حرب شوارع في اليمن الجنوبي ومواجهات مع الجيش. وقتل في هذه العملية زعماء التيار المتشدد وعلى رأسهم عبدالفتاح اسماعيل، كما سقط آلاف عدة من القتلى والجرحى. وفر علي ناصر محمد من عدن الى اليمن الشمالي فأقام فترة ثم انتقل الى دمشق قبل اعلان الوحدة اليمنية وهو لا يزال في دمشق". صدر عفو رسمي من الرئاسة اليمنية على علي ناصر محمد ومجموعة من انصاره في وقت سابق هذا الشهر. ويتابع كيربيشنكو ذكرياته اليمنية فيقول: "نائب الوزير الذي يظهر في صورة تقليدي الوسام كان مسؤولاً عن المخابرات. وكان مقرباً جداً منا واسمه عمر حسين علوي. لكنه اشتهر باسم فرحان. وقد وقع في أسر خصوم الرئيس علي ناصر محمد الذين امضوا عاماً كاملاً يحققون معه. وحوكم محاكمة علنية اذاعها التلفزيون. لقد تصرف بشجاعة وجرأة لكنه اعدم مع خمسة من اعداء النظام الجديد. وكان قال لي في آخر مرة رأيته فيها: "سنموت شباباً اقوياء ورؤوسنا مرفوعة". وفعلاً هذا ما حدث له. وبعدئذ ادرك الجناح المنتصر عبث تقسيم اليمن الى جزأين ولهذا وحدوا الجزأين". القذافي ولوكربي انتقلنا الى الحديث عن ليبيا والعقيد معمر القذافي وعن معلومات كيربيشنكو عن تورط ليبيا في عمليات ارهابية وما اذا كانت ليبيا فعلاً هي المسؤولة عن تفجير طائرة الركاب الاميركية فوق لوكربي في كانون الاول ديسمبر 1988. قال الجنرال: "كنت في ليبيا قبل ان يصل العقيد معمر القذافي الى الحكم عام 1969. كانت اول زيارة لي الى ليبيا عام 1963 ثم تلتها زيارات عديدة بعد ذلك. بصراحة هناك اشياء كثيرة تعجبني في القذافي. اذ انه كان طفلاً لعائلة بدوية كبيرة وكان امياً حتى سن متأخرة نسبياً. لكنه سرعان ما تعلم ولحق بغيره من زملائه ثم تفوق عليهم. وقد احببت فيه بساطته والطريقة التي يستقبل بها الزوار في خيمة من دون اثاث - مجرد طاولة صغيرة. القذافي حوّل البلاد وغيّرها. كان يحذو حذو عبدالناصر ويعتبره والده الروحي. والخصلة الاساسية التي تميز القذافي هي ان امة ولدت خلال فترة حكمه. فقبله لم يكن احد يتحدث عن ليبيا كدولة. ولهذا كان دوره في تأسيسها كبيراً وهذا انجاز مهم لا يمكن لأحد ان ينتزعه منه. اذ لم يكن في ليبيا اي صناعة وحتى كانت من دون زراعة تذكر. اما الآن ففيها صناعة مهمة. والواقع ان بعض المشاريع مثل النهر الصناعي العظيم تثير الاعجاب حقاً. والقذافي لم يكن سوى عقيد عندما جاء الى السلطة. كان حديث العهد بالسياسة. كان يريد تحرير ليبيا من النفوذ الاجنبي. والخبرة لا تأتي بين عشية وضحاها ولهذا تعلم مع مرور الايام. وكتابه الاخضر فيه نظرية جديدة، لا هي شيوعية ولا هي رأسمالية. نظرية مبتكرة الا وهي حكم اللجان. ولهذا كانت انتاجاً ليبياً بحتاً. وقد سبق لي ان تحدثت معه في مناسبات ديبلوماسية عدة فترك لدي انطباعاً جيداً. فهو يتحدث بهدوء ودون انفعال. كذلك لم يكن يتهرب من الاسئلة الحادة او المحرجة. كان يتعلم طوال الوقت. وكان قادراً على تغيير آرائه. مثلاً تدخله في تشاد: قال لي "ان هذا التدخل كان غلطة". وهكذا اصبحت سياساته اكثر واقعية وأخذ يولي اهتماماً واعتباراً لآراء جيرانه. ولم