إصدار وتجديد الإقامات يتصدر أبشر في أكتوبر    الدحيم: «سيتي سكيب العالمي» بات منصة عالمية للفرص الاستثمارية في القطاع العقاري    رابطة العالم الإسلامي تدين استهداف قوات الاحتلال لوكالة "أونروا"    شراكة إعلامية سعودية صينية واتفاقيات للتعاون الثنائي    انتظام 30 ألف طالب وطالبة في أكثر من 96 مدرسة تابعة لمكتب التعليم ببيش    وزارة الصناعة والثروة المعدنية تمكِّن 150 مصنعًا من تحقيق معايير الجودة العالمية    4 مهددين بالغياب عن الأخضر أمام الصين    حرس الحدود بمكة ينقذ مواطنًا تعطلت واسطته البحرية في عرض البحر    وزير الدفاع يلتقي سفير جمهورية الصين الشعبية لدى المملكة    دور التحول الرقمي في مجال الموارد البشرية في تحقيق رؤية المملكة 2030    الابتسام يتصدر ممتاز الطائرة    وزير التخطيط والتعاون الدولي: المشاريع السعودية تسهم في تحسين الخدمات باليمن    وزارتا الرياضة والاستثمار تعلنان إطلاق منتدى الاستثمار الرياضي (SIF)    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    موافقة خادم الحرمين الشريفين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    الخريجي وسفير أمريكا لدى المملكة يستعرضان العلاقات الثنائية بين البلدين    تعيين الشثري رئيساً تنفيذياً لهيئة المنافسة    احتفال أسرة الصباح والحجاب بزواج خالد    إحباط 3 محاولات لتهريب أكثر من 645 ألف حبة محظورة وكمية من مادة «الشبو»    نائب أمير منطقة مكة يستقبل المندوب الدائم لجمهورية تركيا    وزير الصحة: 10 % نموي سنوي لقطاع الأدوية بالمملكة    تدشين 3 عيادات تخصصية جديدة في مستشفى إرادة والصحة النفسية بالقصيم    مقتل المسؤول الإعلامي في حزب الله اللبناني محمد عفيف في قصف إسرائيلي على بيروت    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    رئيس مجلس الشورى يرأس وفد السعودية في الاجتماع البرلماني بدورته ال 29 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في باكو    "سعود الطبية" تستقبل 750 طفلاً خديجًا خلال 2024م    السياحة: نسبة إشغال الفنادق في الرياض تجاوزت 95% بالتزامن مع إجازة منتصف العام الدراسي    نمو سجلات الشركات 68% خلال 20 شهراً منذ سريان نظام الشركات الجديد    "تلال" تختتم مشاركتها في "سيتي سكيب الرياض" بتوقيع اتفاقيات إستراتيجية لتعزيز جودة الحياة في مشاريعها    "الأرصاد"سماء صحو إلى غائمة على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية (GCAT)    المكسيكي «زوردو» يوحّد ألقاب الملاكمة للوزن الثقيل المتوسط لWBO وWBA    «الطاقة»: السعودية تؤكد دعمها لمستقبل «المستدامة»    بيولي ينتظر الدوليين قبل موقعة القادسية    منتخب هولندا يهزم المجر برباعية ويلحق بالمتأهلين لدور الثمانية في دوري أمم أوروبا    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    الإستشراق والنص الشرعي    المتشدقون المتفيهقون    تجاوز الدحيل القطري.. الخليج ينفرد بصدارة الثانية في «آسيوية اليد»    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    المرتزق ليس له محل من الإعراب    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    وطنٌ ينهمر فينا    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" تنشر على حلقات كتاب باتريك سيل عن أبو نضال . حرب الإغتيالات الكبرى - أبو نضال يعترف أمام أبو إياد : نعم إسرائيل اخترقت منظمتنا الإسرائيليون اغتالوا أبو حسن بسبب علاقاته السرية مع الاميركيين 5
نشر في الحياة يوم 02 - 03 - 1992

هذه الحلقة الخامسة من كتاب باتريك سيل "ابو نضال: بندقية للايجار" تروي، بشكل مفصل، قصة "حرب الاغتيالات الكبرى" بين الفلسطينيين انفسهم وبينهم والاسرائيليين. كما تكشف معلومات مهمة وجديدة عن عمليات اختراق اسرائيل للمنظمات الفلسطينية. وقد حصلت "الوسط" من المؤلف نفسه على حقوق النشر المسلسل لهذا الكتاب باللغة العربية في العالم اجمع لما يتضمنه من معلومات واسرار عن حقبة اساسية وحساسة من تاريخ الشرق الاوسط. وفي ما يأتي الحلقة الخامسة من هذا الكتاب:
بينما كنت أرسم مجرى نشاط ابو نضال في العراق، ثم عندما انتقل الى سورية وبعدها الى ليبيا، بدا لي اول الامر انه يمثل حالة تقليدية لزعيم فئة فلسطينية اصبح، وهو يلوب على ملاذ آمن، مرتزقاً. وحين راجعت المعلومات التي جمعتها، وجدت ان العراق "منعه" عندما اراد ان يتزعم الراديكالية العربية لكنه تخلى عنه خلال حربه مع ايران. اما سورية فقد اخذته لديها ليقاتل في حربها ضد الاردن، غير انها اضاعته حين ذهب الى ليبيا التي استخدمته ضد خصومها وضد اعداء خارجيين آخرين. كما ان هذه الدول العربية الثلاث "الراعية" لأبو نضال والتي كانت تعارض استقلالية منظمة التحرير الفلسطينية استخدمته للابقاء على ياسر عرفات مكبوحاً.
