من المعروف ان المعارض تقام عادة بصفة دورية منتظمة كل سنة او سنتين او حتى كل اربع سنوات. ولكن تتميز هولندا عن سائر دول العالم بمعرض فريد لا يقام سوى كل عقد من الزمان اي كل عشر سنين. والغريب ان هذا المعرض هو للزهور والنباتات والتي عادة ما يكون عمرها قصيراً لا يتجاوز الاسابيع او الاشهر! وتعتز هولندا للغاية بزهورها الجميلة والتي تبلغ اوج روعتها وجمالها في فصل الربيع، وخاصة زهرة التوليب التي صارت رمزاً قومياً للبلاد نظراً لانتشارها وتنوع اصنافها هناك. ولكن المعرض الذي ينتظره الناس عشرة اعوام كاملة لا يقتصر على زهرة التوليب الشهيرة وإنما يضم كل ما يخطر على البال من نباتات وزهور من جميع انحاء العالم. لذلك ليس مستغرباً ان يطلق على المعرض اسم "فلوريد" اي فن الازدهار والازهار. ونظراً لدقة "المادة لب المعرض"، اي الازهار ورقتها وعمرها القصير نسبياً، فقد ارتأى المسؤولون ان يمتد "فلوريد" على مدى ثلاثة فصول كاملة بحيث يفتح ابوابه في التاسع من نيسان ابريل الجاري ويستمر حتى اوائل شهر تشرين الاول اكتوبر المقبل. حكاية "فلوريد" ويحمل هذا المعرض الرقم اربعة فقط اذ ان اقامته تعود الى اواخر الخمسينات عندما قررت السلطات الهولندية تبني فكرته بحيث يتم التخطيط له بعناية فائقة على مدى فترة زمنية طويلة ليعكس بحق كل جديد وتطور لحق بهذا العالم المتجدد، عالم استنباط الزهور وتربيتها. وكان الهدف من وراء ترك عشر سنين كاملة بين المعرض والآخر الذي يليه هو ان يكون التأني العامل الاساس في التخطيط للمعرض قبل اقامته بخاصة وان هولندا تشهد مع كل ربيع معارض زهور التوليب التي تشتهر بها، وهكذا كان... وأقيم اول معرض "فلوريد" في العام 1962 في مدينة روتردام، والمعرض الثاني في العام 1972، والثالث في العام 1982 والاخيران اقيما في موقعين مختلفين في مدينة امستردام. ومن الطبيعي ان عدد زوار هذه المعارض السابقة بلغ الملايين من البشر، وينتظر ان يبلغ عدد زوار معرض هذا العام اكثر من مليوني شخص بخاصة وأن اقامته تصادف مع عام الاندماج والوحدة بين الدول الاوروبية. ويقام معرض فلوريد هذا العام في مدينة حديثة التاريخ نسبياً تسمى "زوترمير" بالقرب من العاصمة "لاهاي"، وقد تأسست في العام 1963 بهدف واضح ومحدد وهو ان تمتص الزيادة السكانية التي اصبحت عبئاً على العاصمة وبالتالي تخفيف الضغط عنها. ووضع المسؤولون في اعتبارهم ان تستوعب المدينة يوماً ما مئة الف نسمة، وقد بلغ عدد سكان "زوترمير" حالياً 86 الفاً. ولدى بناء المدينة والتخطيط لها اخذ في الاعتبار ان يكون قلبها مركز الاعمال والمساكن على ان تحيط بها مساحة هائلة من الارض الخضراء والحدائق والغابات وهذا هو العامل الذي ساعد على اقامة معرض "فلوريد" للزهور فيها اذ استخدمت هذه المساحات الشاسعة من الحدائق والاراضي الخضراء لتكون مقراً للمعرض الذي انفق عليه الهولنديون مئتي مليون "غيلدر" هولندي. أجنحة مميزة ويضم "فلوريد" سبعة اجنحة رئيسية يلتزم كل جناح منها فكرة معينة، فهناك جناح للزهور والجديد منها، وآخر للنباتات المنزلية