يعد يصدر البيانات من دون اكتراث او يتخذ اجراءات غير متوقعة. وفي العام الماضي قال لي انه يشعر بالقلق من التطورات في الاتحاد السوفياتي، ولذا رتبت له زيارة الى موسكو. ولكن ما شهده الاتحاد السوفياتي من احداث حال دون قيامه بتلك الزيارة. ولربما كانت علاقتنا معه تسمح لنا بالقيام بدور الوسيط. ان القذافي من صنع الشعب الليبي. ومن الحماقة ان نتوقع من الليبي ان يتصرف مثل الاميركي او الروسي. وقد زاد سوء الوضع الاقتصادي هناك الآن. اذ ان في طرابلس مثلاً بنايات ضخمة غير مأهولة كما ان التنمية في البلاد لم تكن متوازنة في جميع القطاعات. والبعض يسأل ما اذا كان ينخرط في مغامرات اجنبية وخارجية لتحويل الاهتمام عن مشكلاته الداخلية. لهؤلاء اقول ما يلي: هل هذه هي الصورة ام صورة المرآة؟ ان بعض الدول الغربية ايضاً تهاجم القذافي دائماً". وأضاف كيربيشنكو: "وربما يقول البعض ان القذافي يثير حيرة الكثيرين نظراً لأنه رجل غامض. ولكنني اقول ان نظام سلطة الشعب كان نتاجاً لمجتمع لم تكتمل تنميته او تطوره. فمثلاً لم يكن هناك نظام رأسمالي متطور كامل، مثلما لم يكن هناك نظام اشتراكي متطور كامل. ولهذا من الصعب الحكم على نظام سلطة الشعب الذي جاءت به ليبيا ومعرفة ما اذا كان ناجحاً ام لا في هذه المرحلة. وبصراحة من الصعب ان نتصور وجود نظام من دون هيكلية ادارية. وليبيا مثل السفينة التي فيها اشرعة ولكنها من دون سارية، الا ان هذه المشكلات موجودة ايضاً في الدول الاخرى كذلك. والسؤال هو: هل ان القذافي متورط في عملية تفجير طائرة لوكربي؟ بصراحة اعترف لك بأن المخابرات الروسية لا تعرف الجواب عن هذا السؤال. اما الجزائر جارة ليبيا فهي مختلفة عنها اختلافاً كبيراً. اذ ان القيادة الجزائرية اكثر ابتكاراً وابداعاً. فقد احتفظت الجزائر بنظام سوق غربي طوال الفترة التي تلت حصولها على استقلالها. واذا ما اخذ المرء في الاعتبار التوترات الرهيبة بين الجزائر والفرنسيين والحرب فان من المثير للدهشة ان الجزائريين لم يقطعوا الصلات الاقتصادية مع فرنسا ومع الشركات الفرنسية اطلاقاً. وكانت الولاياتالمتحدة تعتزم تطوير علاقة لها في مجال النفط والغاز ولكنها اضاعت الفرصة. ولهذا طورت الجزائر شركة نفط وطنية وصناعات وطنية اخرى متصلة بالنفط والغاز. الا ان المشاكل بدأت حين انخفضت اسعار النفط. كذلك شهدت الجزائر زيادة هائلة في السكان - ففيها واحد من أعلى معدلات الولادة في العالم. وهناك ايضاً بطالة واسعة الانتشار ادت الى مشاعر الاستياء والتذمر مما ادى بالتالي الى نمو الحركة الاسلامية الاصولية". افغانستان: الخطأ والفشل ثم انتقلت الى الحديث مع كيربيشنكو عن افغانستان فقال: "افغانستان اشبه بشوكة في حلوقنا. فخلال العهد السابق وحتى بعد قيام الجمهورية، لم تكن افغانستان دولة موحدة او دولة منظمة. اذ كانت كل قبيلة تتبع قوانينها الخاصة، وكانت سلطة الحاكم رمزية الى درجة كبيرة، مما جعل الاطاحة به أمراً سهلاً. ومع انني لم أزر افغانستان سوى مرة واحدة فإنني اهتم بها منذ عودتي الى موسكو عام 1974. وقد التقيت الرئيس