درجت العادة على ان يصوغ بعض اصحاب الخيال الخصب من المؤلفين احلامهم في كتابات عرفت ب "قصص الخيال العلمي", وهي نسيج من حكايات غرائبية مستقاة من احدث الاكتشافات العلمية في زمن المؤلف الذي يحاول من خلالها استشراف المستقبل. والآن, وبعد ولادة هذا النمط الادبي بقرون, بدأ الرسامون ينافسون القصاصين. ففي ميدان الفضاء, قدم اخيراً رسام وكالة "ناسا" المبدع بات رولغنز تقويماً سنوياً استوحاه من ابحاث لم تنته بعد, مع ان الفنان آثر استباق الاحداث وتصور نتائج هذه التجارب. لو عاش عمر ابن ابي ربيعة في ايامنا هذه لما قال في بيته المشهور"... قد عرفناه وهل يخفى القمر؟", اذ لا يزال خافياً بعد قرون عدة من اطلاق الشاعر عبارته هذه. ومع ان قافلة من رواد الفضاء وطئوا سطحه, وحامت حوله وقريباً منه مركبات كثيرة, لا تزال "معرفته" حلماً يداعب اذهان علماء وباحثين كثر. ولا يختلف هؤلاء عن اسلافهم, فالطيران كان هاجس الانسان في كل العصور. المصريون والاغريق والرومان تركوا آثاراً تعبر عن ذلك. كما ان عدداً من الحكام والملوك تغنى بهذه السمة الخارقة, اذ شاع عن احد اباطرة الصين الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد انه دأب على الطيران على متن عربة الى مسافات بعيدة. اما الفرس القدماء فصوروا عرشهم محمولاً على اجنحة النسور الطائرة. موضوع قديم وفي اوروبا, عالج فلاسفة, مثل روجر بيكون موضوع الطيران الذي شغل ايضاً اذهان مصممين ورسامين عظام منهم ليونارودو دافنشي. الا ان القرن السادس عشر شهد تطوراً عظيماً في معالجة هذا الموضوع, تمثل في ابتكار ما يعرف ب "قصص الخيال العلمي" التي كتب اولاها فرانسيس غودوين 1562 - 1633. ومع الزمن نضج هذا النوع من القصص واغتنى بأفكار عجائبية مدهشة جاء بعضها في قصص الفرنسي سيرانو دو برجراك الذي تخيل طيران الانسان الى القمر. وما ان ابتكر المنطاد في القرن الثامن عشر حتى اتخذ منه كتاب "قصص الخيال العلمي" مادة لحكاياتهم التي لاقت رواجاً شديداً. لكن قصص الطيران المدهشة لم تعرف مجدها الذهبي الا على يدي الفرنسي جول فيرن 1828 - 1905 الذي فاق سابقيه في القدرة على قراءة المستقبل بدقة عجيبة, استناداً الى التجارب التي تمت في ايامه. فاذا كتابه "رحلة حول العالم في ثمانين عاماً" يذيع صيته, ويجعل اسم صاحبه فيرن على كل شفة ولسان. تخيل هذا الفرنسي رحلة فضائية الى القمر تنطلق من محطة في فلوريدا الاميركية, ورحلات اخرى حول العالم في الطائرات او في الحوامات. كما اعطى في قصصه وصفاً دقيقاً لحالة انعدام الوزن التي يعيشها المسافر على متن طائرة او عربة فضائية. وبعد رحيل فيرن بسنوات طويلة بقي خياله ماثلاً امام القراء, اذ ازدهرت "قصص الخيال العلمي" التي اختارت عالم الفضاء الواسع موضوعاً لها. وفي الاكتشافات المتتالية, ومن ثم الرحلات الفضائية التي حملت الانسان الى القمر وجد كتاب هذه القصص مادة ثمينة تنافسوا على اقتناصها. ولم يتخلف الفنانون عنهم, اذ اخذوا يتخيلون كل ما يمكن ان يحمله الزمن للانسان من مفاجآت. ومن ابرز