وثالث للترويج والتجارة بين الدول والشركات المساهمة في المعرض ورابع يهتم بالبيئة وطرق الحفاظ على الاشجار والنباتات، وخامس يهتم بالدراسات العلمية في المستقبل والتي تتركز على فنون استنباط الازهار وتحسين سلالاتها، وهكذا... لكل زمان زهرة يلفت المسؤولون عن معرض فلوريد النظر الى ان زهورهم المفضلة سوف يتم التركيز عليها في اوقات معلومة تتناسب مع فترات ازهارها، ففي نيسان ابريل يكون دور الأبصال بأنواعها المختلفة وبخاصة زهرة التوليب الجميلة. وفي ايار مايو يكون التركيز على النباتات المنزلية الخضراء التي تشيع في البيت روح الالفة والدفء. وفي حزيران يونيو يبدأ عرض الاقحوان بلونه الذهبي الأخاذ، وفي اواخر شهر حزيران يونيو وأوائل تموز يوليو تزداد كثافة الزهور المعروضة، وتضم بالذات مجموعات متناسقة من القرنفل والورود، ثم يأتي دور زهرة الغلاديولا الرقيقة في باقي ايام تموز يوليو وأوائل آب اغسطس. وتتألق زهرة الاضالية او "الداليا" كما يسميها العامة على مدى شهر آب اغسطس. بعد ذلك ومع قرب نهاية المعرض تبرز مفاتن الزنابق او زهرة السوسن في شهر ايلول سبتمبر، وفي النهاية وقبل ان يغلق فلوريد ابوابه تقدم للجمهور مجموعة كبيرة من الزهور المجففة التي تم تجفيفها بعناية على مدى الاشهر الاولى للمعرض ولتكون خير بشير ينبئ بقرب حلول الخريف، وهكذا يعيش "فلوريد" فصول الربيع والصيف والخريف ممثلة في انواع الزهور التي يعرضها والتي لا بد وأن يرضي بعض منها أذواق الجمهور مهما تباينت. مسابقات وجوائز وخلال معرض "فلوريد" تقام العديد من المسابقات ويرصد الكثير من الجوائز، ففي معرض لا يقام سوى كل عشر سنين، يكون لدى الكثيرين الرغبة في التفوق على الآخرين، والتفوق على الذات ايضاً، وتتنوع هذه المسابقات بحسب الجهة المنظمة لها تحت اشراف ادارة المعرض، ولكن اهمها، مسابقة لانتاج اجمل وأصح زهرة من الزهور العديدة التي ستشارك في "فلوريد"، ومسابقة اخرى حول اجمل مجموعة يتم تنسيقها من الزهور. والجوائز المادية ليست عادة هي ما يطمح اليه المشاركون في مثل هذه المسابقات، بل القيمة الأدبية اهم وأكبر لديهم، بخاصة اذا كان هؤلاء المشاركون يمثلون شركات ما تستطيع ان تستغل فوزها في الدعاية لنفسها في ما بعد وعلى مدى العشر سنين المقبلة لحين اقامة معرض فلوريد المقبل في عام 2002! الطريف ان مسابقات "فلوريد" او معرض ازدهار الزهور لم تنحصر في انتاج الزهور وتنسيقها فقط، بل امتدت الى تصاميم المعرض نفسه، وتصميم الاستخدام الامثل لما يمكن الاستفادة منه بعد انتهاء فلوريد من اجنحته ومبانيه. وبالفعل تقدمت شركات هولندية وأوروبية عدة بأفكار حول كيفية استخدام هذه المباني كمناطق سكنية او تجمعات للأعمال والتجارة، وهكذا تكون مدينة "زوترمير" ضربت عصفورين بالحجر نفسه، فهي قد استفادت تجارياً من انشاء المعرض واقامته هذا العام، وفي النهاية فازت بالمباني والانشاءات التي اقيمت لتضم اجنحة "فلوريد". وتصميم ارض المعرض جاء على هيئة شكل المثلث كي يمكنه الاطلال على كل مساحات الحدائق والخضرة الموجودة في