حسن المسعود خطاط عراقي مقيم في باريس منذ قرابة عقدين. وقد برز اعلامياً في السنوات الاخيرة، وتتالت معارضه وكتبه التي تعمل على اعادة الاعتبار الى الخط العربي، داعية من جهة ثانية الى التجديد واختراع خطوط المستقبل. في ما يلي تقديم لتجربته، لمناسبة صدور كتاب حولها عن دار باريسية معروفة. كان ذلك في عشية ماطرة من شتاء 1985، في ضاحية باريسية بعيدة يستضيف مسرحها فرقة "خمسة" في استعراض لا يخلو من الابتكار والفرادة. امام جمهور فرنسي - عربي مشترك، وقف ثلاثة فنانين قادمين من مجالات ابداعية مختلفة، يحيون عرضاً مشوقاً مميزاً. استوقفني يومها، وجود خطاط بينهم. اذ كيف يمكن لفنان حرفي، يشتغل عادة بعناية وصمت في هدوء محترفه، ان يشارك في احتفال عام يجمع الشعر الى الموسيقى والتمثيل الى الخط؟ الموسيقي والمغني العراقي فوزي العائد كان يؤدي القصائد العربية المعروفة، التي ألقاها قبله الممثل والمستعرب الراحل غي جاكيه باسلوبه المسرحي قبل ان يترجمها للحاضرين الى الفرنسية. وكان العراقي الآخر حسن المسعود، يقوم من جهته بخط جمل مختارة واشعار وحكم على ورقة امامه، لتنقلها مباشرة آلة عرض خاصة على شاشة كبيرة وسط المسرح. وغالباً ما كان يصاحب تخطيطاته بشروح ونماذج توضيحية لأنواع الخطوط، ميزة كل منها، طريقة إمساك الريشة او القلم او القصبة، الخ... هكذا اكتشفت الخطاط العراقي حسن المسعود للمرة الاولى، منشغلاً بهم ايصال قواعد وتقنيات هذا الفن المرتبط بروح الحضارة العربية الاسلامية، الى اوسع دائرة ممكنة من الناس، خارجاً به من العزلة المزدوجة التي يعيش. عزلة الفنان لحظة الابداع بعيداً عن الانظار الفضولية. وعزلة الخط العربي اليوم في مواجهة تحديات التكنولوجيا التي كادت تجعل منه مادة متحفية بائدة، لا سيما ان قلة من المبدعين تتجرأ اليوم على تطويره وتجديد عناصره وجمالياته معيدة اليه بالتالي الاعتبار كفن حي، له مكانته في حياتنا المعاصرة... حسن المسعود يتجرأ. من معرض الى آخر، راحت تجربته تأخذ منحى خاصاً، ولا شك ان الاقامة في الغرب قرابة عقدين، لعبت دوراً في بلورته ودفعه نحو حدوده القصوى. فعودة الفنان الدائمة الى الجذور، الى ينابيع الخط العربي بتقاليده العريقة ومعلّميه الكبار، لم تقطعه عن زمنه وعصره. كما ان تمسكه بكنوز التراث العربي والاسلامي، لم يمنعه من ارتياد التيارات الطليعية والاحتكاك بالمدارس الفنية الغربية والعالمية، قديمها وحديثها. رحلة المسعود من ضفاف الفرات الى ضفاف نهر السين، ستعود عليه بكثير من الاسئلة والدروس التي شكلت زاده الابداعي، مصدر وحيه والحافز الاول على الابتكار والتجديد. فأعماله الاخيرة اقرب الى لوحات تشكيلية متكاملة، تتخذ فيها الخطوط اشكالاً تصويرية، وتحتل التحدرات اللونية والتكوينات الهندسية منها موقع الصدارة... كأن الفنان بات يسعى اكثر فأكثر الى خلق المناخات ومخاطبة الاحاسيس، شأنه شأن الكيميائي في مختبر الخطوط، او الساحر يحيي طقوسه الغامضة. اما ردود الفعل على تجاربه فقد انقسمت بين الانتقادات التي تتهمه