هؤلاء بات رولنغز الرسام الشهير الذي يعمل لدى وكالة الفضاء الاميركية "ناسا", حيث تتواصل اهم البحوث والتجارب في ميدان الفضاء بالتعاون مع "المؤسسة العالمية للتبيقات العلمية". لم يكثف رولنغز بالتعبير عن هذه النشاطات العلمية المستمرة بل جهد الى تقصي النتائج التي ستتمخض عنها, وجسدها في لوحات بديعة وزنها على اشهر السنة الاثني عشر فأكسبها طابعاً قصصياً جذاباً. كانون الثاني يناير هو شهر "الاستطلاع" لدى رولنغز. ففيه يشاهد ملايين البشر, بواسطة انسان آلي مزود بتليسكوبات بعيدة المدى, عودة الانسان الى القمر. وقبيل هبوط العربة التي تقل رواد الفضاء, تحط على الكوكب طوافة ذاتية القيادة تقوم باستطلاع المنطقة بحثاً عن موقع مناسب لسفينة الرواد. وتنقل هذه الطوافة الى سطح القمر اول الامر بواسطة منصة الهبوط القمرية ارتيمس التي تخضع فعلياً الآن, لاختيارات عدة كمقدمة لاستخدامها في الرحلات الفضائية المقبلة, حيث ستكون ذات فائدة عظيمة, بسبب حجمها الذي يعادل حجم السيارة الصغيرة, وقدرتها على نقل احمال خفيفة الى القمر. اما شهر شباط فبراير فيمثل في رسومه "موعداً في السحر", اذ تستعد فيه عربة نقل نووية غمرتها اشعة الشمس للاتصال بمهبط قمري خاص يلوح لها عن بعد. وبالفعل, فان بعض العلماء يدرسون في الوقت الراهن امكان الاستفادة من عربات مزدوجة في الرحلات الفضائية الى القمر والمريخ. ولوحة آذار مارس تأخذ اسم "قبيل الهبوط", اذ تتم تسوية الموقع قبيل هبوط العربة. هذه اللوحة مستوحاة من تجارب عدة تجري الآن هادفة الى اختيار المواد والاجهزة المناسبة لاقامة موقع قمري, ومن الاجهزة المرشحة للمساهمة في هذه المهمة مولّد يعمل على الوقود النووي. ونيسان ابريل هو شهر "الشهب والنيازك" في مجموعة رولنغز، اذ نرى في الرسم الذي يحمل اسمه جرماً سماوياً لدى اختراقه المجال الجوي للأرض على ارتفاع 145 كيلومتراً فوق ساحل كاليفورنيا. الا ان الحرارة المرتفعة للغلاف الجوي المحيط بالارض تؤدي إلى انصارها هذا الكوكب الذي يبلغ طوله 1.5 كيلومتر، ما يؤدي إلى طرده خارج مجالنا الجوي. وينكب عدد من العلماء الاميركيين في الوقت الراهن على دراسة هذه الظاهرة وآثارها. وتمثل لوحة ايار مايو المسماة ب "المختبر" تجارب على العتاد والآلات المستخدمة في رحلة إلى كوكب المريخ. الا ان هذه الاختيارات لا تتم في مكان ما على الأرض، وانما على سطح القمر الذي يستغرق الوصول اليه ثلاثة ايام فقط، ما يجعله منطقة مناسبة للتحقيق من صلاحية ادوات الرحلة المريخية، بما فيها العربة الخاصة التي تحتل مقدمة الصورة. وفي حزيران يونيو يحين موعد "اليقظة" والتحديق في المدى البعيد عبر تليسكوبات كبيرة تمكن الناظر من رؤية الضوء المنتشر في مجرة تبعد عنه مسافات هائلة. وسر نجاحه في ذلك لا يعود إلى اجهزته المتقدمة وحدها، بل إلى انه يقوم بهذه المهمة من على سطح القمر، حيث لا يوجد غلاف جوي يعيق رؤية الاجسام البعيدة رؤية صافية، كما هي الحال على الارض. وكان العلماء توصلوا إلى هذه النتيجة سابقاً، وهم يعملون حالياً على