منير البعلبكي واضع قاموس "المورد" وموسوعة "المورد"، احد الأعضاء اللبنانيين القلة في مجمع اللغة العربية في القاهرة، يمضي الآن شيخوخية في انجاز معجم "المورد الكبير"، ويعيش حياة انفراد صعبة ومثمرة في مدينة بيروت التي بقي أميناً لها في سنوات اليسر والعسر. في ما يلي لقاء يعرض سيرة مثقف عايش مرحلة الاربعينات في بغدادودمشق قبل ان يعود الى بيروت ليستقر كناشر ومترجم وموسوعي. قبل توطن عائلتنا في بيروت منذ حوالي 300 - 350 سنة، كانت تقيم في بعلبك التي غلب انتسابنا اليها على كنيتنا القديمة، فعرفنا في بيروت بآل البعلبكي. نشأ والدي في اسرة متواضعة تقلبت احوالها المادية، فعمل في صباه وشبابه في محل للخياطة في سوق سيّور القريب من سوق الطويلة، ثم في تجارة الاجواخ قبل اتخاذه الخياطة مهنة ثابتة انشأ لها محلاً استأجره في السوق المذكورة، حيث كان من اقدم الخياطين هناك. ولأنه كان متفتح العقل تعلم القراءة على نفسه فاتقنها من جراء قراءته الجرائد والروايات، هذا فضلاً عن تنصيبه مرجعاً في فض خلافات العائلة، فعمل على الحؤول دون عددٍ من حالات الطلاق فيها. ولدت عام 1918 في المنزل الذي كان يملكه والدي في محلة البسطا الفوقا - محطة العريس، وما ان بلغت سن الثالثة حتى توفيت والدتي بحمى النفاس، بعد وضعها اخي محمد نقيب الصحافة الحالي في لبنان، فتعهدتنا بالعناية، نحن الإخوة الثلاثة، عفيف وأنا ومحمد، عائلة كريمة تقيم في جوارنا. وما هي الا فترة حتى تزوج والدي من امرأة من آل درويش كي تكون ثمة من تنهض بأعبائنا وتعنى بشؤون تربيتنا، فكانت السيدة التي اختارها مثال الأم الحنون فلم نشعر في يوم بطعم اليتم. ومما اذكره وأنا على مقاعد الدراسة انني كتبت قصة في تمجيدها كأم جديدة لي ولإخوتي. بدأت وإخوتي الدراسة في المقاصد الاسلامية، لكننا لم نستمر فيها لأن والدي، بناءً على نصيحة الأقارب، نقلنا الى مدرسة "رأس بيروت سكول" التابعة للجامعة الاميركية، والتي كان يديرها آنذاك فريد مدور. كانت منطقة الجامعة الاميركية آنذاك تختلف عن غيرها من مناطق بيروت بازدهارها وكثرة مقاهيها ومكتباتها ومتاجرها التي تبيع كل جديد ونفيس. وحتى الترام الذي كان ينقلنا الى رأس بيروت كان مختلفاً عن غيره في انه يتألف من عربتين اثنتين. وفي بعض السنوات الدراسية كنت وأخي عفيف نذهب من البسطا الى الجامعة سيراً على الاقدام توفيراً لأجرة الترام الزهيدة، وكثيراً ما كنا نأخذ طعامنا الى المدرسة والى الجامعة ايضاً. كان الطلبة خارجيين وداخليين، ونادراً ما كنا نختلط بالداخليين منهم، لأن لهم انظمة خاصة تسري عليهم وحدهم. ثم ان الجامعة كانت تعنى بتدريب طلابها على مختلف الألعاب الرياضية من كرة قدم وكرة سلة وسباحة، وتقوم باستضافة اشهر الفرق الرياضية، خصوصاً من مصر. في المرحلة الثانوية كنت مولعاً بالخطابة وبمطالعة كتب التراث، خصوصاً دواوين الشعراء العباسيين من امثال بشار وأبي العلاء وابن الرومي وأبي الطيب المتنبي وغيرهم. وأذكر انني اشتريت مرة جزءاً من ديوان المتنبي وعملت على شرحه، على الرغم من انه كان موضع اهتمام عشرات الشارحين. كنت اطّلع على شروحاتهم وأصوغ شرحاً جديداً بلغتي الخاصة… هكذا تعشقت اللغة العربية وآدابها كما يعشق الفتى فتاة الحي، ففضلت درس العربية على غيره من الدروس، مستعيناً بقاموس كبير، هو "البستان" للمعلم عبدالله البستاني، الذي