بالتغريب، بالوقوع في مطب ال "إيكزوتيكية" والميل الاستشراقي... وبين الاقبال المتحمس على تجاربه وإضافاته. لكن المسعود، الذي لم يتوقف عن الانتاج والتطور حقق بكل الاحوال حضوراً اكيداً، واكتسب شرعية يستحقها، ماضياً في التأليف بين التناقضات، والغرف من روافد حضارية متباعدة. كما انه اصدر اكثر من كتاب لتعليم اصول الخط العربي، والتعريف بمدارسه، وتسليط الضوء على جذوره، قواعده وخلفياته الحضارية والتاريخية. ابرز هذه الكتب واحد بعنوان "الخط العربي" صدرت طبعته الاولى عن دار "فلاماريون" FLAMMARION الباريسية عام 1981. في هذا الكتاب بالفرنسية والعربية مع وثائق بصرية متعددة يتحدث الخطاط عن فنه كما الصانع عن ادواته وعمله... يحدثنا عن القصبة، عن الشفرة التي تبريها، عن الحبر وأنواعه، عن اليد وولادة السطر، عن النقطة سواء كانت تشكيلية او قياسية او تزيينية. يتبسط في تفنيد المواد التي تجعل الحرف تارة اشبه بالحفر او النقش او التنزيل، وطوراً مقولباً او مجمعاً او منسرحاً او ضرباً من النسج او التطريز، او مرسوماً على ذلك الورق الذي كان العرب، من سمرقند حتى خطيبة، يستعملونه ملتمعاً بالطلق وبياض البيض، منذ نهاية القرن الثامن للميلاد. وقد اصدرت دار "فيبوس" المهتمة بالحضارة العربية، قبل اسابيع مجلداً انيقاً مخصصاً لتجربة المسعود وسيرته الفنية والذاتية، لأبحاثه واجتهاداته وعلاقته بالخط بشكل عام. الكتاب بعنوان "درب خطاط"، يرتدي حلة مقابلة او مساجلة طويلة اجراها معه جان - بيار سيكر، ويتضمن نماذج معبرة - بشتى الخطوط والاساليب - من اعماله خلال الثمانينات. فيه يتوقف ملياً عند العلاقة المعقدة بالغرب، او بالأحرى بالحداثة: "كل فن - مهما كان مسالماً - هو معركة دائمة. هاجس الحداثة بحد ذاته دافع حيوي، ورغبة مشروعة لدى كل مبدع. لكن التوازن ضروري بين التعاليم الموروثة من الماضي، وبين نزعة البحث عن دروب جديدة. ألم تكن هذه السمة ملازمة لتجارب المعلمين الكبار في تاريخ الخط العربي؟ ألا يتجلى ذاك الصراع الداخلي بين الوفاء لمكتسبات الامس والحاجة الحيوية للبحث والابتكار في ابرز تجارب الاقدمين؟". وُلِد حسن المسعود في النجف، جنوبالعراق، في تلك الارض التي طالما ازهرت في ربوعها فنون الخط. عمه كان فقيهاً وخطاطاً، وكان حسن الصغير يتأمله بشغف منحنياً بقصبته على تلك المساحة المدهشة من الزخارف والخطوط. بعدها بسنوات سيكتشف التصوير في المدرسة على يد استاذ الرسم، فيقرر بينه وبين نفسه ان يصبح فناناً تشكيلياً. في السابعة عشرة من العمر سينتقل الى بغداد وينتسب الى معهد الفنون الجميلة فيها، وهو يتذكر في كتابه الاخير تلك المرحلة الاستثنائية: "كان العراق قد اصبح جمهورية منذ ثلاث سنوات، وشباب جيلي وضعوا كل آمالهم في فضائل النظام الجديد المفترض فيه ان يؤمن بعض العدالة والحرية". خلال تلك السنوات اكتشف المسعود اعمال هاشم محمد البغدادي 1919 - 1973 احد اكبر خطاطي هذا القرن. وكان يتمرن على فنون الخط بحكم عمله لدى خطاطي اللافتات التجارية. لكن اقامته في العراق لن