في جزء من يومياته يتحدث فيه عن رصده، في شكل يومي، لتصوير فيلم "نيويورك ... نيويورك" في هذه المدينة، يروي السينمائي والرسام الأميركي الراحل أندي وارهول، أنه حدث ذات مرة - أمام عينيه - أن جاء مارتن سكورسيزي في رفقة بطلة الفيلم لايزا مينيللي، يخبطان على باب شقة مصمم الملابس للفيلم روي هالستون وهما يصرخان بهذا الأخير:"جيء لنا بأي نوع من المخدرات... أي نوع!". كان سكورسيزي، مخرج الفيلم، ولايزا غارقين في انهيار عصبي شامل سيقال لاحقاً إنه أصابهما معاً طوال زمن تصوير الفيلم، ولن يخف من بعده. ذلك أن هذا الفيلم الذي كان سكورسيزي يعوّل عليه كثيراً، أخفق تماماً في الوصول الى جمهوره ليصبح لاحقاً صاحب سمعة تصفه بأنه أكثر أفلام مارتن سكورسيزي فشلاً. وليس فقط على صعيد المدخول، إذ لم يتمكن في عروضه من الحصول إلا على جزء من الموازنة التي أنفقت عليه 14 مليون دولار وكان هذا رقماً ضخماً في ذلك الحين - 1977، بل كذلك على صعيد ردود الفعل النقدية، إذ اعتبره النقاد نكوصاً في مسيرة ذلك المخرج الذي كان قبل ذلك بعام، قد وصل الى ذروة نجاحه ومكانته السينمائية عبر فيلم"سائق التاكسي". ومع هذا حين شرع سكورسيزي يحضِّر لمشروع"نيويورك... نيويورك"الذي كان ثالث فيلم يجمعه بروبرت دينيرو، كان يعلّق آمالاً كبيرة. من ناحية كي يخرج بعض الشيء من أجواء الواقع القاتمة التي كانت أفلامه السابقة ? والرائعة! ? قد حصرته فيها، ومن ناحية ثانية كي يعبّر عن حبه الشديد لنوع سينمائي كان قد أضحى شبه منسي في ذلك الحين: الكوميديا الموسيقية. ثم من ناحية ثالثة، كان سكورسيزي يأمل بأن تؤتي ثمارها تلك الفرصة التي أتته بفضل هذا الفيلم للعمل مع لايزا مينيللي، ابنة سيد الكوميديا الموسيقية ونجمتها في سينما هوليوود: فنشنتي مينيللي وجودي غارلاند. وكانت لايزا خارجة لتوها من فترة كآبة أحدثتها لديها خيبتها النسبية إزاء النجاح غير الكبير الذي كان حققه فيلمها"كاباريه"من إخراج بوب فوسّي. هذه العناصر كلها، كانت فتحت أبواب الأمل واسعة أمام هذا المشروع. غير أن النتيجة أتت مخيبة تماماً لآمال سكورسيزي، الذي بدا، أنه لم يخلق لهذا النوع من السينما، خصوصاً أن مناخ الفيلم وعوالمه جعلته يبارح أزقة نيويورك وشوارعها وحثالتها، كي يغوص في لعبة الاستوديوات، ناهيك بنظام النجوم وما شابه. ومن هنا بدلاً من أن ينقذ"نيويورك... نيويورك"سكورسيزي، سيكون الفيلم في حاجة الى من ينقذه، وفي شكل متواصل كما يبدو. أو هذا ما كان عليه رأي الشركة المنتجة "مترو غولدوين ماير" جزئياً والتي صور الفيلم في استوديواتها. ومن هنا بعدما كان طول الفيلم في تقطيعه الأول الذي تلا تصويره، نحو أربع ساعات، اختصر أول الأمر الى ما يقارب ثلاث ساعات. ثم اختصر مرة أخرى الى أكثر من ساعتين قليلاً. غير أن هذا كله لم يقنع الجمهور، الذي يمكن القول إنه إذا كان قد أحب شيئاً من هذا الفيلم، فإنما أحب أغنيته الرئيسة"نيويورك... نيويورك"ولكن... لاحقاً، بصوت فرانك سيناترا، لا بصوت مغنيتها في الفيلم لايزا مينيللي. ومع هذا كله، كانت الاستوديوات قدمت كل التسهيلات اللازمة لإنجاح العمل. وهي كانت تأمل من هذا الفيلم أن يصبح بالنسبة الى لايزا، ما كانه فيلم"مولد نجمة"بالنسبة الى أمها جودي غارلاند. وكان من الدلالة بمكان في هذا الإطار أن لا يزال يستخدم في الفيلم الجديد خزانة ملابس أفلام أمها، كما أن مزين الشعر الذي جيء به للفيلم الجديد هذا، كان هو نفسه الذي عمل في السابق مع جودي في فيلم"ساحرة أوز". بل حتى في مجال الأغاني والقطع الموسيقية التي استخدمت في الفيلم، كانت هناك بعض ألحان جودي، مع إضافات منها طبعاً"نيويورك... نيويورك" كتبها ولحنها جون كاندر وفرد ايب، انطلاقاً من أسلوب الأربعينات نفسه. لقد توافر هذا كله للفيلم... ومع هذا لم ينجح. وحتى اليوم لا يزال السؤال قائماً: لماذا كان هذا الفشل؟ لماذا لم يحب الجمهور فيلماً يذكّر كل ما فيه بأفلام رائعة أحبها هذا الجمهور نفسه في الماضي؟ بل لماذا يمكننا القول إن أول الذين أعلنوا عدم استساغتهم للفيلم كان فنشنتي مينيللي، والد لايزا ومخرج أكبر نجاحات أمها، مع أن سكورسيزي كان في ذلك الوقت لا يكف عن الإعلان بأنه إنما حقق المشروع كله تكريماً لفنشنتي بالذات؟ إن الأجوبة على هذه الأسئلة متعددة ومتنوعة. ولكن أياً منها لم يتهم الموضوع نفسه بالمسؤولية عن الفشل، بل إن كثراً رأوا في جوهر الموضوع تواصلاً لما كان سكورسيزي نفسه قد قاله دائماً قبل"نيويورك... نيويورك"وسيقوله دائماً من بعده، حول أنانية الذكر والبارانويا التي تدمره، وإحساسه الدائم بعدم الأمان. من هنا ينطلق سؤال أساسي: إذا كان جوهر موضوع مثل هذا ينفع في أفلام واقعية شديدة العنف الداخلي ? والخارجي أحياناً -، يتجابه فيها الذكر، مع البيئة المحملة بكل الأخطار والشرور، هل كان عليه أن ينفع في فيلم ذي مناخ ليلي ? حلمي مشبع بالأغاني وضروب الاستعراض؟ لعل هذه الكيمياء المخطئة تفسر الإخفاق. خصوصاً أن الصراعات في هذا الفيلم برّانية ومباشرة، إذ أن الموضوع لا يعدو كونه موضوع لقاء يجرى بعد الحرب العالمية الثانية وعودة الجنود الأميركيين من الجبهة. واللقاء يدور في ناد ليلي صاخب بين شابة تحاول أن تشق طريقها في عالم الغناء، وبين جندي عائد يحاول أن يستعيد مكانته كموسيقي عازف. بعد اللقاء تبدأ العلاقة بين الاثنين: حب وزواج. فراق ونجاح. إخفاق وغيرة، وكل هذا على خلفية الصراع الذي يحتدم بينهما. في سياق هذا لم يقدم سكورسيزي شخصيتين إيجابيتين في شكل واضح أو سلبيتين في شكل أوضح. صحيح أنه أعطى الذكر دينيرو صورة قاسية وحمّله الجزء الأساس من المسؤولية في الصراع الذي يدور بينه وبين الفتاة. لكن هذه، حتى ولو حمل الفيلم ? ضمنياً على الأقل ? دعوة الى التعاطف معها، بدت في أحيان كثيرة من الفيلم سلبية ولا تخلو أيضاً من شيء من الأنانية. ولاحقاً سيلقي كثر باللائمة في هذا الأمر على لايزا مينيللي نفسها التي رأى كثر أنها، خلال عملها في هذا الفيلم عاشت تحت وطأة مثلثة: هيمنة ذكرى أمها عليها. الخوف من ألا يكون الفيلم على مستوى ما كان يحققه أبوها، ثم إحساسها بالفشل إزاء"كاباريه"، فإذا أضفنا الى هذا، تناولها الدائم للمخدرات في رفقة سكورسيزي الذي كان هو الآخر يعاني في ذلك الحين مشكلات عائلية كثيرة حمل زوجته ومطاردتها له، وصولاً الى طلاقهما في النهاية، وأيضاً مع إحساس روبرت دينيرو الدائم أنه ليس في مكانه في هذا الفيلم، يمكننا أن نعتبر اننا عثرنا على بعض الأسباب التي جعلت"نيويورك... نيويورك"واحداً من أكثر أفلام سكورسيزي فشلاً... وعلى الأقل حتى عودة الاشتغال عليه وتطويله من جديد حين صدر في اسطوانات مدمجة. "نيويورك... نيويورك"1977 كان الفيلم الحادي عشر لمارتن سكورسيزي الذي كان حين تحقيقه في الخامسة والثلاثين من عمره. طبعاً يمكننا أن نفهم، بعد النجاحات الكثيرة التي كان حققها مع أفلام مثل"سائق التاكسي"وپ"شوارع خلفية"وپ"أليس لم تعد تعيش هنا"كيف أن الإخفاق أغرقه في الحزن والمخدرات أكثر وأكثر. وهي وضعية لم ينقذه منها سوى صديقه الدائم روبرت دينيرو، الذي أعطاه في ذلك الحين بالذات كتاب"الثور الهائج"عن حياة الملاكم جاك لاموتا. فغرق في الكتاب ثم في الاشتغال عليه ليحققه بعد عامين جاعلاً منه واحداً من أعظم الأفلام في تاريخ السينما الأميركية. [email protected]