لم يكن حتى اساتذتي يستخدمونه. هذا التعشق للغة العربية جعلني مجلياً في ميدان الخطابة، فانتدبتني الادارة خطيباً في حفلة التخرج من الصف الاستعدادي، فكان خطابي لزملائي يحضهم على الاهتمام بالعلوم الانسانية وبعلوم اللغة والبيان، والعزوف عن التخصص في الطب والهندسة والحقوق التي كان التخصص فيها مطمح كل شاب في ذلك الزمان ومبتغاه. وكانت لي محاولات في القصة والشعر منذ صباي، فنظمت كثيراً، خصوصاً بعد تعرفي الى الفتاة التي احببتها وصارت زوجتي. ثم انني عنيت ايضاً بالدراسات الأدبية والبحوث، قبل ان يصير نهج حياتي العملية الى ما آل اليه من ترجمة وتأليف في ميدان القواميس والمعاجم. فتاة الحي والقومية العربية كانت علاقات الجوار سبيلي الى التعرف بالفتاة التي احببت. فعائلتها، "حقّاق"، الفلسطينية الأصل، قدمت الى بيروت عام 1934 وأقامت في محلة البسطا الفوقا. واذا شئنا العودة الى ابعد من هذا التاريخ، فان أصل العائلة البعيد ايراني، قبل توطنها في فلسطين. وكان اهل الفتاة، "روحية"، يبحثون، فور قدومهم الى بيروت، عن مدرّس يعلم ابناءهم اللغة العربية، فعلمت والدتي بالأمر واقترحت عليهم ان اقوم بهذه المهمة، وكان عمري آنذاك 18 سنة. فقبلت وجعلت اتردد على منزل آل حقاق وأعّلم الفتاة روحية أصول الصرف والنحو وأذكر انها كانت تدرس في مدرسة راهبات سان فانسان دوبول - اللعازارية التي كان مبناها تجاه مكتبة انطوان في وسط بيروت التجاري. وبقيت على توادٍّ وتزاور وتعارف مع الفتاة وأهلها حتى زواجنا سنة 1945. كان جو الجامعة الاميركية آنذاك قومياً عربياً يتمثل في الجمعيات التي انشأها الطلبة، وأبرزها "جمعية العروة الوثقى" التي خرّجت كثرة من الرجال لعبوا دوراً كبيراً في خدمة اوطانهم. وكانت هذه الجمعية تصدر مجلة تولّيت لفترة رئاسة تحريرها، وكانت باشراف قسطنطين زريق الذي كنا نعتبره رائد القومية العربية في الجامعة. اما هدف الجمعية ومجلتها فكان تعزيز الروح القومي، وغرس حب القومية العربية في وجدان اعضائها الذين كان من ابرزهم الفلسطيني محمود الحوت والاردني عبدالمنعم الرفاعي فپ"العروة الوثقى" خرّجت كثرة من الرجال لعبوا ادواراً مشهودة في خدمة اوطانهم. وأذكر التظاهرات التي كانت آنذاك تخرج من الجامعة منادية بسقوط الاستعمار ووعد بلفور والانتداب الفرنسي وشركة الترام التي كانت رسوم النقل فيها مرتفعة. الى ان تخرجت من الجامعة عام 1938، متخصصاً في الآداب العربية والتاريخ الاسلامي، على اساتذة امثال الرئيس أنيس المقدسي وجبرائيل جبور وقسطنطين زريق بين بغدادودمشق فور تخرجي من الجامعة عملت بتكليف من ادارة الجامعة مدرساً في القسم الاستعدادي لمدة عامين اثنين براتب قدره 170 ليرة لبنانية شهرياً. وفي تلك الأثناء كنت مشرفاً على "الجمعية العربية الخطابية" في ذلك القسم، وهي جمعية تعنى بشؤون الخطابة وتدريب الطلاب عليها. في احدى الجلسات ألقى طالب اردني يدعى علي كايد خطاباً عن صلاح الدين الأيوبي احدث دوياً بين الطلبة، فاستدعاني مدير القسم الاستعدادي كروفورد مستغرباً إلقاء خطاب سياسي، على اعتبار ان السياسة محرمة في الجامعة. كان جوابي ان الكلام عن صلاح الدين تاريخي - قومي، وخرجت من مكتبه ساخطاً وامتنعت عن حضور اجتماعات الجمعية بقية العام الدراسي. وحين استدعاني كروفورد لتوقيع عقد التدريس للسنة الدراسية التالية اعتذرت معللاً