اما ابو نضال فكان يُظهر نفسه بأنه الرافض الاول والمعارض الشديد المراس لأي حل تفاوضي مع اسرائيل يعمل له من سمّاه "المستسلم" عرفات منذ 1974. غير انه كان من الواضح ان اكثر عملياته تبدو مؤذية للفلسطينيين. فالرجل كان لغزاً. ولم استطع فهم الباعث الذي كان يُحرّكه.
وفي سبيل ان اوسّع دائرة تحقيقاتي قمت باستشارة مصادر في اوروبا وفي الشرق الاوسط. وقد تحدثت الى ضباط امن ومخابرات والى صحافيين وسياسيين، وهم جميعاً اشخاص كان لديهم، لسبب او لآخر، اهتمامات مهنية في الحرب الاسرائيلية - العربية نظراً لأن بعض معاركها دارت، ولا تزال تدور، على أرض بلادهم. فماذا كانت حصيلة آراء هؤلاء حيال ابو نضال ومنظمته؟
لقد سمعت تفسيرين مختلفين تماماً. فوجهة النظر التقليدية ترى ان ابو نضال قدّم نفسه على انه يمثل محوراً متطرفاً داخل الجدل الفلسطيني، الذي احتدم على امتداد عشرين عاماً، حول ما اذا كان حلٌ وسط مع اسرائيل هو امر ممكن او بل حتى مرغوب فيه. الا ان وجهة نظر اخرى اكثر اثارة ابدتها لي بعض المصادر، وكانت تتماشى مع ما ذكره أبو اياد، فهي تقول: ان ابو نضال كان اداة بيد الاسرائيليين اما لأن منظمته قد اخترقتها الموساد مثلما اخترقت بين حين وآخر كل واحدة من الفئات الفلسطينية الاخرى خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية او لأن ابو نضال نفسه كان قد تم تجنيده. ويُقدم برهان هذا الرأي عادة على الشكل التالي: ان اسرائيل وأبو نضال هما، من الناحية النظرية، كلٌ منهما عدو للآخر لدود، اما من الناحية العملية فان اهدافهما المناهضة لمنظمة التحرير الفلسطينية وكذلك عملياتهما متشابهة الى حد يوحي بأن هناك علاقة عمليّاتية بين الطرفين.
ان البراهين لتأكيد هذه النظرية قليلة. وقال لي ضابط مخابرات اردني كبير، يقيم الآن متقاعداً في عمان، "عندما تتغلغل داخل منظمة ابو نضال فانك ستجد الموساد فيها". وقال لي ضابط أمن الماني منخرط في عمليات مكافحة الارهاب واجريت معه حديثاً في لندن في نيسان ابريل 1990: "ان اسرائيل بحاجة الى السيطرة على رجال من امثال ابو نضال، ويتعين عليها ان ُتحيّده، واذا كان بوسعها ان تفيد منه فان ذلك سيكون افضل. ان اي جهاز للمخابرات سيفعل الشيء ذاته اذا تمكن من ذلك". وفيما بعد قال لي موظف حكومي فرنسي - خبير بشؤون الارهاب الدولي وذو معرفة خاصة بالشرق الاوسط - خلال محادثة طويلة اجريتها معه عام 1991: "اذا لم يكن أبو نضال نفسه عميلاً اسرائيليا، فان اثنين او ثلاثة من كبار جماعته لا بد على الارجح ان يكونوا هم انفسهم عملاء، اذ لا شيء غير ذلك يُفسر بعض عملياته. غير ان الدروب مغطاة جيداً، وسيكون من العسير عليك ان تجد الدليل" ….
ليس من دولة في المنطقة مسكونة بهاجس الفلسطينيين اكثر من اسرائيل التي كما ذكر لي ضابط مخابرات اسرائيلي سابق، لاحقت الجماعات الفلسطينية من كل الالوان السياسية خلال ربع القرن الاخير واعتمدت في سبيل ذلك على الفلسطينيين الذين وقعوا تحت حكمها بعد حرب 1967 وأصبح بيدها مصير حياتهم وموتهم. وقد قام جهاز أمن اسرائيل "شيت بيت" وجهاز مخابراتها "الموساد" باستخدام اعداد كبيرة من العملاء الفلسطينيين، سواء عن طريق الشراء او عن طريق الاكراه، واستعملوا للقضاء على المقاومة في الاراضي المحتلة وللتسلل الى جماعات الفدائيين الموجودة في الخارج. وقد ذكر زئيف شيف وهو مراسل حربي اسرائيلي يتمتع بالاحترام، في جريدة "هآرتس" يوم 21 آب اغسطس 1989 ان عدد المخبرين والمتعاونين في الاراضي المحتلة يقدر بخمسة آلاف وهم الذين كانوا ضحايا الاغتيال على ايدي اقرانهم الفلسطينيين خلال الانتفاضة. وبفضل المعلومات التي ينقلها امثال اولئك العملاء تمكنت اسرائيل في اواخر الستينات ان تخنق في المهد حرباً فدائية كان الفلسطينيون يأملون في شنها عليها.
