في المبنى الانيق المطل على ساحل البحر في طرابلس الغرب، ترتفع لافتتان: الاولى تحت اسم "امانة التعاون مع مصر" فيما تحمل الثانية اسم "امانة التكامل مع السودان". الا ان هذا التمييز الذي قد يكون صورة لبعض التطورات الاخيرة في العلاقات بين طرابلسوالقاهرة، كان من الصعب توقعه قبل سنوات. وفي الواقع، فقد بلغ حجم الاستثمارات الليبية، الحكومية منها والخاصة، حوالي 1.2 مليار دولار في مصر، استناداً الى تقديرات متطابقة، ومن غير المستبعد ان تسجل هذه الاستثمارات نمواً جديداً في السنوات الثلاث المقبلة، خصوصاً مع محاولات الدخول في ملكية بعض المؤسسات المصرية التي سوف تنتقل ملكيتها من القطاع العام الى القطاع الخاص. وبحسب مصادر ليبية، فان بعض الاستثمارات الحكومية الليبية ما زال ينتظر موافقة الحكومة المصرية، خصوصاً في موضوع الفنادق الدولية المطروحة للبيع في مدينة القاهرة، بعدما كانت مدينة الاسكندرية طوال السنوات الثلاث الماضية هي نقطة الجذب بالنسبة الى الليبيين. وبدأ الاستثمار الليبي في مصر يتجاوز حدود قطاع الفنادق والخدمات وصولاً الى التركز في قطاعات اخرى، من بينها النفط والزراعة وحصلت شركة "تام اويل" التي تملكها الحكومة الليبية على حق اقامة محطات لتوزيع المحروقات على خط طبرق - السلوم وصولاً الى مدينة الاسكندرية لتلبية احتياجات هذه المنطقة. كما فتح الباب امام الشركات النفطية المصرية للعمل في ليبيا. وتم الاتفاق بين البلدين اخيراً على تمويل تنفيذ اعمال خطوط السكك الحديد وتوسعة الطرق البرية، والربط الكهربائي، اذ تتولى ليبيا توفير التمويل الكافي لهذه المشاريع، فيما تقوم الشركات المصرية بأعمال التخطيط والتنفيذ والتصنيع. وتجاوز حجم المبادلات التجارية بين البلدين، ولو بصورة غير شرعية احياناً، جميع المستويات التي حققها في السنوات العشر الماضية، وتحولت الحدود البرية المشتركة الى اسواق تجارية او منطقة حرة، يتم فيها تبادل السلع وفقاً لحاجات كل سوق، ولمعدلات الاسعار القائمة. فيستورد المصريون الآلات الكهربائية للافادة من اسعارها المتدنية نسبياً في ليبيا، فيما يصدرون السلع النسيجية التي تنتجها المصانع المصرية. وازدهرت تجارة السيارات الليبية في الاسواق المصرية على رغم مخالفتها الصريحة للقانون. وبلغ عدد السيارات الليبية التي يقودها مصريون بناء على وكالات يتم تجديدها سنوياً في ليبيا 120 الف سيارة في اقل من شهر. كما تراجعت اسعار الحديد في السوق المصرية بنسبة وصلت الى 30 في المئة احياناً نتيجة استيراد التجار المصريين للحديد الذي تنتجه المصانع الليبية. وزائر ليبيا في هذه الفترة يكتشف مدى تضخم حجم العمالة المصرية التي تحولت اخيراً الى مشكلة نتيجة الفائض الذي حققته، الامر الذي دفع اسعار هذه العمالة الى مستويات اقل بكثير مما كانت تحصل عليه في الماضي، كما دفع الحكومة الليبية الى العودة الى نظام القسائم بالنسبة الى المواد الغذائية التي تحصل على دعم حكومي، بعدما برزت مشكلة توفيرها باستمرار نتيجة التزايد الكبير في الطلب عليها. ولعل المشروع الاهم الذي يعكس تزايد معدلات التعاون بين مصر وليبيا يتمثل في محاولة توطين مليون مصري في الصحراء الليبية، واستمرار التحضير لانجاحه من قبل الحكومتين على رغم الاعتراضات والمخاوف التي اثارها في ضوء التجارب السابقة. وقد عمد الليبيون في محاولة لطمأنة المصريين، الى الطلب من الحكومة المصرية وضع ملاحظاتها على المشروع سواء من الناحية الاقتصادية او من النواحي الاخرى. في خلال السنتين الماضيتين، تم التوقيع بين القاهرةوطرابلس الغرب، على عشر اتفاقيات تتيح لمواطني البلدين حق التملك والعمل وانتقال رؤوس الاموال واقامة المشروعات وتبادل السلع من دون قيود، على رغم ان بعض هذه الاتفاقيات لا زال يحتاج الى نصوص واجراءات تنظيمية لتسهيل تنفيذها. وتوصف هذه الاتفاقيات عادة بأنها اقل من اتفاقيات تكامل، لكنها اكثر بكثير من مجرد اتفاقيات تعاون بين بلدين مجاورين. ويرتكز المتطرفون في مجال الدعوة الى رفع مستوى التكامل بين مصر وليبيا الى مجموعة اعتبارات موضوعية