الاستفادة منها للكشف عن بعض اسرار الفضاء التي لا تزال خافية عليهم. اما تموز يوليو فهو شهر "العودة إلى يوتوبيا" اذا تبدو فيه المحطة المريخية "فايكنغ 2" وهي تلمع تحت اشعة الشمس في صباح باكر عى ارض جرداء، تنتشر فيها الصخور ويغطيها الجليد. ويذكر ان المحطة التي هبطة العام 1976 في موقع سمي "يوتوببيا بلانيتيا"، قد اكتست بطبقة رقيقة من غبار المريخ. ثم يأتي اب اغسطس الذي يبدأ فيه "الاستجمام"، بحيث تسافر عائلات بأكملها إلى المريخ لقضاء عطلتها، بعد ان اصبح بوسع الجميع زيارة هذا الكوكب البعيد بكلفة قليلة بفضل التكنولوجيا المتقدمة. وينصح هؤلاء بالسفر إلى القمر اولاً ومنه الى إلى المريخ، كي يتجنبوا فعل الجاذبية الارضية العالية. وفي الواقع يتواصل التعاون منذ 1973 بين علماء مختصين على البحث عن سبل تيسير السفر في الفضاء الخارجي، وتوفير الوقود اللازم قيام برحلات طويلة كهذه. وخصص الرسام بات رولنغز شهر ايلول سبتمبر للمهمات الصعبة التي يلخصها عنوان الوحة "المدار"، اذ تقوم عربة فضائية، في طول ملعب كرة القدم، باصدار سيل من الايونات الذرات المكهربة التي تساعدها على الانطلاق في مدارها حول المريخ. وجدير بالذكر ان العربة قادرة على نقل 130 طناً إلى الكوكب الأحمر في رحلة تستغرق ستة اشهر، ويمكنها ان تعيد الكرة بعد مضي 52 شهراً. وفي تشرين الاول اكتوبر تحصل "المواجهة"، اذ تتهيأ سفينة فضاء يقودها طيار آلي للقاء جسم غريب هو عبارة عن محطة تقوية لاسلكية كانت اطلقت قبل ما يزيد عن خمس وعشرين سنة، ولم يعد لها فائدة تذكر. وما ان تقترب السفينة افضائية من هذه المحطة التي لم تتوقف عن الدوران حتى تلقي القبض عليها وتدفعها في الفضاء الواسع، كيما تتابع حركتها على غير هدى. وهذه العملية التنظيفية التي يفترض ان تتم على ارتفاع 11 الف كيلومتر فوق القطب ليست من بنات افكار الفنان ومحض خياله، بل يجري حالياً باحثون عديدون تجارب متواصلة للتعرف على كيفية القيام بذلك على اكمل وجه. اما تشرين الثاني نوفمبر فهو شهر "التعرف عن كثب" على اضخم جبل بركاني في كواكب المجموعة الشمسية، يدعى الاولمب وينتصب فوق ارض المريخ، بحيث يبلغ ارتفاع قمته الهائل اكثر من 27 كيلومتراً، وقطره الضخم 130 كيلومتراً، ما يجعه جبلاً عملاقاً بالمقارنة مع اي جبل بركاني على الارض. وقد يوفق الانسان في التعرف عن كثب على جبل الأولب هذا، كما يقول باحثون منهمكون في دراسة آلية تشكل سطوح عدد من كواكب المجموعة الشمسية بينها القمر والمريخ. آخر لوحات رولنغز لوحة كانون الاول ديسمبر التي اطلق عليها الفنان اسم "المجهول" لأنها تمثل مشهداً اكثر عمومية وشمولاً من سابقيه. وهكذا فان الرسام بات رولنغز اراد ان يظهر لنا كيف ان الانسان الذي تعرف كواكب المجموعة الشمسية، وخصوصاً القمر والمريخ، في درجات متفاوتة سيتابع محاولاته لسبر اغوار الفضاء المجهول. اذ ان نجاحه هذا زاد في ثقته بنفسه وأعطاه الحماس لمعرفة ما يحيط به، ولو لمسافات شاسعة، بدقة اكثر، ولكشف اسرار الفضاء الغامض الذي يحد مجموعته الشمسية.