لم تكن اللبنانية حنان بارودي كبارة تعلم بأن المصادفة ستجعلها أول فنانة في صنع الازهار بالسيراميك او ما يسمى فن "البوندو" الياباني، فهي عندما سافرت الى عرض بعض اعمالها في الرسم، الا انها بدل ان تكمل مشوارها مع الريشة والزيت، تعرفت هناك على الفن الياباني في صناعة الازهار السيراميك والعجين والطحين، فعادت الى لبنان بعد ان تعلمت اصول هذا الفن لتبدأه وتنشره في اصقاع الوطن. التحقيق الآتي يسلط الاضواء على حنان بارودي كبارة الانسانة والفنانة وعلى فن "البوندو" من خلال زيارة خاصة لها ولمعرضها في مدينة طرابلساللبنانية. الصيادون في بلدة "العبدة" اللبنانية ذهبوا بشباكهم الى عرض البحر، في القوارب الصغيرة التي تعودت الامواج على مداعبتها، الا ان حنان بارودي كبارة قطعت جزءاً من رحلتها معهم الى ديار الاسماك المتوترة خارج بحرها لتفتح باب معرضها "استثنائياً" لنا في غير موعد زيارته، في الطابق الاول من بناية حديثة تقع في شارع الشيخ جميل عدره المتفرع من طريق الميناء وشارع عزمي في طرابلس. ايضاً البحر غير بعيد من "هوايتي" وهو الاسم الذي اطلقته حنان على مركزها الفني الذي جعلت منه مدرسة لتعليم فن "البوندو" للجنس اللطيف فقط من بنات وطنها ومن الخارج. كذلك اشجار النخيل التي تقطع الجادة العريضة على طولها، صارت نماذج فنية من عجينة الخبز التي تطلق عليها حنان اسم "السيراميك". للجنس اللطيف فقط حديقة من باقات الازهار تفتح ذراعيها للقادم منذ ان يطل من باب المركز. فسحات أنيقة التنظيم تضم في زواياها وعلى رفوف جدرانها تشكيلات فنية من كل نوع من انواع الازهار التي يمكن ان تطالها العين في الطبيعة. وفوراً بدأت حنان، الفنانة على تواضع، الشرح بهمس يؤدي مهمة معانيه دون ان يزعج الصمت الذي يلف المكان ويدعو الى التأمل فقط. فهذه الاعمال هي من صنع أنامل تلميذات المركز، تحققت تحت إشرافها وتوجيهها وتدريبها. وقد تخرجت دفعات عدة من "هوايتي" منذ افتتاح المركز لتعليم الراغبات فن "البوندو" بأسراره اليابانية. فالدورة مدتها تسعة اشهر، وكل واحدة من المتدربات تختص بصنع زهرة عند التخرج، لأن القواعد صارمة وما يطبق على القرنفل لا يناسب ما تحتاجه زهرة التوليب او الغاردينيا. وحتى الآن فهذا الفن محصور تعليمه بالفتيات. اما لماذا لم تفتح حنان بارودي كبارة باب "هوايتي" للجنس الآخر حتى الآن، فيبدو ان له تبريراً عندها. تقول حنان: "زوجي مقيم في افريقيا منذ زمن طويل. وأنا أتنقل بين لبنان ومكان اقامته. وحين قررت فتح مركز "هوايتي" كان الاتفاق معه على ان يكون للنساء فقط. وربما أناقشه في موضوع فتح فرع خاص للشباب، لأن الفن والجمال ليسا حكراً على جنس دون آخر". ويظهر الاحتكار النسائي لفن صناعة الازهار من الطحين، من اسماء صاحبات باقاتها. ومثلاً: ضحى شعبان زهرة الأوركيدا. صبحية المصري زهرة الكاميليا. فتاة طبال، الورد. جانيت فياض، البيتونيا. نهال سماي، الاضاليا. زهرة مظلوم، النرجس. رجاء مواس، القرنفل. حميدة جمال الدين، زهرة اللوز. غير هؤلاء كثيرات في عشرات الاعمال، وكل واحد يختلف عن سواه إلا في الاساس الذي قام عليه. اي الخبز او عجينة السيراميك