السابق نجيب الله مرات كثيرة. وإذا ما عدنا قليلاً الى الوراء لوجدنا انه كانت هناك حملة من الاضطهاد الشديد حين كان حفيظ الله امين في السلطة. وكان امين يتعاطف مع الشيوعية مع انه درس في الولاياتالمتحدة. اذ اراد حكم البلاد عن طريق تدمير اعدائه. وكانت اجهزة الاعلام ترى في نظامه نظاماً فاشياً. وحين تولى بابراك كارمل السلطة بعده ازداد قلق الغرب، ليس لأن الوضع لم يتحسن ولكن لأن السوفيات كان لهم ضلع في تغيير النظام في كابول. وبعدئذ رأى الغرب في دخول قواتنا الى افغانستان اخلالاً بتوازن القوى في المنطقة. ودعني اقول بصراحة ان ارسال قواتنا الى افغانستان كان خطأ. الا ان هدفنا الاساسي كان المساعدة على احلال الاستقرار في هذه البلاد وفي المنطقة. الا اننا لم نحقق في واقع الامر شيئاً. كما ان ثلاثة عشر الفاً من رجالنا قتلوا خلال عشر سنوات. وكان يجري داخل القيادة السوفياتية نقاش لأفضل الطرق الممكنة لخروجنا من البلاد. وما ان تولى غورباتشوف السلطة حتى كنا اتخذنا قراراً بالانسحاب وقبول فقدان ماء وجهنا. وكان المحللون الغربيون وغيرهم من المراقبين، بل وحتى بعض الشخصيات في قيادتنا، يتوقعون سقوط نظام نجيب الله على الفور. لكن هذا لم يحدث، مما يعني ان وجود قواتنا هناك او عدم وجودها ما كان ليغير الوضع فعلاً. وحين دخلت قواتنا افغانستان قال الاميركيون انها ستكون فيتنام الاتحاد السوفياتي، ولكنهم اكتشفوا خطأ حكمهم. لكننا لم نحسب حساب كل شيء حين ارسلنا تلك القوات ولهذا ارتكبنا خطأ واضحاً. واذا كان هناك مثال مشابه فان الاميركيين لم يحسبوا حساب كل شيء حين ذهبوا الى فيتنام ووجدوا بدورهم انهم ارتكبوا خطأ ايضاً. والواقع ان خبرتنا هناك لم تكن تختلف كثيراً عن خبرة البريطانيين حين غزوا افغانستان في القرن الماضي. اذ اننا مثلهم، فشلنا ولم نحقق اي نجاح، مع السلطات الدينية والقبلية، ومثلما فشلنا في تغيير موقف الافغانيين وآرائهم فان الاميركيين فشلوا في فيتنام. اذ ان المواطنين اعتبرونا، مثل الاميركيين في فيتنام قوة احتلال اخرى تغزو بلادهم". مرافقي... الجاسوس مرافقي الكولونيل اناتولي اندرييفتش تونكونغ خرج من عالم المخابرات السرية. وجهه اصبح معروفاً لي وللآخرين، مما يعني انه لا يمكن ان يذهب في اية مهمة خارج الاتحاد السوفياتي مرة اخرى. لكنه غير نادم على ذلك. اذ ليس هناك عمل في العالم ينطوي على توتر دائم مثل عمل ضابط المخابرات المزروع او "غير المشروع"، اي الذي يعمل في بلد اجنبي من دون اية حصانة ديبلوماسية ومن دون اية حماية. فهو يعمل بهوية مزيفة وبجنسية مستعارة ويقوم بمهمة تحتاج الى الخداع المستمر. وهو بذلك ممثل يقوم بدوره الجديد لمدة 24 ساعة في اليوم من دون ان يتوفر له باب خلفي للخروج من المسرح ومن دون اية استراحة بين المشاهد ومن دون اي ملقّن. وفي موسكو يتولى الاشراف على مركز الضباط المزروعين او "المجهولين" المديرية العامة الاولى اي المخابرات الاجنبية في كي. جي. بي.. وقد ظل تونكونغ مخلصاً لبلاده طوال المدة. الا انه يشعر بارتياح كبير للتغييرات العظيمة التي جرت على النظام