اعتذاري بما حدث حول الخطاب عن صلاح الدين. كان ذلك سنة 1940 وكنت منتسباً الى حزب النداء القومي السري، فجعلت افكر كيف اؤمن الرزق لنفسي ولأهلي، ولم يكن لي من باب اطرقه الا باب التدريس الذي امتنع عليّ في لبنان بسبب ثقافتي الانكلوسكسونية ولغتي الانكليزية التي لم تكن تحتاج اليها مدارس الارساليات ذات الثقافة واللغة الفرنسيتين. سمعت آنذاك ان العراق يستقدم مدرسين من لبنان، وكان المسؤول عن استقدام اولئك المدرسين المغفور له رياض الصلح الذي ذهبت اليه راغباً بالتدريس في العراق بتزكية من قسطنطين زريق، فانتدبت استاذاً في كلية اعداد المعلمين الابتدائيين في بغداد. سرني ذلك لأن العراق آنذاك كان قبلة انظار العرب ومعقد آمالهم. سافرت الى بغداد بپ"البولمن" الذي كانت تسيّره شركة "كوك". ولم يكد يمضي شهران على قيامي بالتدريس هناك حتى استدعاني الدكتور فاضل الجمالي المسؤول عن التعليم الثانوي في العراق وأبلغني بأنني منقول للتدريس في كلية الملك فيصل في الكاظمية. وهي كلية كانت قيد التأسيس علمت من الصحف انها انشئت بضغط من الحكومة البريطانية على الحكومة العراقية، بهدف إعداد نخبة من الطلاب العراقيين تكون مهمتهم تولي شؤون الادارة في خدمة الانتداب. وكنت قد علمت ان اساتذة هذه الكلية كلهم من البريطانيين. وحين ابديت رغبتي في البقاء في كلية اعداد المعلمين، قال لي الجمالي ان الكلية الجديدة "مفروضة علينا فرضاً، ونحن لا نملك فيها غير صلاحية تعيين مدرس اللغة العربية والتاريخ الاسلامي، وقد وقع اختياري عليك لثقتي بك". كان عليّ تنفيذ رغبة الجمالي، لأنني لست سوى موظف تابع للحكومة العراقية. كانت كلية الملك فيصل تضم حين انشئت حوالي 25 طالباً إختيروا من بين اوائل الطلبة في مختلف الألوية المناطق العراقية، وكانت تقوم وسط حدائق غناء، فهي كلية داخلية لها انظمتها الصارمة. لذا كان عليّ ان اوفق بين توجهات الادارة، وهي بريطانية، وبين رغبات الطلاب وبين مبادئي القومية العربية. ولأنني المدرس العربي الوحيد جعلني الطلاب لسان حالهم لدى الادارة، الى ان قام احد الاساتذة البريطانيين، واسمه المستر بنكيلاري، بإهانة احد الطلبة ووصفه بالتوحش، فثارت ثائرة الطلاب وأضربوا عن الدروس التي لم يعودوا اليها الا بعد تدخل فاضل الجمالي الذي قدم اعتذاراً للطلبة باسم المدرس البريطاني. وفي غضون ذلك العام 1941 حصلت انتفاضة الزعيم العراقي رشيد عالي الكيلاني ضد الانكليز. وذات صباح من نيسان ذلك العام افقت فإذا الطائرات العراقية تحلق فوق بغداد، فيما الإذاعة تدعو المواطنين الى حمل السلاح، فكان على الطلاب والأساتذة العراقيين ارتداء ثياب "الفتوة" التي كانت لباسهم في اثناء التدريب العسكري الذي طبق نظامه منذ سنوات. هكذا انتشر طلاب كلية الملك فيصل وأنا معهم في حديقة الكلية التي اصبحت في عهدتي وضمن مسؤوليتي. ثم ما لبثت ان قصدت مفتي فلسطين الحاج امين الحسيني الذي كان مقيماً في بغداد، وعرضت عليه رغبتي في التطوع في الجيش. فكان جوابه ان المعركة لن تطول والنصر حليفنا. لم تطل المعركة ولكن النصر كان للبريطانيين، فاضطررت وكثرة من المدرسين اللبنانيين الى مغادرة العراق في قطار السكة الحديد الذي كان معظم ركابه من الجرحى. كانت حياتي وزملائي من المدرسين اللبنانيين الذين اذكر منهم غالب الترك وشفيق النقاش ومحمد شقير متعبة، بسبب التوتر بين الطلاب