ومنذ عام 1967 أُطلق على الحملة الاسرائيلية لتجنيد عملاء فلسطينيين اسم "عملية الفيضان" نظراً الى العدد الكبير الذي دخل في الشبكة. وبهذا الصدد ذكر ضابط مخابرات اردني: "ان الاسرائيليين ينشدون الكمية، فهم يحاولون ان يجنّدوا تقريباً كل طالب يسافر الى بلد عربي. وبهذا لا يخسرون شيئا فاذا رضي الطالب بأن يعمل معهم يكونون قد كسبوه مُخبراً، اما اذا رفض فانهم يمنعونه من العودة الى الاراضي المحتلة وبذلك يكونون قد تخلصوا من فلسطيني آخر. ويقع هؤلاء الشبان الفلسطينيون تحت ضغط شديد، فاذا لم يتعاونوا تعرضوا لأن يحرموا من رؤية اهلهم مرة اخرى. وغالباً ما يكون اولئك الشبان هم المعيلون الوحيدون لأسرهم، ولذلك لا يجدون امامهم خياراً آخر غير العودة. ومن هنا يبدأون بارسال تقارير الى الموساد عن طريق صناديق البريد التي زودوا بعناوينها.
حرب الفلسطينيين ضد الاسرائيليين
لقد استطاع الفلسطينيون، في بعض الاحيان ان يردوا الضربات. وكان من ابرز ما حققوه من نجاح حين اغتالوا في مدريد احد مُشغّلي العملاء هو باروخ كوهين التابع للموساد الذي اقام شبكة اوروبية واسعة للمخبرين من الطلاب الفلسطينيين، واستعمل هذه الشبكة لاختراق الحركات الفدائية. وفي قبرص، تمكنتُ بعد مفاوضات طويلة في ربيع 1991، من اجراء محادثة مع ضابط مخابرات متقاعد من حركة فتح ادّعى بأنه هو الذي استدرج كوهين الى حتفه. كان رجلاً نحيفاً، فارع القامة، ذا أنف طويل، وعينين حزينتين. وشرح في البداية كيف نصب الفخ والطعم. ففي عام 1972 كان يدرس في اسبانيا على نفقة اخيه واصدرت فتح تعليماتها اليه بأن يكتب الى اهله في الاراضي المحتلة ليعلمهم بضيق ذات يده وبأنه يفكر بأن يترك الدراسة. وكانت فتح تعلم ان الموساد تراقب البريد، وانها حين ينتهي اليها امر ضيقه المالي فسترى فيه مخبراً محتملا. وبالفعل لم يلبث الفلسطيني بعد فترة قصيرة ان تلقى في شهر تشرين الاول اكتوبر 1972 مكالمة هاتفية من رجل اطلق على نفسه اسم سامي حداد وخاطبه باللغة العربية بلهجة مقدسية وأفهمه أنه صديق لأخيه واتفقا على ان يلتقيا في فندق بلازا في مدريد. وقال لي ضابط مخابرات فتح المتقاعد: "كان الرجل ضئيل الجسم لطيفا، وبدأ يحدثني بمرح ويلقي النكات، واخبرني كيف انني اثقل ماليا على اخيه، واشار الى شكواي التي كنت بعثت بها الى اهلي. ورحت احدثه كما لو انني مقتنع حقاً بأنه صديق للعائلة. وما لبث ان اتخذ سمة الجد واخبرني فجأة انه من الموساد، وطلب مني ان اعمل معه".
ورغم ان الفلسطيني كان مهيئاً لتلقي مثل هذا العرض، الا ان مشاعره كانت لها الغلبة. فهو غادر الضفة الغربية قبل حرب 1967 ولم يكن له اي اتصال مع الاسرائيليين من قبل، فانتفض، ونهض وقال بأنه لا يستطيع ان يمضي في هذا الحديث. وهنا قال له سامي حداد: "اجلس، فعندي رسالة لك من ابيك".
فأجابه الفلسطيني: "انت كاذب. فأبي لا يعرف الكتابة" كانت الرسالة مكتوبة بخط يد اخيه الصغير، وهو صبي في الصف السادس وكان يكتب رسائل أبيه اليه. وهنا قال له حداد: "ان افراد اسرتك هم بقبضة يدنا، وانك مسؤول عن حياتهم. فاذا كنت تريد لهم الحياة، فالافضل ان تقوم بما اطلبه منك".
وتظاهر الفلسطيني بأنه قد ذعر حقا، فوافق على تزويد حداد بالمعلومات التي يريدها - وكانت تتعلق بصورة رئيسية بنشاطات الطلاب الفلسطينيين والمجموعات الطلابية في اسبانيا، وكذلك بنشاط مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في مدريد. وراح الفلسطيني يزوده بشكل منتظم بتقارير حول ذلك كله خلال ثلاثة اشهر.
وفي احد اجتماعاتهما السرية، ذكر سامي حداد للفلسطيني بأنه استُدعي الى تل ابيب ليحقق في امر "الجبهة الحمراء" وهي شبكة تجسس تابعة لليساريين اليهود والوطنيين العرب وتمولها سورية. غير ان عملاء فتح كانوا أبقوا حداد تحت مراقبتهم في مدريد، وعلموا ان وجهته الحقيقية ليست تل ابيب بل هي بروكسيل حيث يتخذ من السفارة الاسرائيلية قاعدة له، كما انهم اكتشفوا بأن اسمه الحقيقي هو الكولونيل باروخ كوهين، وأن له يداً في اغتيال ممثلين لمنظمة التحرير الفلسطينية في اوروبا هما وائل زعيتر الذي قُتل في روما في شهر تشرين الاول اكتوبر 1972، ومحمود الهمشري الذي اغتيل في باريس في شهر كانون الاول ديسمبر. وقال لي محدثي الفلسطيني بأن فتح اتخذت عندئذ قراراً بتصفية باروخ كوهين حين يعود الى مدريد.