او "البوندو". مشروع فني هائل وجميل نبت في زمان بداية الحرب واستمر حتى بعد سكوت المدافع. كأن باقات ازهار مركز هوايتي جاءت شاهداً على ان القصف لا يقتل الرحيق وعلى ان الفن يستطيع الانتصار على الدمار. وكانت حنان بارودي كبارة ذات القامة النحيلة والعينين الزرقاوين وابنة رجل جليل مرب ويحمل شهادة دكتوراه ومدير ثانوية كبرى، تستطيع ان تبقى في مقر عمل زوجها وتعيش حضارة جديدة وثقافة مختلفة يمكن اكتسابها من حماتها الفرنسية. وبالتالي كانت قادرة على الابتعاد عن هزات أصوات الانفجارات وطلقات الرصاص التي تعرضت لها احياء طرابلس الحديثة والتاريخية زمن الحرب. غير انها كانت بدأت مشوارها الفني في مطلع عام 1974، في جناح خاص من معهد رياضة اليوغا لصاحبه غوث البارودي، شقيقها الأكبر. يومها، كانت الولادة الاولى للمؤسسة الفنية لصناعة الازهار وتنسيقها. وحيث بدأت تدريس الرسم وصناعة الزهور القماشية الى الراغبات ممن يتذوقن هذا الفن من الصديقات وربات البيوت وسيدات المجتمع وبناتهن. في أثناء الجولة بين لوحة القرنفل ورأس العبد وإسوارة الطاولة وباقات التوليب ودوار الشمس التي يخالها الناظر طبيعية مقطوفة لتوها عن اغصانها، تناولت حنان تفاصيل مشوارها الفني منذ ذلك التاريخ. قالت: "في العام 1976، وبعد تزايد عدد طالبات الفنون، افتتحت مركزاً مستقلاً لمدرستي الفنية الناشئة، في بناية مرعوش في منطقة التل وسط مدينة طرابلس". كانت هذه البداية العفوية لفنون وصناعة الازهار. غير ان طموح حنان الفني لم يتوقف عند افتتاح مجرد مدرسة لتعليم تحقيق باقات جميلة من معطيات الطبيعة الكريمة. بل تطلعت الى تطعيم طموحها بروح الفنون العالمية. لذا فإن حنان عزمت في ربيع 1976 على توسيع وتعميق ثقافتها الفنية بدراسة الفنون في معاهد متخصصة وذلك إثر اقامتها لمعرضين للرسوم الزيتية والازهار القماشية في طرابلس وبيروت. فتوجهت الى فرنسا حيث امضت فصل الصيف في المعهد الفني الداخلي الكائن في جبال الألب المحيطة بمدينة تولوز الفرنسية. في سنة 1979 حدث تغيير في مجرى حياة حنان. اذ سافرت الى غانا في افريقيا وبقيت هناك حتى سنة 1982 الى جانب زوجها وأطفالها الذين يشكلون ثروتها ومستقبلها وينابيع سعادتها، حسب تعبيرها. ثم توجهت الى الولاياتالمتحدة الاميركية لاقامة احد معارضها. وهناك تعرفت صدفة، على الفن الجميل والراقي لصناعة الزهور بالسيراميك. وفوراً تخلت عن فكرة المعرض وبادرت الى الانتساب للمدرسة اليابانية الفنية في مدينة نيويورك وأمضت سنة كاملة في تعلم هذه الصناعة الفنية الرائعة. في هذه المرحلة الهامة من حياتها، كان ولدها نشأت يرافقها. وتقول حنان إن الامومة حليب للفن والأولاد لا يقفون عائقاً امام الطموح. في سنة 1985، رغبت حنان بالتعمق في دراسة صناعة الزهور بالسيراميك والخبز. فقصدت ينابيعها في اليابان، حيث تابعت دراستها في الفنون في أرقى معاهدها. عادت حنان سنة 1986 من اليابان وهي مليئة بالحب لأزهار السيراميك. فسارعت الى افتتاح محترف وصالة لصناعة ازهار السيراميك باسم "هوايتي". ومن جديد وبناء على رغبة ربات البيوت وسيدات المجتمع ومجموعة من طالبات معهد