الحكومي ولنهاية الحرب الباردة. كذلك كانت زوجته جاسوسة "مزروعة". وسبق لهما ان عملا معاً في احد البلدان العربية، ولكن زواجهما لم يصمد امام الضغوط المتواصلة. وسبق له ايضاً ان عمل متستراً وراء العديد من المهن والحرف وفي عدد كبير من الدول. وفي احدى تلك الدول ذهب الى حد الحصول على الجنسية. ولكن "الوسط" وافقت على طلبه عدم ذكر الدول التي عمل فيها او المهن التي اختفى وتنكر وراءها. وفي احدى المرات تعلم كل التفاصيل والدقائق عن احدى المدن في اميركا الشمالية لكي يستطيع الحياة فيها كمواطن من ابنائها الاصليين. ولكنه عُيّن - على عادة البيروقراطية في كل مكان من العالم - في مكان آخر. وفي دولة اخرى اضطر الى الخضوع لعملية جراحية طارئة. وبينما كان تحت التخدير اخذ يعد الارقام من واحد الى مئة باللغتين اللتين ترتبطان بقصة تستره وتنكره، خوفاً من ان تفلت منه اية كلمة روسية. وكان الخوف بالنسبة اليه جرعة يومية دائمة. لكنه يقول انه لم يشعر بالخوف الحقيقي الا مرة واحدة حين كان في بلد ليس له اي رعايا في الاتحاد السوفياتي، لأنه خشي استحالة مبادلته بأحد رعايا ذلك البلد، فيما لو انفضح امره ووقع في الأسر. وكان يذهب احياناً الى اقطار يحبها وأحياناً الى اقطار لا يحبها. وقد روى لي قصة مولوندي، سيد الجواسيس الذي قبله الجميع على اساس انه رجل اعمال بريطاني محترم اسمه "غوردون لونسديل" الى ان وقع في الاسر وتمت مبادلته. اذ ان مولوندي اخبر زملاءه: "ان البيروقراطيين لا يمكن ان يرسلوك الى حيث تريد الذهاب وإنما يرسلونك الى حيث تقول لهم انني لا اريد الذهاب". وكان مولوندي يريد الذهاب الى بريطانيا ولهذا قال للمسؤولين: "انا مستعد للذهاب الى اي مكان، وليس لدي اي مكان مفضل، اللهم انني افضل عدم الذهاب الى انكلترا... اذ يقولون ان الطقس هناك سيئ مثل طقس موسكو". وهكذا حقق رغبته لأنهم ارسلوه الى لندن. ان الوحدة في الحياة تبدأ في سن الطفولة. فوالد الكولونيل هجر والدته حين ذهب الوالد لقضاء خدمته العسكرية في اقاصي الاتحاد السوفياتي الشرقي. وحين كبر الولد اتخذ اسم زوج والدته الجديد القفقاسي. ويقول: "ان والدي لا يزال على قيد الحياة، وأنا اعرف اين هو، لكنني لم اكشف عن هويتي له اطلاقاً". والمرة الوحيدة التي يبدي فيها عواطف هي عندما يلتقي صدفة رجلاً كان التحق معه بوكالة كي. جي. بي. قبل سنوات طويلة، وتقاعد اخيراً. وبعد ان يودعه ونسير يقول لي: "كان ذلك الرجل ابناً غير شرعي لستالين". وكان افضل مطعم وجدته في الليلة الاولى هو باكو - نصر - لبنان الذي كان في السابق اذربيجانياً ولكنه تحول الآن الى مطعم لبناني. لكن تونكونغ يقول انه اصبح مرتعاً لتجار السوق السوداء، ولهذا اصطحبني، بدلاً من ذلك، الى مطعم آخر له دهاليز مخملية وفيه عازفو كمان وخدم يرتدون بدلات السهرة الرسمية. وتصدح الموسيقى وتنشد المغنية. وحين غادرت موسكو اعطاني مرافقي كتاباً من الحكايات الروسية مترجماً الى الفرنسية، قال لي ان قصته هي باختصار "ان استطيع الحياة في بلاد عادية من دون ان اضطر الى مغادرة البلاد التي ولدت فيها!".