والأساتذة من جهة والبريطانيين من جهة اخرى. لكن ذلك لم يكن ليحول دون اجتماعنا في سهرة او على غداء على شاطئ دجلة. وكان دأبي ان أقصد كل نهار جمعة مسجد الكاظمية لأستروح عبير الإسلام. في بيروت، بعد عودتي اليها من بغداد، لم اوفق في الحصول على وظيفة في التدريس للأسباب نفسها التي كانت حملتني على السفر الى بغداد، فقصدت دمشق والتحقت مدرساً في الكلية العلمية لصاحبها منيف العائدي الذي عهد بإدارتها الى شقيقه عبدالكريم العائدي الذي تولى لاحقاً شؤون مكتب مقاطعة اسرائيل. وفي اثناء قيامي بالتدريس في تلك الكلية براتب شهري قدره 70 ليرة سورية، فرضت على نفسي الانقطاع الى البحث والمطالعة والاتصال بالأوساط الأدبية الدمشقية من ادباء وشعراء كانوا يجتمعون في "مقهى البرازيل" في ساحة المرجة. أذكر من هؤلاء فؤاد الشايب ونزار قباني وعبدالغني العطري. ومن ترددي على مجالس شيوخ العلم من امثال الشيخ بهجت البيطار كنت اقتبس اوجهاً من المعرفة الاسلامية. ومن شخصيات دمشق التي كنت اتردد على مجالسها لا أنسى الشيخ العلامة عبدالقادر المغربي، وشاعر دمشق الكبير خليل مردم بك، والعلامة مصطفى الشهابي الذي كان مرجعاً في علم النبات. من التدريس الى النشر والترجمة مكثت في دمشق سنوات ثلاثاً عدت بعدها الى بيروت وشرعت بالتدريس في كلية المقاصد، موزعاً نهاري بين قسمي البنين والبنات اللذين كانا برئاسة كل من الدكتور زكي النقاش والآنسة زاهية دوغان. ثم ما لبثت ان قبلت التدريس في كلية البنات الأهلية الى جانب المقاصد، وذلك تحت الحاح المتطلبات المادية التي حملتني ايضاً على التدريس في مدرسة احمد العيتاني الليلية، وكانت الأولى من نوعها في بيروت، وحملت اسم "معهد البكالوريا المسائي" في رأس النبع. هكذا كنت اقضي النهار كله وجزءاً من الليل في التدريس، فلا اعود الى منزلي قبل العاشرة ليلاً، فأرهقني هذا العمل المضني. أما قصتي مع النشر فبدأت في اواخر الحرب العالمية الثانية. ففي جلسة جمعت بيني وبين أخويّ عفيف الذي كان موظفاً في "شركة سوكوني للنفط" ومحمد الذي كان يعمل في الصحافة وبهيج عثمان الذي كان سكرتيراً لتحرير مجلة "الأديب" لصاحبها البير أديب، راودتنا فكرة انشاء جريدة يومية ما لبثت ان انقلبت الى انشاء دار للنشر، بسبب ارتفاع تكاليف اصدار الجريدة. توافقنا نحن الاربعة على فكرة انشاء الدار على ان يكون رأسمالها اربعة آلاف ليرة لبنانية يساهم كل منا بألف منها، وقرّ الرأي على تسميتها بپ"دار العلم للملايين". كان ذلك في العام 1945. وبسبب ضآلة رأسمال الدار الذي لم يمكننا من استئجار مكتب لها اكتفينا بإستئجار صندوق للبريد يعبتر من الصناديق الأقدم في بيروت. وللسبب نفسه اكتفينا في البداية باصدار سلسلة من الكتيبات الشهرية دعوناها "سلسلة علم النفس" التي صدر منها 20 جزءاً قمت بنفسي بترجمتها عن اللغة الانكليزية، باعتبار ان الناس كانوا في حاجة وشوق الى كل ما يتعلق بالمشاكل النفسية من خجل وخوف واضطراب… الخ. وكان ثمن النسخة من هذه السلسلة التي انتشرت وراجت على نحو واسع، لا يتجاوز الستين قرشاً لبنانياً. هو عدم انقطاعنا عن اعمالنا ووظائفنا ما آل الى توسيع الدار وتراكم رأسمالها وأرباحها التي خصصناها كلها للتوظيف في اصدار كتب جديدة وفي استئجار مكتب لأعمال الدار في بناية العلايلي في المعرض، قبل ان ننتقل الى بناية درويش في الخندق