الفنون، اسست مدرسة لتعليم صناعة الزهور السيراميك، وفق سلسلة دورات تعليمية مدروسة وبرامج معدة سلفاً للتمرن على صناعة مختلف انواع الزهور الجميلة وتنسيقها، والوجوه والتماثيل الصغيرة وقطع الحلي والزينة. المرحلة الناصعة لم يتوقف نجم حنان بارودي كبارة عن الصعود منذ ذلك الحين. ففي العام 1990 وصلت الى المرحلة الناصعة من مهنتها الفنية حيث بدأت تبذل اقصى جهودها من اجل خدمة قضايا الفن والجمال في بلادها الطيبة. وبعد ان افتتحت نادي ومدرسة "المركز الفني لهوايتي" في بناية سلهب، شارع المعرض بطرابلس. والنادي اليوم هو ملتقى عشاق الجمال وهواة الفن ومحترفيه. ويضم المركز اقساماً متخصصة بتعليم انواع الفنون والحرف اللبنانية الجميلة وفي مقدمتها مختلف طرق وأشكال صناعة الازهار وقطع الحلي والرسم على القماش وغيره، وصناعة اواني الفخار والزجاج والادوات الخشبية. قيل في حنان بارودي كبارة الكثير من رسالتها الوطنية في حقل الابداع الفني، فهي حالة خاصة في طرابلس عبر القلق والخوف والدمار. وقفت صامدة وكان في امكانها ان تعيش بعيداً في أجواء الرفاه بعيداً عن الحرب. غير انها آثرت لغة الزهور الاصطناعية تتكلم على قدرة الإبداع الفني. وجعلت من الحلم حقيقة من فن "البوندو" في لبنان جزءاً يابانياً يتجاذب التبادل الثقافي والفني بين الشرق الاقصى والشرق الادنى. فالزهور تعبير عن حياة الشعوب ومعارض حنان تنتمي في اصولها الى اليابان وتستقدم اسرارها من الأممالمتحدة وأشكالها من الانامل اللبنانية. وذهبت معارض حنان في كل مكان حتى حلّت في المملكة العربية السعودية سنة 1991. فقد التقت حنان ببعض سيدات المملكة ووقفت على رغبتهن في تعلم صناعة الازهار وتجميعها باقات. وقامت بتعليمهن اسرار فنها بعد ان لاحظت ذوقهن الرفيع وإقبالهن الحثيث على تعلم اصول تكوين عجينة السيراميك وتفصيلها جماليات رائعة لتزيين بيوتهن. وهي تلملم اليوم انتاجها وتجمعه في صناديق لتلبية دعوة من المملكة العربية السعودية لاقامة معارض من انتاجها الفني وتعليم المرأة هناك كيفية اعداد العجينة وطريقة صنع الازهار منها. وسوف تحمل حنان معها كتابها الجديد بعنوان "جمال الطبيعة من صنع يديك". والهدف من نشر هذا الكتاب هو تعميم فن صنع الازهار من العجينة وعدم الاحتكار لهذا الفن والاستئثار به لوحدها كما يتصرف البعض. فمن يقرأ هذا الكتاب يعلم بأن فن عجينة الازهار لم يعد سراً موقوفاً على صاحبه فقط. بل يصبح عنده كل المؤهلات ليعلم ما تعلمه منه بكل سهولة فيستفيد ويفيد. لبنانواليابان لكن ما الجديد الذي أدخلته حنان بارودي كبارة على تطوير فن الزهرة الياباني وما الانطباعات التي حملتها معها من اليابان وكيف يمكن صنع باقة من الازهار بأقل كلفة ممكنة؟ تقول: "ما يلفت النظر في اليابان، في ما يتعلق بفن صنع الزهور، هو إهتمام السيدات بتزيين منازلهن بالأزهار. وهن يفضلن ذلك احياناً على الاعمال المنزلية العادية، بل وحتى على تحضير الطعام الذي يكتفين باعداده ساعة تناول الوجبات. ان تنقلي بين العواصم الشهيرة واطلاعي على فنون تلك العواصم ترك في مخيلتي باقة من فنون صهرتها في فن البوندو وجعلت منها لوحات تحمل بصمات البلاد التي زرتها. لقد اعجبني في اليابان ذوق المرأة اليابانية في تزيين منزلها بما تصنعه بيديها في اوقات فراغها. فأردت ان تكون المرأة اللبنانية وغير اللبنانية مثل اختها اليابانية من حيث استعمال فراغها وسكب ذوقها في ازهار وتنسيقات ولوحات وغير ذلك. هكذا تملأ فراغها وتزين بيتها بيديها. ووجدت اقبالاً ملحوظاً على التجاوب معي في هذا المجال. فتشجعت وشبكت يدي بيدها وسرنا بخطى سريعة موفقة. لأنه لما كان الدقيق أرخص المواد الاولية، اتخذته اساساً لصنع عجينة غير عجينة الخبز. لذلك اطلقت عليها في احد معارضي شعار خبزي ليس للأكل. ذلك لأن هذه العجينة تحتوي على مواد سامة فيحظر أكلها. من هذه العجينة ابتدع او اقلد الطبيعة بما فيها من ازهار ونباتات وأشجار أتذوقها وأقدمها للناس في جميع المجتمعات". لا تود حنان بارودي كبارة ان تدعي بأنها الوحيدة في هذا الفن. فهي لا تحب الاحتكار. والكثيرات من خريجات مدرستها يزاولنه ويحترفنه لأكثر من تزيين منازلهن وملء اوقات فراغهن. انهن يصدرن انتاجهن للبيع والاستفادة المادية ويؤسسن مدارس لتعليم هذا الفن. وهي تردد بهذا الصدد: "انني اربأ بنفسي عن اي ادعاء او مديح. وأكثر ما اسمح لنفسي بقوله هو المثل المشهور الفضل لمن سبق". تلقي حنان ستة وثلاثين درساً على طالباتها خلال دورة تبلغ مدتها تسعة اشهر. ولا تنقطع الصلة بينها وبينهن بعد التخرج. لأنها تحرص على اللقاء بهن كل خمسة عشر يوماً وحيث يقمن معاً حفلات اجتماعية تصب في بوتقة توسيع فن تنسيق الزهور والعمل على إدخاله الى كل بيت. وتلبي شخصيات سياسية وديبلوماسية وثقافية واجتماعية الدعوة للمشاركة في حفلات "هوايتي" الفنية والاصغاء الى شروحات عملية بسيطة لصناعة قرطاسيا مثلاً من نصف عجينة بلون زهري فاتح وصناعة ورقتها الخضراء من نصف العجينة الاخرى. وفي هذه الاخيرة تقول: "... هرم بحجم حبة الجوز. دقيق جداً من جهة، وأقل دقة من الجهة الاخرى. نرفعه باليد مع قليل من الضغط ثم نضعه على القالب ونمده مع الحفاظ على الشكل الهرمي. وعندما نتأكد من تساوي سماكته نرفعه عن القالب، وبالمقص نقص الاطراف باتجاه الخطوط كأسنان المنشار. وبعد ذلك نرقق الاطراف المقصوصة بالصنارة حتى تصبح الورقة قريبة من الطبيعة قدر الامكان". يلفت النظر في المعروضات مزاوجة العبارات الشعرية لها. مع المنثور نقرأ عبارة "مئذنة الزهر أنا". مع الوردة: "يحبني الشعر والغناء يحبني وتحسدني العيون". مع زهرة اللوز: "غداً سأصبح لوزة، ستأكلني. لذا سأبقى دائماً زهرة وتحبني". مع زهرة "أجراس": "رنين لا يسمع من بعيد، قربني اليك اكثر، اكثر. هل بدأت تسمعني؟". مع شقائق النعمان: "ردوني الى الحفافي، الى الاطفال، يأخذون ورقتي، يفقعونها بأيديهم، اشتقت للشيطنة". وغير ذلك كثير. في معرض حنان بارودي كبارة كانت الطبيعة تنزف بعض حلاوتها في باقات الازهار. الزائرات كثيرات. والعمل يستدعي الاعجاب. لأن العجينة هي الخبز اليومي للانسان منذ الازل، صارت اليوم غذاء للعين والقلب ورعشة بين الانامل الحاذقة تتقولب زهرات نضرة تلغي الشؤم في الزمن الصعب. وذلك بأقل كلفة ممكنة، إن لم نقل بحفنة طحين فقط.