وقابل الفلسطيني كوهين مرة اخرى في منتصف كانون الثاني يناير، فطلب منه هذا الاخير ان يذهب الى لبنان كي يخترق احدى خلايا "ايلول الاسود" التي تعمل من بيروت. واتفقا على ان يلتقيا من جديد في مقهى بالميرا بشارع خوزيه آنطونيو يوم 26 كانون الثاني يناير ليراجعا التفاصيل.
ولكن الفلسطيني اصطحب معه في هذه المرة شريكاً مزوداً بمسدس وقف متربصاً امام كشك لبيع الصحف قرب مدخل المقهى. وعندما خرج كوهين من المقهى أُردي قتيلا من مسافة قريبة ولاذ الفلسطينيان بالفرار.
غير ان مثل هذه الضربات الناجحة التي نفذتها منظمة التحرير الفلسطينية كانت نادرة. وذكر لي ابو اياد انهم تمكنوا من قتل ستة عملاء للموساد على مدى السنين، الا ان المنظمة فقدت من رجالها عدداً اكبر بكثير وقال انه كان صراعاً غير متكافئ.
لقد اوضحت قضية باروخ كوهين ان الاختراق الاسرائيلي للمنظمات الفلسطينية كان معروفاً، غير ان ذلك لم يكن يشكل الامر كله. فغالبية مصادر المخابرات التي استشرتها متفقة على انه من الممارسات الشائعة استخدام عملاء اختراق، ليس بهدف تحييد العدو او تدميره فحسب بل من اجل محاولة التلاعب به بحيث ينفذ اوامر دون ان يدري انه منصاع لها. فاذا نجحت عملية التلاعب هذه، فان منظمة العدو تغدو، دون ارادتها، امتداداً لمن تلاعب بها. ويكون هذا بالنسبة لمن يمارسون مكافحة التجسس منتهى امانيهم وجوهرها.
وتقول مصادر المخابرات التي تحدثتُ اليها انه على هذا النحو حرصت اسرائيل على ان ترى في متطرف مثل ابو نضال شخصاً يمكن اثارته او التلاعب به نظراً للأذى الذي يمكن ان يلحقه داخل الحركة الفلسطينية. فآراؤه المتطرفة تجعل منه أداة جيدة تستعمل ضد عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية. واذا ما جرى تشجيعه على اغتيال الموالين لعرفات فان ذلك سيكون افضل بكثير.
اغتيال سعيد حمامي
ان استراتيجية اسرائيل لتدمير منظمة التحرير الفلسطينية بكل الوسائل الممكنة شملت، في ما شملت، ارسال وحدات مغاوير مدربة تدريباً خاصاً لتغتال الزعماء الفلسطينيين، وشن حرب شاملة في لبنان عام 1982 لتصفية المنظمة تصفية جسدية. ومن هنا لم يكن مستبعداً ان يتم استخدام منظمة أبو نضال، اذا ما امكنها ذلك، لاغتيال الزعماء الرئيسيين في معسكر عرفات. وعلى هذا فان قيام حلف بين "الرافضين" لم يكن بعيداً عن التصور.
ومثلما اعتبرت اسرائيل منظمة التحرير الفلسطينية تهديداً ينبغي اقتلاعه، فان ابو نضال وصم عرفات بأنه خائن لتفكيره لانه "يتنازل" لاسرائيل عن ثمانين في المائة من التراب الفلسطيني، ما سيقضي بعدم عودة اكثرية الفلسطينيين الى ديارهم الاولى. لقد كان ابو نضال قبل عام 1974، محوراً يتجمّع حوله داخل فتح منتقدو عرفات اليساريون، اما بعد 1974 فانه اصبح اكثر خطراً وعنوان تهلكة، فقد شقّ الحركة الفلسطينية ولطّخ اسمها بسمعة الارهاب، وأسكت المعتدلين عن طريق قتلهم.
وقد برّر ابو نضال موقفه هذا امام اتباعه بالتأكيد المستمر ان عرفات ورفاقه في فتح هم "العدو الداخلي" وان فتح انما تديرها عصبة من الخونة الذين يدمرون الثورة حين يعملون على تحقيق "تسوية سلمية" مع اسرائيل، وأنه لا بد من الحيلولة دون مثل هذا الاستسلام.
في 4 كانون الثاني يناير 1978 جرى اغتيال سعيد حمامي "السفير المعتدل" لياسر عرفات في بريطانيا بطلقة في رأسه. ويقال بأن المسلح الذي اغتاله بصق عليه قبل ان يطلق رصاصته القاتلة ثم لاذ بالفرار. وقبل بضعة اسابيع، اي في تشرين الثاني نوفمبر 1977، كان الرئيس انور السادات حطّم احد المحرمات العربية حين قام بزيارة لاسرائيل. وقد اشاد الغرب بهذه الزيارة لانها شكلت خرقاً، الا ان العديد من العرب استنكروها باعتبار انها خيانة.
