أمير حائل يدشن إنتاج أسماك السلمون وسط الرمال    المسند: طيور المينا تسبب خللًا في التوازن البيئي وعلينا اتخاذ الإجراءات المناسبة للحد من تكاثرها    التعامل مع المرحلة الانتقالية في سورية    إحباط تهريب (1.3) طن "حشيش" و(136) طنًا من نبات القات المخدر    بناء الأسرة ودور مراكز الرعاية الصحية الأولية    معرض الكتاب بجدة كنت هناك    جمعية(عازم) بعسير تحتفل بجائزة التميّز الوطنية بعد غدٍ الإثنين    البديوي: إحراق مستشفى كمال عدوان في غزة جريمة إسرائيلية جديدة في حق الشعب الفلسطيني    مراكز العمليات الأمنية الموحدة (911) نموذج مثالي لتعزيز الأمن والخدمات الإنسانية    الفريق الفتحاوي يواصل تدريباته بمعسكر قطر ويستعد لمواجهة الخليج الودية    الهلال يُعلن مدة غياب ياسر الشهراني    جوائز الجلوب سوكر: رونالدو وجيسوس ونيمار والعين الأفضل    ضبط 23194 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.. وترحيل 9904    الأونروا : تضرر 88 % من المباني المدرسية في قطاع غزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب الفلبين    حاويات شحن مزودة بنظام GPS    مهرجان الحمضيات التاسع يستقبل زوّاره لتسويق منتجاته في مطلع يناير بمحافظة الحريق    سديم "رأس الحصان" من سماء أبوظبي    أمانة القصيم توقع عقد تشغيل وصيانة شبكات ومباشرة مواقع تجمعات السيول    بلدية محافظة الاسياح تطرح فرصتين استثمارية في مجال الصناعية والتجارية    «سوليوود» يُطلق استفتاءً لاختيار «الأفضل» في السينما محليًا وعربيًا خلال 2024    بعد وصوله لأقرب نقطة للشمس.. ماذا حدث للمسبار «باركر» ؟    انخفاض سعر صرف الروبل أمام الدولار واليورو    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الصين تخفض الرسوم الجمركية على الإيثان والمعادن المعاد تدويرها    المكسيك.. 8 قتلى و27 جريحاً إثر تصادم حافلة وشاحنة    أدبي جازان يشارك بمعرض للتصوير والكتب على الشارع الثقافي    دبي.. تفكيك شبكة دولية خططت ل«غسل» 641 مليون درهم !    رينارد وكاساس.. من يسعد كل الناس    «الجوير».. موهبة الأخضر تهدد «جلال»    ابتسامة ووعيد «يطل».. من يفرح الليلة    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    رفاهية الاختيار    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    حلاوةُ ولاةِ الأمر    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفلسطيني الجديد . تخلى عن السراب وشعار "كل شيء أو لا شيء" وقبل دفع ثمن باهظ للتفاوض مع اسرائيل
نشر في الحياة يوم 25 - 05 - 1992

ليس بالمنطق وحده تفهم الظواهر السياسية. وليس بالمؤامرة والخداع تفسر. كما انه لا يكفي طوفان من الالفاظ الرنانة كي تصمت الحقيقة. ووسط الضجيج والتشويش يصعب علينا اكتشاف ما هو "بديهي" فتعشش افكارنا في عوالم سريالية لا وجود لها ويصبح التوصل الى "الواقع" اشكالية كبرى.
واذا طرحنا منطقاً عملياً وواقعاً انبرى اخوان السفسطة بطروحات خصبة قد تكون ممتعة كلعبة عقلية، مثل الفوازير والاحاجي، ولكنها تزيدنا بعداً عن الواقع فندخل الى المتاهات التاريخية حيث تضيع العلاقة بين السبب والنتيجة، ندور في حلقات مفرغة نفقد فيها الرؤية، والاهم نفقد فيها الارادة. ان علينا ادراك الشيء كما هو لا كما يحلو لنا ان نراه او نتجاهله.
وادراك الواقع معادلة صعبة من التحليل والتمحيص والمقارنة والتجربة والخطأ في دنيا العلوم البحتة، وهي معادلة اصعب في تفسير الظواهر السياسية والاجتماعية لأن الانسان هو جوهرها وهو جوهر متحرك متغير ذو ارادة. وعلى رغم هذه الصعوبات فان هناك ظواهر سياسية وتاريخية قائمة، وهناك افكار ونظريات وادراكات تبلور "الافكار القائدة والمنظمة" للمراحل السياسية، ومن ثمة كان علينا ان نعي هذه القواعد الرئيسية كي ندرك اسلوب الديناميكية السياسية وما يطلق عليه "قواعد اللعبة".
