ليزا مينيللي هل تذكرونها؟ ستدهشون وتقولون ان احدا لم ينسها حتى تصبح موضوعا للذكرى! بلى.. هي نسيت نفسها لفترة وغابت، عبرت طريق آلام طويلة، قبل ان تعود اخيرا وقد صممت على مجابهة العالم من جديد، فتاة ناضجة متألقة في الخامسة والاربعين من عمرها. عادت ليزا، في فيلم قد لا يكون مأثرة فنية، لكنه خطوة على طريق العودة، كما عادت الى جانب شارل أزنافور نجمة استعراض متألقة... وعادت اخيرا بضحكتها العريضة وذهنها المتقد. في تلك الليلة الرائعة، كان جمهور الصالة اللندنية الفخمة ينظر بذهول الى النجمة جودي غارلند وهي تحيي واحدة من آخر امسياتها الغنائية. كان يعرف ان نجمته المفضلة سوف تعتزل قريبا، وانها هنا تخصه بما يشبه حفلة الوداع، لذلك لم يبخل عليها بالتصفيق وراح يستهيدها اغنية بعد اغنية، حتى وصلت الى اغنية "أوفر ذي ريمو" فوق قوس قزح، فأطلقت صوتها الرائع ينشد المقطع الاول، لكنها سرعان ما ابتسمت وراح صوتها يخمد رويدا رويدا فيما راحت صبية في نحو الثامنة عشرة من عمرها تتابع الاغنية نفسها. وقد مدت لها جودي ذراعها مصطحبة اياها الى مقدمة المسرح وسط دهشة الجمهور وتصفيقه. كان ذلك بالنسبة الى الصبية، دخولا امبراطوريا الى عالم الغناء والاستعراض، دخولا لا تجرؤ على ان تحلم به اي فتاة من عمرها... ولكن تلك الفتاة لم تكن أيا كان، كانت سليلة مجدين في عالم الفن: مجد نجمة الاستعراض الهوليوودي الكبيرة جودي غارلند من ناحية، والمخرج ذي الاصل الايطالي فنشنتي مينيللي من ناحية ثانية.. كانت ثمرة الرباط المقدس الذي كان قام قبل ذلك بعقدين بين نجمي هوليوود المدلّلين. من هنا.. حين ظهرت ليزا مينيللي على مسرح قاعة "بالاديوم" اللندنية في تلك العشية المشهودة من العام 1964، كان من الطبيعي للجمهور ان يستقبلها استقبالا حاشدا، خاصة وان ذلك "الاخراج" المسرحي الذي صاحب ظهورها الاول، جعل منها استمرارا طبيعيا لوالدتها. غير ان ليزا لم تبرز كمكملة لجودي وحسب، بل انها سرعان ما كبرت، ومنذ تلك الليلة نفسها، صاحبة شخصية مستقلة، وفنانة اصيلة، ذات جاذبية وحضور استثنائيين. اجتياز الانفاق اليوم، بعد تلك البداية بما يقرب من ثلاثين عاما، عادت ليزا مينيللي لتسحر الجمهور فوق خشبة المسرح.. ولكن هذه المرة في فرنسا ومع شارل ازنافور الذي قدمت برفقته استعراضا استقبله الجمهور بحرارة.. وان كانت حرارة الاستقبال الراهن أضأل من حرارة الاستقبال الاول.. فبين العام 1964 والعام 1992 تغيرت امور كثيرة، بل وان ليزا مينيللي نفسها اجتازت انفاقا وانفاقا، وعبرت تباعا، بعض اكثر سنوات مجدها ضياء، وبعض اكثر سنوات مجدها ظلاما... حيث ان المرء لا يسعه الا ان يتساءل، اذا قيض له ان يطلع على الآلام التي عاشتها وخبرتها ليزا: ترى كيف يمكن لفنانة دائمة الابتسام حاضرة الذهن، وقّادة العينين، تحمل على كتفيها مجدا هوليووديا كبيرا، ان تعبر لحظات الحزن التي عبرتها، طوال سنوات عديدة، لم تخرج من ظلمتها الا في العامين الاخيرين. هي التي لحضورها من القوة ما يجعل الآخرين يعتقدون انها لم تغب عنهم ابدا؟؟ والحال ان ليزا غابت بالفعل، بل وكانت سنوات الثمانينات من اصعب سنوات عمرها.. سنوات تشرد وانطواء على الذات. صحيح انها واصلت عملها وهي في عز ثلاثينات عمرها.. لكن النقاد والجمهور راحوا يتهمونها بأنها صارت "دقة قديمة" وبدأوا ينصرفون عنها، فكانت النتيجة ان غرقت النجمة الضاحكة في الخمر والاحزان.. في الاحزان الكثيرة ولكن في الخمر الذي أدمنته حتى حدود المرض، وصار جزءا من حياتها اليومية، مما اضطرها في العام 1985 الى الالتحاق بمعهد بيتي فورد حيث جرت مداواتها من داء الادمان!! الأم في حوض الحمام ولكن كيف حدث لليزا التي طلعت طلعة قوية متألقة، ان غاصت في تلك الهاوية؟ أمر يصعب تفسيره، وخاصة اذا ما تذكرنا ان ابنة جودي غارلند كانت طوال السبعينات، وبفضل افلام عديدة تألقت فيها، نجمة الملايين عن حق، وان اشتغالها الدائب على نفسها جعل الملايين ينسون انها ابنة جودي غارلند - ذلك النسب الذي كان ضايقها خلال مرحلة اولى - ويتعاملون معها كفنانة قائمة في ذاتها، وكذلك بفضل تألقها اكثر واكثر كنجمة استعراضية من طراز رفيع. على الشاشة بدأت ليزا عملها السينمائي منذ العام 1967 في فيلم عنوانه "تشارلز رابلز" صحيح انه لم يكن ذا اثر كبير، لكنه اكد موهبة ليزا كممثلة ذات حضور متميز.. واكد اننا هنا في ازاء ممثلة واعدة، وراحت تتهيأ لخوض المغامرة السينمائية فرحة متألقة، ولكن جاءت وفاة امها لتقطع لها حبل السعادة... فجودي غارلند وجدت ذات يوم ميتة في حوض الحمام، نجمة منطفئة تحمل مع موتها جزءا كبيرا من تاريخ هوليوود. وبالطبع غرقت ليزا في احزانها، التي لم يوقظها منها عملها في افلام مع مخرجين كبار من طينة ألن باكولا واوثو بريمنغر.. لا سيما وان تلك الافلام لم تنل من النجاح ما كان متوقعا. من هنا كان على ليزا مينيللي ان تنتظر عملها في فيلم "كاباريه" 1971 وتعاملها مع المخرج بوب فوس الذي كان يعتبر نفسه ابنا روحيا لفنشنتي مينيللي والد ليزا... في ذلك الفيلم المثير والرائع، قبل ان تصل، في ميدان السينما، الى الذرى التي كانت تسعى للوصول اليها. شلة من العجائز حين تألقت ليزا مينيللي في "كاباريه" كانت اضحت امرأة في عز نضوجها تغني وترقص جامعة بين الاساليب الهوليوودية القديمة، وبين الاساليب الحديثة المعتمدة على الجاز والروك.. وهي في ذلك الفيلم اعادت الى الاذهان اروع ادوار مارلين ديتريش... وبدت كممثلة من طراز رفيع... واحست في سرها، حين راحت تشبه حينا بمارلين ايتريش، وحينا بأديث بياف، انها خرجت اخيرا من جلدها كإبنة لجودي غارلند... وهي اليوم اذ تتذكر ذلك الفيلم وشخصية سالي فيه تقول: "انني اعتقد ان سالي مخلوقة ساحرة.. ولكن لا تطلبوا مني ان اصدر مثل هذا الحكم على نفسي.. من الصعب على المرء ان يحاكم نفسه، كل ما في الامر انني ابذل غاية ما في وسعي...". ولأنها بذلت ما في وسعها، في ذلك الفيلم، نالت جائزة "الاوسكار" وهي بعد رضا الجمهور، ارفع جائزة تحصل عليها فنانة في هوليوود.. واليوم اذ تتذكر ليزا ذلك الفوز تقول: "الاوسكار؟ تمثال صغير تتأمله لكنك لن تكون قادرا على استخدامه افضل من ذلك. لقد كنت على الدوام ممنونة لحصولي على تلك الجائزة.. لكنني اعتقد اليوم انها تكريم مرعب!". خرجت ليزا مينيللي من عملها في "كاباريه" نجمة كبيرة، وبدت الآفاق امامها مفتوحة مليئة بالآمال.. ولكن في تلك اللحظة بالذات، عاد شبح امها جودي يلوح لها من جديد، على صورة الفنانين العجائز من اصدقاء الأم، اعضاء شلة فرانك سيناترا وسامي دايفيز ودين مارتن.. فهؤلاء سرعان ما راحوا يحيطون بها بشكل غريب، وهي استجابت لتحلقهم وراحت تغني معهم في حفلات يتجولون بها في طول الولاياتالمتحدة وعرضها، ورغم نجاحها في تلك الحفلات، الا ان وضعها بدا غريبا، وهي الشابة الحسناء المقبلة على الحياة، وسط شلة من العجائز الذين يصرون على ان يقدموا لجمهور على شاكلتهم، انواع الغناء والاستعراض القديمة.. وهكذا، بالتدريج ومن دون ان تدري، وسط وضع يعود عليها بأرباح مادية كبيرة، راحت ليزا تنزلق وتنزلق لتعود من جديد، في احضان شلة سيناترا وشركاه، ابنة لجودي غارلند.. يتوجه الشبان، حقا، للتفرج على حفلاتها ولكن المكان الاول في تلك الحفلات يكرس للعجائز. الماضي الى الوراء فجأة تنبهت ليزا للمأزق الذي وقعت فيه... وراحت ترتب خطة للتراجع، وصادف في تلك الاونة بالذات ان اعطاها المخرج مارتن سكورسيزي ذلك الدور الذي سيكون المعادل الطبيعي والرائع لدورها الكبير في "كاباريه"، نعني بذلك دورها في فيلم "نيويورك.. نيويورك" الى جانب روبير دي نيرو، ولكن الغريب ان نجاحها الكبير في هذا الفيلم كبلها اكثر واكثر وجعلها تطرح نفسها وماضيها واحلامها على بساط البحث، وكان في ذلك بداية غوصها في سنوات الظلام والحزن والغيبوبة الطويلة والادمان... هذه الغيبوبة التي لم تفق منها الا اخيرا... اليوم صارت ليزا مينيللي نجمة ناضجة في الخامسة والاربعين من عمرها، مليئة بالشجاعة وبالحماس، بعدما تخلصت من الادمان ومن سنوات الحزن.. ها هي اليوم تعود الى التمثيل والى الرقص والى الغناء، تعود الى المسرح والى الشاشة بل والى التلفزة قائلة ان الدرس الاول الذي تعلمته يقول لها ان المرء "لا بد ان يجد نفسه محاطا دائما بأناس يسعون الى ايقاعه في الشرك" اي شرك؟ لا تقول بوضوح. لماذا؟ لأنها كما تقول تحاول الآن ان تضع الماضي وراءها، وقد عادت بشكل جديد: خففت من وزنها الذي كان زاد عن الحد المعقول، وباتت راغبة في غزو العالم من جديد، وتقول: "انني اليوم اكثر رزانة بكثير، واكثر حرية بكثير، لذلك اجدني راغبة في عمل اشياء ارغب فيها. اريد اليوم ان اتحمل مسؤولياتي بنفسي وان اصل الى لحظة يمكنني فيها ان اقول لا" وتؤكد انها بحاجة للعمل مع مخرج قوي الشخصية، من طراز بوب فوس، ومارتن سكورسيزي اللذين اعطياها اجمل دورين لعبتهما حتى الآن. هل هذا لأنها تريد ان تبرهن على شيء؟ "أبدا، تقول، اريد فقط ان احقق عملا افضل. بإمكاني هذا وارغب فيه، واعتقد انني اليوم انسانة قبل كل الناس الآخرين. فقط ما اقوم به ربما كان مختلفا بعض الشيء، لكن الاحاسيس التي استشعرها هي الاحاسيس التي يستشعرها الناس اجمعين". آتية من بعيد بعد جولتها المسرحية الى جانب شارل أزنافور، عادت ليزا لتقيم لفترة في نيويورك، المدينة التي تتخذها موطنا لها بعيدا عن صخب كاليفورنيا واشاعاتها التي لا ترحم، وهي اذ تنظر اليوم من شرفة بيتها الى نيويورك تؤكد لمن يحدثها انها مسرورة لأنها تخلصت من براءة غرائزها الاولى.. ومسرورة لأنها تشعر انها قادرة على الاحتراق الى الابد بأضواء المسرح... مسرورة لأنها عادت الى الحياة والى الفن.. عادت اليهما آتية من البعيد.