تطول: "كانت انظارنا، انا ورفاقي من طلاب الفن، متعلقة ذلك الوقت بمدرسة باريس ... ابتداء من 1963، بدأت افهم مع تصلب النظام ان مكاني ليس في بغداد، رغم ولعي بتلك المدينة التي تختلط فيها كل الاديان والاعراق والثقافات. كنت اعرف ان النظام المستبد لا يمكنه ان يتصور للفن عامة الا وظيفة واحدة: الدعاية والترويج الايديولوجي. هكذا تركت بلادي واهلي عام 1969، واخذت طريق المنفى". التجربة الباريسية على مقاعد "معهد الفنون الجميلة" في باريس، سيكتشف المسعود الغرب وفنونه، فيدرسها بشغف. وهو اليوم يتذكر ان اكثر ما كان يستأثر باهتمامه حينها، حقبات القطيعة والتجدد: النهضة، القرن التاسع عشر الفرنسي، والقرن العشرين عبر بيكاسو، ماتيس، فرنان ليجيه وآخرين... هكذا تأرجح لفترة بين الصورة والعلامة، بين الرسم والخط قبل ان ينحاز نهائياً للخيار الثاني، اي للتقاليد العريقة التي يتحدر منها. لكن الخطاط سيعرف كيف يوسع آفاق فنه الى وسائل تعبيرية اشمل، مفسحاً المجال في اعماله ل "تصويرية" خاصة هي في الوقت ذاته ذروة التجريد. يكفي ان نتأمل بعض تخطيطاته لنكتشف المستويات العديدة التي تنطوي عليها، والتي يحتل التشكيل منها موقع الصدارة. الرسم بالكلمات إذن؟ لعل نظرية المسعود حول الحضارة الاسلامية والتصوير، تسلط بعض الاضواء على تجربته الخاصة: "اهل الصحراء كانوا يحذرون كل ما يظهر بطريقة واضحة للعلن، وما يتجسد بشكل بدائي في فضاء الرؤية، مفضلين الرؤيا الداخلية على التمثل الواضح. لم يعرف العرب القدماء الرسم والنحت، ليس من جرّاء تحريمها في القرآن الكريم، بل لأن كل فن يعيق سهولة تنقلهم ويثقل وجودهم، كان يعتبر فناً زائداً. من هنا ان اشكال تعبير اساسية ازدهرت لديهم، كالموسيقى والشعر. يكمن السر في تلك الصحراء المسكونة بالغياب، حيث تختصر الكتابة، التي تتخذ شكل علامات مجردة، حضور العالم بأسره". فنون الشرق الاقصى في باريس سيقوم حسن المسعود باكتشاف فنون الخط في الشرق الاقصى، وهي اليوم من المفاتيح الاساسية لفهم فنه، لدراسة اضافاته وتذوق خصوصياته. سيتعرف الى الفنان الكوري إونغ لو لي، والى مجموعة الفنانين اليابانيين التي قدمت شتاء 1979، عروضاً حية للخط في جامعة السوربون، وصولاً الى التقاليد الصينية التي استوحتها ونهلت منها كل تلك المدارس. منذ ذلك الحين سينكب الفنان على الحروف والخطوط، يتعامل معها كإشارات "طوطمية" وعلامات بها يصوغ - على حد تعبيره - "مشاهده المكتوبة". من التقاليد الصينية تعلم الجرأة، العفوية التعبيرية... كما افسح مجالاً اكبر للحركة، مقيماً معادلة شيقة بين الخط والكوريغرافيا. الخط الصيني دفع المسعود ايضاً باتجاه تقنيات جديدة في استعمال الفرشاة او الريشة، فاخترع ادوات تخوله التوصل الى تلك الخطوط العريضة، الحادة "على الطريقة الصينية" بالاضافة الى التدرجات اللونية خلال الضربة نفسها، وسائر المؤثرات المشابهة كالتلاعب بعنصر الشفافية. لكن الامثولة الصينية الاساسية بالنسبة لهذا الخطاط العراقي هي بلا شك استعمال الالوان: "مع الصينيين اكتشفت ان