وحين يفوتنا هذا الفهم فاننا نغرق في عالم الهوامش ونصبح مثل اهل الكهوف لا نعلم الا ما يطل علينا من ظلال او نور، بعيداً عن خضم الحياة، نتأثر بها ولا نؤثر فيها، وبدلاً من خوض معركة الحياة بالتمرس في فنونها واساليبها نكتفي بفهمها عن طريق الزر والكتابة والقصة والاشاعة، ونصبح "مفعولاً به" بدل ان نكون فاعلين. هذه الصورة لا تقتصر على العرب او اليهود، وان كان كل طرف اخذ حظه منها خلال تاريخه الطويل. ومثلنا مثل بقية الامم اذا لم ندرك الواقع بالعلم والعقل والحوار والتجرية فاننا ندركه بالصدمات القوية التي تصيبنا فنخرج من دائرة الوعي الزائف الى البحث عن الواقع والحقيقة تحت ضغط الصدمات.
شهد القرن التاسع عشرة خصوصاً في اوروبا، سيادة ظاهرة "القومية والوطنية"، كالظاهرة القائدة والمسيطرة على حركة السياسة والتاريخ، وتبلورت بوجه خاص ظاهرة "الدولة القومية" كأهم عنصر للولاء والانتماء السياسي.
وكان اليهود يعيشون في عدد من الدول الاوروبية كمواطنين في تلك الدول، وكانت اليهودية تمثل انتماءهم الديني وليس القومي، وآمنت غالبية اليهود بأن عهد "الاستنارة" الذي كان يسود الفكر الاوروبي كفيل بتحقيق المساواة والعدالة والاخاء لهم.
ولكن سرعان ما خبا هذا الادراك نتيجة لظروف التمييز والاضطهاد التي اطلق عليها "معاداة السامية" وبدأ اليهود يطالبون بحل قومي لهم على اساس انهم "شعب بلا ارض" يطالب "بأرض بلا شعب". ودارت فواعل السياسة الحديثة ونمت ونضجت الحركة الصهيونية واستفادت من فهمها لمحركات السياسة والابداع في اوروبا للحصول على وعد بلفور لاقامة "وطن او منزل قومي" في فلسطين لا يتناقض مع الحقوق المدنية والدينية لغير اليهود فيها، وحولت الظاهرة الصهيونية المؤيدة من بريطانيا غالبية سكان فلسطين في ذلك الوقت الى مجرد تسمية جديدة هي "غير اليهود" وكانوا يمثلون 90 في المئة من السكان واقتصرت حقوقهم على الحقوق المدنية والدينية!
هذه الصدمة التاريخية لم يسبقها اي عداء يذكر بين اهل فلسطين واليهود، بل نشأت لأن الحركة الصهيونية لم تقدم على اختيار "ارض بلا شعب" ولكنها اختارت الارض التاريخية التي ازدهرت فيها اليهودية والتي اعتبرها المتدينون منهم "ارض الميعاد" على رغم مرور اكثر من الف سنة على قيام اي دولة يهودية او عبرية فيها، وعلى هذه الارض قام المجتمع الفلسطيني منذ اكثر من الف عام. المقابلة على ارض الانتداب البريطاني على فلسطين لم تكن مقابلة ودية او دعوة للتعايش المشترك او حسن الجوار، لقد كانت ولا تزال صداماً بين شعبين وفكرتين متعارضتين وبين درجات متفاوتة من الوعي والتنظيم والادراك. لقد كانت صداماً تاريخياً مريراً بين شعبين قاسى كل منهما في تجربته الكثير من الآلام.