المكان وعلى مقربة من رأس المثلث توجد محطة القطار الصغيرة التي تم توسيعها وزيادة قدرة استيعابها استعداداً لاستقبال الزوار من اوروبا وجميع انحاء العالم. بينما يطل برج عال من الطرف الآخر للمثلث على ارض المعرض الفسيحة. أنشطة للكبار والصغار يفاخر الهولنديون بمعرضهم فلوريد للزهور، ويباهون بأنهم انفقوا عشر سنين كاملة في الاعداد له، والنتيجة هي حتماً، نشاط لكل شيء، ومعرض يرضي كل الاذواق! فهناك قسم مخصص للاطفال فيه تم تقسيمه كذلك الى اربعة اجزاء - جزء للصغار حتى سن الرابعة - وآخر يسمى ارضاً ومياهاً، وثالث يدعى ارض الوفرة والكثرة، ثم اخيراً مكان المرتفعات. وفي كل جزء من هذا الجناح المتميز هناك موضوعات وألعاب ومعروضات ترضي أذواق كل الاطفال وتجعل من زيارة جناحهم في المعرض متعة مفيدة في الوقت نفسه. اما الكبار، فحدث ولا حرج عما ينتظرهم من انشطة ومشاغل حافلة في معرض "فلوريد"، ويخطئ من يظن ان هذا المعرض مجرد معرض للزهور! بل على العكس انه يضم اجنحة عديدة مفيدة ومسلية للشباب والكبار، فهناك عروض مسرحية قصيرة اختيرت بعناية لتناسب موضوع المعرض اي الزهور والنباتات والحفاظ على البيئة، وهناك ركن آخر تقام فيه عروض حية للطهي الصحي وكيفية معرفة القيمة الغذائية لما نبتلعه من طعام. في ركن آخر من احد الاجنحة تقام بصفة يومية مزادات عديدة لبيع الازهار والنباتات والمحصولات الزراعية الاخرى المتوفرة عن حاجة المعرض والعارضين فيه. اما الجناح الذي يعتبر مزيداً بالفعل، بالنظر الى مناخ هولندا المعتدل او المائل للبرودة، فهو ذلك الركن الذي انشئ خصيصاً ليضم مجموعات نادرة من نبات الصبّار الصحراوي والذي ينمو في الصحراء والمناطق الجافة عموماً، ويتحمل ارتفاع درجة الحرارة وقلة الماء، وهذا الركن من المعرض استخدمت في انشائه نباتات جلبت خصيصاً من الولاياتالمتحدةوالمكسيك ومنطقة الصحراء الكبرى في افريقيا. ولاقامة هذا الجناح اعتمدت سلطات المعرض على النوايا الحسنة لعدد من المتطوعين عشاق نبات الصبار، واستحضر ما يزيد على اربعين طناً من الصخور البركانية من المكسيك وعشرون متراً مكعباً من التربة الخصبة وخمسة عشر طناً من احجار التبليط والزينة، وكانت النتيجة قسماً جميلاً من المعرض يقدم صورة حية لحياة نبات الصبار، تدعهما تجهيزات مصورة من افلام تلفزيونية وكتيبات وشروح عن حياة هذا النبات. والى جانب هذه الانشطة المختلفة والاجنحة التي يصعب حصرها في فلوريد تشهد مدينة "زوترمير" نشاطات اخرى منوعة مثل اقامة حفل موسيقي كبير، وعدد من السباقات الرياضية كسباق للجري، وآخر للدراجات، ومهرجان للرقص الشعبي، الى جانب مهرجان للحبوب، تعرض فيه عشرات الانواع من الحبوب المعروفة وغير المعروفة في العالم! باختصار... يبدو ان هولندا تفضل ان تعيش في هدوء لعشر سنين، ثم تصحو فجأة لبضعة اشهر من خلال معرضها "فلوريد" لتعود مرة اخرى الى الانزواء بعيداً عن الاضواء استعداداً لاقامة معرض "فلوريد" جديد. ومهما يكن فان هذا المعرض يعتبر مناسبة نادرة ينبغي الا تفوت من يفكر في زيارة هولندا هذا العام!