لتبرير دعوتهم، على رغم اعترافهم بالفروقات على المستوى السياسي، وأول هذه الاعتبارات، انه يمكن لمصر ان تكون سوقاً كبيرة وواعدة لتصريف المنتجات الليبية، خصوصاً الصناعية فيها. فلقد نجحت ليبيا في الفترة الماضية، في اقامة صناعات ضخمة، كما هي حال صناعة الحديد مثلاً، الا انها ما زالت تحتاج الى اسواق كبرى، كما هي السوق المصرية التي يصل حجم قدرتها الاستهلاكية الى 57 مليون شخص. كذلك، فان الشركات المصرية باتت، بفعل الخبرة المهنية التي اكتسبتها، قادرة على تلبية احتياجات الاقتصاد الليبي في مجال تنفيذ احتياجات البنى التحتية، لبناء طرق المواصلات والشبكات الكهربائية والمائية، وفي مجال التصنيع الزراعي، اضافة الى استصلاح الاراضي الزراعية. ولعل الخبرات الفنية المصرية على مختلف المستويات هي افضل ما يمكن ان تحتاجه السوق الليبية، كما ان الانتاج المصري في مجال الصناعات الغذائية والمنسوجات والألبسة قادر بعد التحسن النوعي الذي حققه في خلال السنوات العشر الماضية ان يوفر احتياجات ليبيا من هذه السلع. وينطلق المؤيدون لزيادة التكامل الليبي - المصري من اطار اكثر شمولاً. فليبيا ومصر ربما هما افضل نموذج للتكامل العربي في معنى اوسع، ليبيا الدولة النفطية، القليلة السكان نسبياً، الى جانب مصر الدولة الغنية بقدرتها السكانية وخبراتها المهنية. فهل ما جرى ويجري حتى الآن يسير في اتجاه التكامل؟ قبل اشهر، تدخلت السلطات الحكومية في كل من مصر وليبيا لمنع بعض الاشكالات التي حصلت في كل من البلدين ضد مواطنيها من التطور. الا ان هذه الاشكالات على رغم محدوديتها تعكس الى حد بعيد حاجة العلاقات بين البلدين الى الكثير من اعادة التنظيم على أسس عقلانية لا تتأثر بردات الفعل والمفاجآت. وفي الواقع، تعرض المحلات التجارية في المدن الليبية الرئيسية، والتي تحول قسم كبير منها الى القطاع الخاص، منتوجات مصرية. الا ان هذه المنتوجات لا تمثل المستوى الجيد الذي بلغته الصناعات المصرية. والاصح انها تمثل المستوى الاكثر رداءة، والذي لم يجد ربما اسواقاً اخرى للتصريف. ويغلب على المعاملات التجارية الحالية بين البلدين طابع الصفقة السريعة لتحقيق افضل نسبة ممكنة من الارباح في اسرع وقت، في غياب التجارة المنظمة، وفقدان القواعد القانونية والاجرائية للتحويل، ومن غير الممكن الاتكال على مجموعة تجار مغامرين لتركيز التبادل، لا بل المطلوب اعادة تنظيم هذا التبادل، سواء على مستوى القطاع الخاص، او على المستوى الحكومي لمنع الاستغلال والفوضى. وعلى رغم ان ما يسمى "التخصيص" في ليبيا بدأ طريقه، الا ان تنمية التبادل التجاري بين البلدين تحتاج الى قدر اكبر بكثير مما هو قائم حالياً بالنسبة للتحويل الى الخارج. والمشكلة الاهم ربما التي تواجهها محاولات تنظيم التبادل بين البلدين تتمثل في حاجة المصدّر المصري الى مظلة قانونية وتشريعية ومالية تحمي حقوقه وتوفر المعالجة السريعة للمشاكل القانونية التي يمكن ان يواجهها. وفشلت حتى الآن المحاولات التي جرت لحل مشكلة التحويل العائدة للعمال المصريين في ليبيا. فالكثيرون منهم لا يتمتعون بحق التحويل عن طريق المصارف، وبالتالي فهم يلجأون الى السوق السوداء على رغم فارق السعر الدينار الليبي يساوي 3.3 دولار اميركي في المصارف الليبية، في حين ان سعره في السوق الحرة لا يتجاوز 1.2 دولار، وعلى ضوء تراجع معدلات الاجور، فإن العمالة المصرية المدربة والمؤهلة قد تجد نفسها مضطرة، مرة جديدة، الى البحث عن اسواق عمل جديدة، لذلك فإن هناك حاجة ماسة لاعادة تنظيم وضع العمالة المصرية في ليبيا بأية صيغة يمكن ان توفر مصلحة الطرفين. في السنوات الثلاث المقبلة، تكون مصر انهت تحرير اقتصادها وحولته من اقتصاد الدولة والقطاع العام الى اقتصاد قوى السوق وحررت سوق القطع وأباحت الاستيراد. في حين ان طريق التخصيص في ليبيا ما زالت في بدايتها. ومن الاكيد ان التعاون، في معناه الواسع، بات يحتاج اكثر من اي وقت مضى الى خطوات تضبط ايقاع الحركة وفقاً لمعايير موضوعية وعقلانية تضمن مصلحة البلدين، لئلا تتكرر تجارب الماضي البعيد والقريب.