والحركة الصهيونية، ككل الحركات القومية، لها اجنحة مختلفة تعبر عن افكارها في كيفية تجسيد وتطبيق "المشروع القومي" وتحويله الى برنامج سياسي عملي، والاحزاب الاسرائيلية اليوم تجسد هذه الاجنحة فحزب العمل واحزاب اليسار ترى ان "تقسيم الارض" بين اسرائيل والكيان العربي الفلسطيني يحقق اكبر مصلحة لاسرائيل "للمحافظة على اسرائيلية الدولة سكاناً وفكراً ونوعية". اما ائتلاف الليكود، وجوهر افكاره في حزب حيروت، فيرى ان الحصول على كل الارض هو الاساس، بغض النظر عما اذا كان يعيش فيها اكثر من مليونين من عرب فلسطين. والليكود يرى ان وجود الفلسطينيين على الارض يسبب مشكلة، ولكن الاهم هو حيازة الارض وعدم اقامة سيادة غير اسرائيلية عليها، ثم يترك للزمن والى سياسة الاستيطان المتنامية وسيلة لدفع العرب المقيمين على "أرض اسرائيل" عن تركها او العيش بصورة هامشية عليها.
اما مشكلة اليهود كمشكلة دولية فقد تحولت الى عملية دعم ومساندة لاسرائيل بوصفها "المركز الرئيسي للحياة اليهودية". وقد قال ارثر كيسلر في اواخر كتاباته ان مهمة "اليهودي المتنقل" انتهت فاما انه تحول الى اسرائيلي او انه يعيش كمواطن برغبته الحرة وينتمي الى قوميات مختلفة.
ولكن الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية لا تقبلان هذا التفسير فهما تسعيان بالجهد والدعوة والتمويل لتهجير يهود العالم او من يطلقون عليهم "الشتات" الى اسرائيل.
ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق اخذت الحركة الصهيونية تعمل على تهجير اليهود السوفيات الساعين الى الهجرة الى اميركا وكندا، حيث يجدون ابواب الهجرة موصدة او شبه موصدة فانهم يرحلون الى اسرائيل، وتحاول حكومة الليكود استخدام هذا المأزق الانساني للزج بهم كاداة للاستيطان في الاراضي العربية المحتلة بدلاً من ان تفتح لهم ارض النقب والمدن الاسرائيلية التي يمكنها بسهولة منحهم الامان والانتماء والمأوى والمسكن.
وهكذا يواجه شعب فلسطين - هذه المرة - لأسباب عقائدية سياسية اسرائيلية - حرمانه مما تبقى له من ارضه وموارده وهي لا تزيد على 15 في المئة من اراضي فلسطين التاريخية.
"سرقوا الصندوق لكن المفتاح معايا"
حين توالت الصدمات، منذ وعد بلفور الى صك الانتداب الى اللجان المختلفة لاستطلاع اراء العرب واليهود لايجاد حل للمعادلة الصعبة المستعصية الى انهاء الانتداب البريطاني وقيام الامم المتحدة بتولي الامر في اللجنة السياسية الخاصة بفلسطين وطرح قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947 كان الموقف الفلسطيني والعربي موقفاً ايديولوجياً: اما "كل شيء او لا شيء". واكتفينا بتجميع قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة والمنظمات التخصصة لصالح القضية، متجاهلين الدافع، وكنا نتصرف كما يقول المثل المصري "سرقوا الصندوق يا محمد ولكن مفتاحه معايا". كان الرفض لما نراه ظلماً هو رد الفعل الفلسطيني - العربي، بينما كانت اسرائيل تبني الحقائق على الارض، بيتاً وراء بيت ومستوطنة تليها مستوطنات. وكانت القيادة الفلسطينية بعيدة ومستبعدة عن الارض. فالحاج امين كان في برلين ثم في القاهرة، ولم يترك زعامة تقود الكفاح على التراب الوطني، وتأرجحت ردود الفعل الفلسطينية في مواجهة الصدمات، فاتجه البعض الى الاطار الاسلامي الذي اختارته بريطانيا الدولة المنتدبة كصرح ممثل للشعب الفلسطيني في صورة المجلس الاسلامي الاعلى، وتحرك الشعب في رؤية قضيته ضمن الاطار الوحدوي العربي. ففلسطين المجزأة هي جزء من وطن عربي مجزأ وطغت حركات القومية العربية كرد فعل طبيعي خصوصاً انه لم يكن في فلسطين تناقض ملموس بين التوجه الاسلامي - المسيحي والتوجه القومي. وهكذا تمت المواجهة العسكرية في ايار مايو 1948 بين الدول العربية واسرائيل الناشئة، بتعاون وتأييد شعبي فلسطيني. واذا كنا رفضنا 49 في المئة من ارض فلسطين - وهي الجزء المخصص للدولة العربية في مشروع التقسيم - لأنه لا يوفر لنا الحق كله فقد نتج عن حرب 1948 ان زادت خسارتنا فلم يبق لنا من الارض الا حوالي 28 في المئة منها الى جانب هزيمة الجيوش العربية وقبول اتفاقيات الهدنة الثنائية بين كل دولة عربية على حدة واسرائيل.