وقد دان عرفات ايضاً السادات الا انه فعل ذلك بكثير من التردد جعل العرب الرافضين يشكّون في انه يرغب في ان يحذو حذو الرئيس المصري. وكان ثمة سر معروف هو ان عرفات شجع رَجُلَه في لندن سعيد حمامي، كي يفتح حواراً مع اليسار الاسرائيلي. وكانت تلك الاتصالات في نظر ابو نضال وداعميه العراقيين، بمثابة امر محرّم، ورأوا في حمامي خائناً يستحق الموت.
كان حمامي واحداً من اقوى المنادين بالتعايش السلمي بين الفلسطينيين والاسرائيليين. وعقد، بدءاً من عام 1975، سلسلة من الاجتماعات مع الساعين الاسرائيليين الى السلام، خصوصاً مع الصحافي والكاتب يوري آفنيري الذي وصف بشكل مؤثر في كتابه "صديقي العدو" تلك اللقاءات المختلسة التي لم تثمر.
كان اغتيال حمامي ايذاناً بحملة ارهابية اودت على مدى السنوات الخمس التالية، بحياة اكثر الاصوات الفلسطينية في الغرب تحلياً بالفكر العميق وبالقدرة على الاقناع. ومن الواضح انه كان ثمة من يتربص لنسف ديبلوماسية عرفات وجعله بلا حول ولا طول. فقد تملك المعتدلين في الحركة الفلسطينية هلع كمّم أفواهم فلاذوا بالصمت، ولم يعد هناك الا القلائل ممن يجرأون على اقامة الاتصالات مع اليسار الاسرائيلي: فالهجمات الضارية اوضحت كم كان اولئك "الحمائم" الفلسطينيون عرضة للخطر، وكيف كانت مسألة حمايتهم لا تدخل في اولويات الشرطة الاوروبية.
ومهما يكن من امر فقد بيّنت الشرطة البريطانية ان قاتل حمامي كان قايد حسين ويعرف احيانا باسم اسعد قايد، وهو عضو تونسي في منظمة ابو نضال، وكان مسجلاً في لندن بصفة طالب.
لقد كان واضحا ان رجل ابو نضال نفذ العملية بموافقة عراقية. في 18 شباط فبراير 1988، سدد ابو نضال ضربة اخرى. فقد اقتحم اثنان من رجاله بهو فندق هيلتون في نيقوسيا وصرعوا الكاتب المصري يوسف السباعي المقرب من السادات. لقد كانت غاية الاعتداء الواضحة هي معاقبة السادات. وقد اخبرني منشقون عن منظمة ابو نضال ان العملية هيأها سميح محمد خضر واسمه الحركي زهير الربا والذي هو اخطر رجال ابو نضال في ميدان العمليات الخارجية بتنسيق تام مع المخابرات العراقية. ويبدو ذلك مقبولا باعتبار ان العراق كان يقود الحملة الرامية الى نبذ مصر بسبب اتصالاتها مع اسرائيل.
بعد ان اغتال المسلحون يوسف السباعي، احتجزوا رهائن في الفندق وطالبوا بطائرة، فأعطيت لهم واحدة من الخطوط القبرصية حلّقت بهم في اجواء المنطقة بحثا عن مكان يهبطون فيه. وعندما حيل بينهم وبين الهبوط في اي مكان، عادت الطائرة ادراجها الى لارنكا. وخلال ذلك، بعث السادات بقوة من المغاوير المصريين لاخضاع المسلحين وتحرير الرهائن. الا ان القبارصة قاوموا هذا التدخل الاجنبي. وما ان نزل المصريون حتى اشتبكوا مع افراد الحرس الوطني القبرصي الذين قتلوا خمسة عشر مصريا خلال معركة استمرت ساعة. وبعد ان تبادلت مصر وقبرص اتهامات مريرة، أفرج المسلحون عن رهائنهم واستسلموا. وقد اعطت الحادثة مثالا واضحا لامكانيات ابو نضال في تمزيق الشمل.
البكر: نعم قتلنا حمامي
بعد بضعة اشهر، تعرض للهجمات عدد من "سفراء" منظمة التحرير الفلسطينية المرموقين، ففي 15 حزيران يونيو 1978، اغتيل علي ياسين ممثل فتح في الكويت في منزله وكان احد المعتدلين البارزين. وفي 3 آب اغسطس 1978 اغتيل في باريس عزالدين قلق، وهو مثقف فلسطيني مخلص وهادئ، وكان ذا تأثير بالغ على الرأي العام الفرنسي. وبعد مضي يومين، اي في 5 آب اغسطس هاجم مسلحون مكتب منظمة التحرير في اسلام آباد وقتلوا اربعة من موظفيه ولكنهم اخطأوا يوسف ابو حنتش ممثل المنظمة. وعلى الفور وجهت المنظمة الاتهام الى ابو نضال والعراق. فاغتيال ياسين الرجل المخلص الهادئ والدافئ الطباع، أثار غضبا غير عادي. وقال لي ابو اياد "أنا لم ارغب في قتل ابو نضال الا يوم اغتال علي ياسين" وأضاف انه حاول تدبير امر قتله بل انه حمل معه من اجل ذلك اسلحة الى بغداد خلال زيارة رسمية، غير ان الاستخبارات العراقية كانت تحيط أبو نضال باجراءات امنية لا تقل شدة عن الاجراءات المحيطة بالرئيس البكر او بصدام حسين.