الغميق. والكتاب الأول الذي اصدرته "دار العلم للملايين" كان "العرب: تاريخ موجز" لفيليب حتي، الذي أعدنا طبعه مرات عدة لرواجه على نحو منقطع النظير في البلدان العربية وفي اميركا. ومنذ ذلك الحين توسعنا في النشر فجعلنا نصدر ثلاثة كتب او اربعة في الشهر، بعدما آلت ملكية الدار لي ولبهيج عثمان، وحدنا. وكان من حسن طالع الدار انها استقطبت نفراً من ابرز الكتاب والمفكرين والشعراء من امثال قسطنطين زريق والشيخ صبحي الصالح وعبدالرحمن بدوي وعبدالعزيز سيد الأهل وخالد محمد خالد وطه حسين وسهيل إدريس وحسن صعب وعمر فروخ وصبحي المحمصاني وشاكر مصطفى وأنيس المقدسي وجبرائيل جبور وشكري فيصل ونازك الملائكة وعبداللطيف شرارة وأدونيس وميخائيل نعيمة وعبدالله العلايلي وأدمون رباط وأنور الخطيب وعبدالله عبدالدايم ومحمد النقاش وجورج حنا وتوفيق يوسف عواد وفؤاد صرّوف وقدري قلعجي وجبور عبدالنور… وغيرهم. في الفترة التي توسعت فيها أعمال دار العلم للملايين وازدهرت كان النشر شيئاً مجهولاً في لبنان، فلم يكن موجوداً الا مكتبات التي كانت تنشر كتباً مدرسية في معظمها وفي المناسبات، من هذه المكتبات: مكتبة صادر التي تحولت لاحقاً الى دار للنشر. اما صاحب "المكشوف" الشيخ فؤاد حبيش فبدأ بنشر بعض الكتب الأدبية، منها "الصبي الأعرج" لتوفيق يوسف عواد، و"عشر قصص" لخليل تقي الدين. والى جانب هذه المكتبات أذكر "المكتبة الأهلية" لصاحبها محمد جمال الذي نشر بعض الكتب عن عظماء التاريخ من وضع الأستاذ عمر ابو النصر. وهنالك ايضا المكتبة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين التي نشرت عدداً من كتب التراث. وعليّ ان اشير في هذا السياق الى ان الحركة الثقافية والترجمة كانتا على اشدهما في القاهرة آنذاك. وربما كانت دار العلم للملايين من المؤسسات التي ساهمت في دفع الحركة الثقافية في بيروت. ومن مترجمي تلك الحقبة اذكر الفلسطينيين خيري حماد وعادل زعيتر، وقد ُنشر ما ترجمه هذان الرجلان في القاهرة. غلبت الصفة الإدارية في الدار على عمل المرحوم بهيج عثمان، بينما غلبت الصفة الأدبية على عملي، فانقطعت عن التدريس وانصرفت الى الترجمة في باب التراث والرواية. وبلغ عدد ما ترجمته حوالي مائة كتاب غلبت عليها القصص العالمية من روائع الأدب الإنساني، مثل "قصة مدينتين" لتشارلز ديكنز، و"العقب الحديدية" لجاك لندن و"كوخ العم توم" لهاريت ستاو، و"وداعاً أيها السلاح" و"الشيخ والبحر" و"ثلوج كاليمنجارو" لارنست همنغواي. ومن الأدب الفرنسي نقلت الى العربية رائعة فيكتور هيغو "البؤساء" الذي كان حافظ ابراهيم تصرف على طريقة المنفلوطي في نقل جزءٍ واحد منها. المعاجم والموسوعات انكبابي على الترجمة لمدة عشرين عام حملني اخيرا على الانتقال الى مجال التأليف القاموسي والمعجمي والموسوعي. كنت بادئ الأمر استعين في اعمال الترجمة بمعجم قديم من منشورات المطبعة الاميركية في بيروت، قبل ان اهتدي الى قاموس المرحوم الدكتور خليل سعادة الصادر في القاهرة عام 1911، ثم الى "القاموس العصري" للمرحوم الياس انطون الياس، الصادر ايضاً في القاهرة عام 1913، فضلاً عن استعانتي بالقواميس الانكليزية. اعتدت على تدوين هوامش على القواميس والمعاجم التي كنت استخدمها، وهكذا اجتمعت لدي ذخيرة ملحقة يسرت لي عملي ووفرت عليّ قدرا من الجهد والوقت. ونزولاً عند اشارة بعض اصدقائي الذين