وأمسكت الحكومات العربية بعجلة قيادة القضية الفلسطينية واقتصر دور الشعب الفلسطيني على التمزق والانقسام بين سياسات الدول العربية المختلفة والمتنازعة، وبعد مؤتمر اريحا ضمت امارة شرق الاردن اراضي الضفة الغربية والقدس العربية وابقت مصر قطاع غزة كوديعة الى حين يقرر الشعب الفلسطيني مصيره.
ومنذ عام 1952 وانطلاقة الرئيس الراحل عبدالناصر القومية ركز الشعب الفلسطيني كفاحه في تأييد المد الوحدوي ومعارضة الضم للاردن. وفي اوائل الستينات بدأ عبدالناصر يشجع بلورة "الكيان الفلسطيني" وبعد شد وجذب نشأت "منظمة التحرير الفلسطينية" في مؤتمر القمة العربي الاول 1963 وتبلور الكفاح الفلسطيني في اطار جديد، ووقعت نكبة حزيران يونيو عام 1967 واحتلت اسرائيل كل الاراضي الفلسطينية الى جانب سيناء والجولان واجزاء من الاردن.
الفلسطيني المتنقل
وتبدأ رحلة جديدة من المواجهة الممتدة والمتغيرة. ونرى الشعب الفلسطيني ينقسم: فأقلية لم تترك ديارها في ما أصبح "دولة اسرائيل" واصبحت الاقلية العربية في اسرائيل بعد استيعاب الصدمات تكافح بالطرق السياسية والدستورية، فيما يتجه بها النظام السياسي في اسرائيل من مجال محدود للعمل السياسي، واصبحت هذه الاقلية اسرائيلية الجنسية عربية اللغة والقومية وتمثل حوالي 17 في المئة من تعداد اسرائيل وتتميز بدرجة عالية من النمو السكاني، حتى اطلق عليها قبل مجيء طوفان الهجرة اليهودية السوفياتية اسم "القنبلة السكانية"، حيث تساوى في السنوات الاخيرة عدد الاطفال العرب في اسرائيل مع عدد الاطفال اليهود حتى سن السادسة. وأخذت هذه الاقلية العربية تتعامل وتكافح في اطار اسرائيلي وفي عزلة عن الشعوب والدول العربية، ما عدا تأدية الواجبات الدينية مثل الحج. كان كفاحها يقوم اساساً على الاعتماد على الذات.
اما الشعب الفلسطيني فتحولت غالبيته الى لاجئين فكانت هناك موجة اللاجئين سنة 1948 ثم موجات من الطرد والابعاد ثم موجة اللاجئين عام 1967، واصبح البعض لاجئين مرات عدة، اغلبهم في الاردن وفي دول الجوار خصوصاً لبنان وسورية. وانتقل عدد وافر منهم الى الكويت حيث نعم بالازدهار، قبل آب اغسطس 1990، وبرزت ظاهرة جديدة هي ظاهرة الدياسبورا او "الشتات الفلسطيني" في البلاد العربية وفي انحاء العالم وتحول اهل الشتات الفلسطيني ليفرزوا شخصية جديدة هي "الفلسطيني المتنقل". يسعى الى "العودة". واصبح قرار الجمعية العامة الرقم 194 في فقرته الثالثة التي تتيح للفلسطينيين الاختيار الشخصي بين العودة والتعويض، نبراسا يقود الكفاح الفلسطيني، ولكن لم تحدث الا عودة ضئيلة لجمع شمل بعض الاسر ولم تتحقق العودة على رغم مجهودات لجنة التوفيق الفلسطينية من عام 1949 وحتى اليوم.
ومنذ حزيران يونيو 1967 حين انهزمت جيوش الدول العربية وانتشر اليأس والاحباط وغدا الحل العربي سراباً بعيد التحقيق، تبلورت ظاهرة فلسطينية جديدة هي تحول الفلسطيني المتجول الذي يعيش في الشتات العربي الى مقاتل. واذا كانت الحركة الصهيونية حولت اليهودي من مهنة التجارة والسمسرة الى خلق "اليهودي المحارب"، فقد رأينا حركة التحرير الفلسطينية بروافدها وفروعها تفرز منطقاً فلسطينياً جديداً يرفض الطمس والتهميش والتبعية ويصرخ قائلاً: "انا اقاتل وأموت... فأنا موجود".