ومن أجل الثأر لياسين جنحت فتح الى الحرب. فأطلقت صواريخ على السفارة العراقية في بيروت يوم 17 تموز يوليو 1978. وبعد يومين اقتحمت مكتب ابو نضال في طرابلس ليبيا فقتلت اثنين من اعضائه، وبتاريخ 24 زرعت فتح قنبلة خارج السفارة العراقية في بروكسيل. وفي 28 من الشهر ذاته نجا السفير العراقي في لندن من محاولة اعتداء على حياته، وبتاريخ 31 حاول شقيق سعيد حمامي، واسمه احمد، الاستيلاء على السفارة العراقية في باريس، ففتح اعضاء السفارة النار على الاثر وقتلوا مفتشا من الشرطة الفرنسية.
بعد مرور بضعة اشهر على اغتيال ياسين وقلق، عقد مؤتمر قمة عربي في بغداد لاتخاذ قرار بمقاطعة مصر بسبب توقيعها اتفاقات كامب ديفيد مع اسرائيل. ومن اجل ذلك تصالحت سورية موقتا مع العراق. وبينما كان الرئيس حافظ الاسد يهم بالذهاب الى بغداد قرر ان يصطحب معه عرفات وابو اياد كي يعقدا سلاما مع الرئيس البكر ومع صدام حسين، وينهيا ما بين العراق ومنظمة التحرير الفلسطينية من حرب أجّجها دعم العراق لهجمات ابو نضال القاتلة على المعتدلين من اعضاء المنظمة. وأقام الرئيس البكر حفلة استقبال في منزله تكريما للوفود العربية الزائرة وتم اقناعه بأن يدعو عرفات على رغم انه كان لا يزال لا يتكلم معه. وفي احدى فترات الحفلة لم يستطع البكر ان يتمالك نفسه، فتوجه، حسب شاهد عيان، نحو عرفات وصرخ في وجهه قائلا: "نعم! لقد قتلنا حمامي، لقد فعلنا ذلك! اما بالنسبة الى الآخرين فلا علاقة لنا بموتهم!".
يصعب ان يجد المرء ماذا سيفيد البكر ونائبه صدام حسين من اخفائهما للحقيقة. فتصفية المعارضين كانت شيئا مألوفا وعاديا بالنسبة اليهما، ولا ينتابهما اي خجل منه. لذلك فإن البكر حين تنصل من مسؤولية قتل ياسين وقلق انما كان الى حد كبير يتفوه بالحقيقة. وقد اخبرني ابو اياد نفسه فيما بعد ان رئيس المخابرات العراقية سعدون شاكر ووزير الخارجية طارق عزيز نفيا ايضا بشدة تورط العراق في الايعاز بذلك القتل، وقال ابو اياد انه ميال الى تصديقهما.
في عام 1987 عندما جابه ابو اياد ابو نضال في الجزائر، فإن هذا الاخير اقر بدوره بأنه قتل حمامي، ولكنه نفى بشكل متكرر ان يكون له يد في اغتيال ياسين وقلق. وقد اعلمني بعض المنشقين عن ابو نضال انه كان يسود في منظمته، ذات الادارات المستقلة تماما عن بعضها البعض، حيرة حيال اغتيالهما، وكانت كل ادارة تلقي اللوم على الاخرى.
فإذا لم تكن المخابرات العراقية ولا ابو نضال قد اصدرا امر الاغتيال، فمن الذي إذن امر بالقتل؟ لعل ثمة ما يشير هنا الى تدخل خارجي. لقد كان ياسين في الخليج وقلق في فرنسا داعيتين بليغين الى تعايش اسرائيلي - فلسطيني، والى حل يقوم على وجود دولتين، وهي كلها افكار بغيضة في نظر تكتل الليكود. ومما لا شك فيه ان اشخاصا من أمثال ياسين وقلق لا تنطبق مواصفاتهما على الصورة المشوهة التي يلصقها بيغن بمنظمة التحرير الفلسطينية.
مقتل أبو حسن
لم تكن مضت بضعة اسابيع على قمة بغداد حتى وجّهت اسرائيل ضربة صاعقة في حربها التي لا هوادة فيها ضد منظمة التحرير. ففي 22 كانون الثاني يناير 1979 فُجّرت سيارة مفخخة تابعة للموساد في بيروت وقتلت رئيس أمن فتح علي حسن سلامة المعروف بإسم ابو حسن واربعة من حراسه وخمسة آخرين من عابري السبيل. وذكرت الشائعات ان اسرائيل كانت تنتقم بهذا العمل من دور سلامة في عمليات "ايلول الاسود" قبل خمس سنوات.
لقد اختار ابو اياد الشاب القدير حسن سلامة نائباً له في هيئة "الرصد المركزي" التي أُنشئت عام 1967 لمكافحة الجاسوسية. الا ان سلامة انشق عن فتح خلال الازمة الاردنية عام 1970 وقاد بنفسه فئة "أشبال النمور" في جماعة "ايلول الاسود". وكان اهم ما قام به هو القاء قنبلة صغيرة على بعض مستودعات النفط في تريستا بتاريخ 5 آب اغسطس 1972، وعلى الاثر جرى اتصال سري معه من قبل عدد من شركات النفط لكي يحميها مقابل مبالغ طائلة يسيل لها اللعاب. وهكذا لم تعد تحدث عمليات اخرى من هذا النوع. الا ان سلامة قام، التزاماً بالواجب بإبلاغ رفاقه السابقين في فتح عن تلك العروض التي قدمت له، ما جعل فتح تسجل له هذه النزاهة. وكان ذلك احد الاسباب التي جعلت عرفات يعيد سلامة الى فتح ويوليه قيادة حرسه الشخصي، وهو الوحدة التي عرفت باسم القوة 17.