الحبر ليس اسود فقط، فاستعدت انجازات فناني المنمنمات الفرس، وكانوا اسياد اللون. من الازرق الفيروزي والياقوتي الى الاصفر والبني المحروق والزمردي، اردت ان اجعل الكتابة تغني على مقامات الضوء. منذ عشر سنوات اللون هاجسي، أصوغه عبر خلط المواد الطبيعية والاصباغ، استعمل الماء بدل الزيت. ففي التماثيل الحية التي اشيدها لا ينبغي للون ان يحجب الضوء". المعلمون الثلاثة اتيحت للمسعود، في حقبات شتى من مسيرته الفنية، فرصة التعرف على بعض كبار الخطاطين ومعايشتهم والافادة من تجاربهم الفنية. أبرز هؤلاء هاشم محمد البغداديالعراق، محمود الشحات مصر وحامد الامدي تركيا وقد عاش كل منهم في مدينة هي رمز لتطور الخط العربي. ففي بغداد عرف فن الخط ازدهاره اثناء بلوغ الحضارة الاسلامية اوج تفتحها وانتشارها في القرن التاسع الميلادي. وبعد دخول المغول الى بغداد وقيام جيوش التتر بتدميرها ورمي كتبها في دجلة ويقال ان النهر اسوّدت ماؤه من حبر تلك الكتب، هجر الخطاطون الى القاهرة وهناك زينوا معالمها الباقية في اغلبها حتى اليوم. وفي بداية القرن السادس عشر احتل العثمانيون القاهرة، فأتوا بخطاطيها الى اسطنبول، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الخط العربي، ستصل به الى ذروة الابداع... من تجربته مع فرقة "خمسة" لامس المسعود مدى قرب الخط من الموسيقى. فكلاهما يسعى من خلال آنية العلامة او المفردة او النوطة، الى استمرارية الجملة. كلما امسك الخطاط بقصبته يخوض كالعازف مغامرة غير مضمونة النتائج، فهو "يؤدي" اي ان عمله ليس نهائياً، من هنا التلاوين والتقاسيم والتنويعات انطلاقاً من موضوع محدد، ومن هنا تنوع الايقاع وحركة الصعود والهبوط عبر السلم النغمي الذي تطرب له الاذن او العين. "فن الخط يكون جيداً - يؤكد المسعود - بمقدار ما يعي صاحبه ان فنه مهدد وغير نهائي، غير اكيد من الطريق التي ينبغي سلوكها. والا لم يعد الخط فناً حياً، بل راح يربح على مستوى الطمأنينة والاستقرار، ما سيخسره من مقدرة على التحليق في فضاء الابداع". هكذا نلاحظ كيف ادار المبدع ظهره نهائياً للحيادية التي كانت تميز في الماضي فن الخط، حيث كانت المأساة والمعاناة الجماعية تبقى عند عتبة الجمل والحروف، وحيث كانت الزخرفات التزيينية تضيق بهموم الفنان وانفعالاته الشخصية. ها هو اذن وقد اطاح بتلك الحيادية الباردة، يصيخ السمع الى الآهات المتقطعة المتصاعدة من شتى انحاء الكوكب. ها هو يقتفي اثر كبار شعراء هذا القرن، وسائر ادباء ومفكري الحضارة البشرية، فيعيرهم خطوطه وألوانه: من اقوالهم المأثورة وحكمهم واشعارهم ينسج لوحاته ويغزل تخطيطاته بتقنياته المختلفة، بخطوط الثلث، الكوفي، النسخ، الديواني، الرقعة او الفارسي... يجسد بيتاً للمتنبي لك يا منازل في القلوب منازل...، لأبي فراس الحمداني، لجلال الدين الرومي، لناظم حكمت او للسياب يا ليل اين هو العراق... يغرف من التراث الادبي العالمي، من شكسبير الى بول الويار ورينيه شار وغيلفيك وبودلير مروراً بالحلاّج وابن عربي وجبران وافلاطون وسواهم.