وتحملت حركة التحرير مسؤولية القضية الفلسطينية ولم تتركها للدول والحكومات والحركات العربية واصبحت القضية فلسطينية في المجال الاول. وبدأت ظاهرة القومية الفلسطينية تتنامى وتتميز، فعلى رغم اصولها العربية فانها نبتت كرد فعل لتحديات ذات خصائص فلسطينية.
ولت ايام "كل شيء او لا شيء"
وجاء الهجوم الاسرائيلي على لبنان عام 1982 وحوصرت بيروت وخرجت المقاومة الفلسطينية من ارض لبنان والضربات تتوالى عليها من الامام والخلف. ومرة اخرى ظن البعض ان القومية الفلسطينية وحركة التحرر الفلسطيني صارتا الى العدم، وتشتتت قواتها المحاربة من تونس الى اليمن.ولكن مرة اخرى تبرز عبقرية الميلاد الجديد والمتجدد، ويخرج من هاوية اليأس والضعف نبت اخضر يدب بالحياة ويعي واقعه الذاتي وازمة اللامخرج واللاحل بظاهرة سياسية اجتماعية هي "الانتفاضة" التي تعلن بالممارسة اليومية رفض الاحتلال ورفض الخضوع ولكن بأسلوب يتماشى مع واقع ومنطق واسلوب الحياة في زمننا الحالي. ويظهر الفلسطيني المقيم على ما تبقى من ارضه قدرة على اثبات ذاته وهويته السياسية والوطنية على رغم الاحتلال، وبدأت الانتفاضة في 9 كانون الاول ديسمبر 1987 وفي هذه المرة تنضج الوطنية الفلسطينية وتبتعد في مجراها الرئيسي عن السلفية السياسية والتعريب والتهميش وتسعى من منطلق الواقع الى مصالحة تاريخية مع القومية الاسرائيلية بمنطق العصر وبلغة مفهومة واساليب تتماشى مع التطورات الجديدة التي تسمى النظام العالمي الجديد الذي لا يسمح للفلسطيني المقاتل او المنتفض بتحرير الارض، وامام محاولة تجزئة الشعب الفلسطيني نشأت رابطة قومية تتحدى التجزئة عن طريق الانتماء الحقيقي، وامام جحافل الجيوش المحتلة بدأت الانتفاضة الشعبية بقذف الحجارة والدعوة الى المفاوضة من دون خوف او شعورد بالذنب. فقد ولت ايام كل شيء اولاً شيء، كما ولت ايام المناورة والتوريط والعنتريات، واشرقت ارادة الاعتماد على النفس وبناء الوطن طوبة وراء طوبة من الجذور، بروح جديدة مبشرة بميلاد وطنية جديدة تعبر بالفعل ورد الفعل عن عبقرية الميلاد الجديد الذي يبدأ بتحرير النفوس وصولاً الى تحرير الشعب على ارضه، حتى وان كانت - على مساحة صغيرة من ارض الاجداد - وان كان السبيل المتاح لذلك هو المفاوضة فلتكن كذلك. فقد انتهى زمن الاعذار والبحث عن عالم وهمي مثل السراب وجاءت ساعة المواجهة مع الواقع الصعب والحقائق المرة: اسرائيل قوة نووية محتلة تضع حل مشكلة اليهود السوفيات في اولوية عظمى، ونظام عالمي جديد يرفض اشراك سكان القدس العربية في وفد المفاوضات الفلسطيني، بل ان الخصم له سلطة الفيتو على تكوين الوفد الفلسطيني، والنظام الدولي الجديد لا يضع حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في اسبقية على مستوى استيعاب المهاجرين السوفيات.