وكان من نتائج هذا العمل الذي أُوكل اليه في فتح وتزايد التفاؤل بالوصول الى تسوية سلمية بعد حرب 1973 ان طرأ تغيير دراماتيكي على مواقف علي حسن سلامة. فاستناداً الى تعليمات مكتوبة وجهتها فتح اليه شرع بإقامة علاقة مخابراتية مع مدير محطة وكالة المخابرات المركزية الاميركية في بيروت أدّت فيما بعد الى ان يتحول عضو "ايلول الاسود" السابق الذي كان يرمي الى مهاجمة الاهداف الاميركية الى حام للسفارة الاميركية في بيروت خلال الحرب الاهلية، ومشرف على الاجلاء الآمن للمدنيين الاميركيين عام 1976. وكي ُيتمّ سلامة دخوله الى العالم الرخي المترف والمحافظ، اتخذ لنفسه زوجة ثانية بارعة الجمال هي ملكة جمال الكون السابقة اللبنانية جورجينا رزق.
وقد تنامت علاقات اميركا مع منظمة التحرير حين اعلن الرئيس جيمي كارتر دعمه للوطن الفلسطيني في اذار مارس 1977 وذهب سلامة مرتين الى الولايات المتحدة حيث اقام في مقر وكالة المخابرات المركزية في منطقة لانجلي قرب واشنطن، وهناك قدم لمضيفه تقويماً شخصياً معمقاً عن عرفات، وكانت تلك هي المرة الاولى التي يستمع فيها ضباط المخابرات الاميركية الى مثل هذه الشهادة من شخص مقرب جداً من زعيم منظمة التحرير الفلسطينية. واوضح سلامة ان المنظمة انما يمولها الرأسماليون الفلسطينيون وليس موسكو، وانها على استعداد لتضمن بأن دولة "فلسطينية" في المستقبل لن تكون شيوعية ولا ارهابىة ولا ديكتاتورية من اي نوع. واعلم سلامة ادارة المخابرات الاميركية ان الفلسطينيين مستعدون لعقد صداقة مع الولايات المتحدة، وانهم غير مهتمين بأن يدمروا اسرائيل.
وحسب ضباط المخابرات الغربية الذين تحدثت اليهم فإن اسرائيل لم تكن مستعدة للسماح بأن تتطور براعم الصداقة التي تفتحت بين اميركا والمنظمة لتصبح تعاوناً حقيقياً من اي نوع كان. ويقول اولئك الضباط انه بعدما قوّمت اسرائيل معنى اتصالات سلامة مع المخابرات الاميركية اتخذت قراراً بالقضاء عليه. فهو اذن لم يمت بسبب نشاطاته السابقة في منظمة "ايلول الاسود"، وانما قتل لانه اضحى رجل الارتباط بين المنظمة ووكالة المخابرات الاميركية.
بعد فترة من التوقف استؤنفت عمليات اغتيال ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية. ففي الاول من حزيران يونيو 1981 اغتيل ممثل المنظمة في بروكسيل نعيم خضر الذي كان مثل ياسين وقلق احد المعتدلين المرموقين. وقد القيت تبعة قتله على ابو نضال.
الا ان عميل الموساد السابق فيكتور اوستروفسكي يذكر في كتابه دون مواربة ان الموساد هي التي قتلت خضر. ففي كتابه "عن طريق الخداع" 1990 يقول: "بينما كان خضر في طريقه الى عمله، برز له رجل داكن البشرة ذو شارب رفيع، ويرتدي سترة جلدية، واطلق عليه خمس رصاصات في قلبه وواحدة في رأسه، وفر نحو منعطف الشارع وقفز الى سيارة "تاكسي" عابرة واختفى. ورغم ان عرفات لم يكن على بيّنة من هوية القاتل فإن الموساد هي التي وجهت الضربة".
لقد اغتيل خضر في وقت كان انتباه رئيس وزراء اسرائيل مناحيم بيغن مشدوداً الى لبنان. فبعد ان أُخرجت مصر من جبهة المواجهة العربية بواسطة معاهدة السلام عام 1979، خطط بيغن لجلب لبنان الى فلك اسرائيل وبالتالي الى تحييد سورية. وكانت الموساد تعمل منذ سنين على تهيئة احد امراء الحرب اللبنانيين المسيحيين، وهو بشير الجميّل، ليلعب دور مفوض اسرائيل في بيروت.
وفي ربيع 1981 بدأ بيغن سلسلة من المناورات العدوانية على لبنان مثل إسقاط طائرتي هيليكوبتر سوريتين في شهر نيسان ابريل، والقصف الجوي والبحري العنيف للمواقع الفلسطينية في شهري ايار مايو وحزيران يونيو. وكان هدف تلك المناورات جرّ السوريين والفلسطينيين الى القتال. ولكن كان على بيغن ان ينتظر حتى حزيران يونيو 1982 عندما وقعت محاولة الاعتداء على السفير الاسرائيلي في لندن التي اعطت بيغن الذريعة التي كان يحتاج اليها ليشن حرباً في لبنان تتيح له ان يحقق خطته الاستراتيجية.