اطلعوا على ما اجتمع لدي من هوامش فكرت بإصدار قاموس انكليزي عربي ما كنت يوماً عازماً على اصداره او التفكير فيه. وفي العام 1967 انجزت هذا العمل الذي صدر بعنوان "قاموس المورد". اما "موسوعة المورد" التي بدأت في تأليفها في العام 1970 فكانت الغاية منها تطوير "المورد" وإغنائه لناحية شرح مفرداته العلمية والفنية والتوسع في تقديم معلومات عن الاعلام والاماكن. وبسبب ضخامة حجم المادة التي تجمعت لدي تفرغت لوضع موسوعة مستقلة تشتمل على ما يتوق المثقف العربي الى معرفته في حقول العلوم والآداب والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والمعتقدات والمذاهب الفلسفية والفنون الجميلة، فضلاً عن اعلام الرجال والنساء الذين اطلعتهم الانسانية منذ فجر الحضارة حتى الآن. ولإنجاز هذا العمل الذي أنجز في العام 1983، كنت على مدى 13 سنة من خريف العمر اعمل حوالي 12 ساعة في اليوم مستعيناً بكافة المراجع الموثوقة من كتب متخصصة ومعاجم وموسوعات. وقد أرغمني هذا العمل الشاق على الانقطاع عن الناس والتزام المنزل اللذين لم ينتهيا بانتهائي من الموسوعة، بل استمر بسبب انكبابي على اعداد معجم انكليزي - عربي يبلغ حجمه اربعة أضعاف المورد، وهو الآن قيد الانجاز. وهذا المعجم يختلف عن المورد في منهج تأليفه، اذ الزمت نفسي بذكر أصل كل كلمة من كلماته، وأوجه استخدامها… أي سيرة حياة تلك الكلمة وتطورها من اليونانية الى اللاتينية الى الفرنسية حتى غدت في وضعها الراهن في اللغة الانكليزية. وفرضت على نفسي ايضاً تزويد كثرة من معاني الكلمات بالشواهد التي تبين وجوه استخدامها في مختلف العصور. هكذا جعلت من "المورد الكبير" هذا معجماً وموسوعة في آن معاً، لأنني شرحت فيه كثرة من المصطلحات وأضفت إليها أعلام الرجال وتعريفات بالمدن والبلدان والعواصم، فضلاً عن اهتمامي بالأحداث التاريخية والتعريف بالمذاهب الفلسفية والدينية… وإن كان لي من امنية فهي ان يجعل الله لي في العمر فسحة تمكنني من انجاز هذا العمل على اكمل وجه لأتوج به حياتي العملية. مجمع اللغة العربية منذ اقامتي في دمشق كنت اتردد على مكتبة المجمع العلمي فيها للمطالعة. ويعود تاريخ إنشاء هذا المجمع الى عهد الملك فيصل. ومن المساهمين في انشائه عبدالقادر المغربي ومحمد كرد علي الذي كان اول رئيس له. وكان المجمع ينشر مجلة فصلية تعنى بالشؤون اللغوية، فضلاً عن نشره كتباً عدة لأعضائه. اما مجمع اللغة العربية في القاهرة فقد انشئ حوالي سنة 6091، وكان عدد أعضائه لا يتجاوز العشرين. وقد تزايد هذا العدد حتى بلغ المئة عضو من عرب ومستشرقين. ومن اوائل المنتسبين الى هذا المجمع: عبدالعزيز فهمي، احمد امين، طه حسين، وعباس محمود العقاد. وفي العام 1984 كان لي شرف الانتساب الى هذا المجمع الذي حضرت معظم مؤتمراته السنوية وشاركت فيها بعدد من الدراسات. وفي الفترة التي بدأت فيها ما سمي بپ"حرب التحرير" في لبنان كنت احضر جلسات المجمع في القاهرة، وقد شاءت الظروف ان ابقى وزوجتي هناك مدة سبعة اشهر بسبب إقفال مطار بيروت. وفي اثناء هذه الاشهر انكببت على العمل في "المورد الكبير" من غير انقطاع. فهذه الحرب التي شردتني وعائلتي اكثر من مرة الى لارنكا والقاهرة وريفون في جبل لبنان لم تحبط عزيمتي على انجازه ما عاهدت نفسي على انجازه، مهما كانت الصعاب، ولو كلفني ذلك العيش كراهب منقطع عن الناس7