وعلى رغم انه ليس هناك تماثل في القوة بين الشعب المقيم والشعب المهاجر وبين قوة اسرائيل فان المواجهة السياسية تظهر ابعاداً من القوة السياسية تختلف عن القوة العسكرية. ودعي الفلسطينيون الى الدخول في العملية الدولية الجديدة، وكان عليهم ان يدفعوا ثمناً باهظاً، فالوفد الفلسطيني هو جزء من وفد اردني - فلسطيني، والامم المتحدة التي قسمت فلسطين استبعدت من العملية، واطار المفاوضات الثنائية والمتعددة الاطراف مثقل باختيارات تتحيز الى جانب اسرائيل. وعلى رغم كل هذه القيود والاشتراطات دخل ممثلو الشعب الفلسطيني الى حلبة المفاوضات المباشرة لأول مرة منذ عام 1947، وتفتقت عبقرية الميلاد الجديد لتخطي العقبات والشراك: الممثلون الحقيقيون للشعب الفلسطيني يفاوضون الغائب منهم والمغيب والمستتر والمستور، كلهم هناك يناضلون في وحدة تتخطى التجزئة والابعاد.
422 و681
مضى خمسة وعشرون عاماً على صدور القرار الشهير الرقم 242 الذي لا يذكر اسم الفلسطينيين او فلسطين ويقتصر على ايجاد حل لمشكلة اللاجئين من دون تحديد هويتهم. وفجأة يذكر الامين العام للامم المتحدة الدكتور بطرس غالي ان القرار 242 غير ملزم لأنه صادر بناء على الباب السادس للميثاق ولا يحوي الفعاليات التنفيذية التي ينص عليها الباب السابع. والحقيقة ان كل قرارات مجلس الامن واجبة الاحترام والنفاذ ولكن القرار 242 لا ينص الا على اطار للمفاوضة ومبادئ عامة مشتقة من الميثاق، فالالزام الوحيد هو الدخول في مفاوضات من دون زمني. وقد مضى ربع قرن وما زلنا نتكلم عن تنفيذ القرار واصبحنا نعتبره المفتاح الرئيسي لحل اشكاليات الصراع العربي - الاسرائيلي بعد ان كنا نرى فيه اسلوباً لتسوية آثار حرب حزيران يونيو.
ان القرار اكتسب معاني جديدة واصبح رمزاً لعملية المفاوضة الشاملة التي ارتضتها جميع الاطراف، والمهم في هذه العملية هو دفعها بعيداً عن مجال استعراض المواقف والدخول الى التحديد والتفصيل وكشف المواقف الحقيقية واستجلاء الارضية المشتركة والكشف عن الممكن والمحتمل واظهار النوايا العملية وخلق دوائر التأييد والضغوط اللازمة واستثمار المصالح الممكنة وصولاً الى حلول معقولة ومقبولة تتزايد فيها الايجابيات على السلبيات ويشعر كل طرف بأن في مصلحته تجنب الرفض والسعي الى معادلة جديدة تحقق صالحاً لكل الاطراف، ان المفاوضات الرسمية تتم داخل المؤتمرات ولكن المفاوضات الحقيقية تتم على ارض الواقع في علاقات القوى والمصالح.
ان دعوات الدول الراعية لمؤتمر السلام اغفلت ذكر قرار مهم آخر هو قرار مجلس الامن الرقم 681 الصادر عام 1990 وقد صدر هذا القرار باجماع اعضاء مجلس الامن، بما في ذلك الولايات المتحدة منذ اقل من عامين، وهو قرار مجلس الامن الوحيد الذي يطالب اسرائيل بأفعال محددة هي سريان اتفاقية جنيف الرابعة على كل الاراضي المحتلة. هذا القرار اذا تحقق له التطبيق فان اعباء كثيرة ترفع عن كاهل الشعب تحت الاحتلال، ولكن الدول الراعية ارادت ان تشارك اسرائيل بدافع من رغبتها الذاتية وليس عن طريق الضغط، وبالتالي فان الدعوة الى مؤتمرات السلام اهتمت باظهار الفرص السانحة وتصعيد المصالح المتاحة سعياً وراء استكشاف ارضية مشتركة قبل الدخول الى المواقف المستعصية، والهدف ايجاد حلول لبعض جوانب المشاكل لا ترفضها الاطراف وتهميش بعض الجوانب الصعبة او تجميدها لفترة زمنية اخرى.
ان الميلاد الفلسطيني الجديد والمتجدد يسعى على رغم التحديات الى تحقيق تقدم على ما هو قائم، اي تصعيد الجوانب الايجابية وتطوير معادلة الصراع العربي - الاسرائيلي، املاً في الوصول يوماً ما الى مصالحة تاريخية او على الاقل الى تعايش يستشرف آفاقاً من القبول المتبادل والتعايش السلمي.
* ديبلوماسي وكاتب سياسي مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.