كان خضر، ممثل المنظمة في بروكسيل، احد القادة الفلسطينيين الذين كانوا يدركون حينذاك اهمية عدم اعطاء بيغن اي مبرر لغزو لبنان. وكان خضر اتصل هاتفياً لهذا الغرض مع احد ديبلوماسيي السفارة الاسرائيلية في بروكسيل وطلب الاجتماع به من اجل البحث عن وسائل نزع فتيل الوضع اللبناني الخطر. غير ان ذلك كان آخر ما تريد الحكومة الاسرائيلية ان تفعله. فالخوف الاساسي الذي كان يعتري المتشددين الاسرائيليين، من امثال بيغن والذين خلفوه، لم يكن مبعثه نضال منظمة التحرير الفلسطينية بل اعتدالها لان الاعتدال قد يجبر اسرائيل في نهاية المطاف، تحت وطأة الرأي العام الدولي، على اجراء مفاوضات وتقديم تنازلات.
وحسبما ذكر اوستروفسكي فإن اغتيال خضر على يد قاتل من الموساد كان بسبب محاولة خضر الحيلولة دون اندلاع حرب في لبنان، وهي حرب كان الفلسطينيون يخشونها، ولكن الموساد واسيادها السياسيين كانوا يريدونها لانها تتيح لاسرائيل الفرصة لمحو الفلسطينيين ولوضع رَجُلِهم، بشير الجميّل في القصر الرئاسي في بيروت.
ان استروفسكي ليس كاتباً دقيقاً، بل انه لا يبدو كاتباً من اي نوع على الاطلاق، فكتابه المهلهل ألفه له شخص آخر. غير ان احداً، حسبما اعلم، لم ينكر البتة انه عمل للموساد، او ان ما سرده في القسم الاول من كتابه حول تجنيده وتدريبه ليس صحيحاً.
وقد بذلت الحكومة الاسرائيلية جهدها لايقاف كتاب اوستروفسكي وحركت دعوى قضائية في نيويورك لمنع نشره. ويعتقد ايان بلاك وبيني موريس، مؤلفا كتاب "حروب اسرائيل السرية 1991 اللذان يتمتعان بالاحترام، ان استروفسكي صادق في ما كتب، ويقولان في كتابهما: "ان كتاب اوستروفسكي يثير الحرج لان ادارة مخابرات ما اذا كانت لا تستطيع كتمان اعمق اسرارها الداخلية فكيف لها ان تكون فعالة؟"، ومن هنا فإن ما قاله اوستروفسكي بأن الموساد هي التي قتلت خضر يصعب الا ُيعطى المصداقية.
ومع ذلك، فحين تحدثتُ الى منشقين من كبار منظمة ابو نضال صيف 1990، اكدوا لي بصورة قاطعة ان القاتل الذي صرع خضر في احد شوارع بروكسيل لم يكن اسرائيلياً بل كان احد اعضاء منظمة ابو نضال، وقالوا انه عدنان الرشيدي واسمه الحركي هشام حجة، وان سلاح القتل هربه الى بلجيكا تونسي اسمه محمد ابو الجاسم، وسلم الى عدنان الرشيدي بواسطة بديل مجهول.
بعد ثلاثة اشهر من مقتل خضر اقتحم مسلحان من جماعة ابو نضال كنيساً يهودياً في فيينا يوم 29 اغسطس آب 1981 وقتلا شخصين وجرحا تسعة عشرة آخر. وقد القت الشرطة النمساوية القبض عليهما وقامت باستجوابهما. وحسبما ذكر الكاتب الاسرائيلي يوسي ميلمان في كتابه "الارهابي البارع: او قصة ابو نضال الحقيقية" 1987 فان النمساويين بعثوا بصورة احد المسلحين المعتقلين الى فريق الشرطة البلجيكية الذي كان يحقق في قضية اغتيال خضر. وقد ذكر الشهود العيان الذين رأوا خضر يُقتل في احد شوارع بروكسيل ان القاتل هو نفسه الذي اقتحم الكنيس في فيينا.
خلال السنتين اللتين سبقتا الهجوم على كنيس فيينا. قام ابو نضال بعدد من الهجمات على اهداف اسرائيلية او يهودية "سهلة" في مدن اوروبية مختلفة. وقد اجهضت اكثر هذه الهجمات او انها لم تكن ناجحة. ففي 13 تشرين الثاني نوفمبر 1979، مثلاً، اخفقت محاولة اغتيال افرايم ايلدار سفير اسرائيل لدى البرتغال. وفي 20 من الشهر نفسه اخفقت محاولة لالقاء قنابل على معرض عن القدس اقامته الجالية اليهودية في سالزبورغ بأحد فنادق المدينة، كما ان محاولة جرت في 3 آذار مارس 1980 لاغتيال ماكس مازان احد البارزين من الجالية اليهودية في مدريد لم تنجح لان القاتل اطلق النار على الرجل الخطأ وصرع محامياً اسبانياً هو آدولفو كويتللو الذي كان يقطن في المبنى ذاته الذي يسكن فيه مازان. وفي 27 تموز يوليو 1980 القيت قنبلتان يدويتان على حفلة لمدرسة آغودات اسرائيل للاطفال في آنتويرب ببلجيكا فقتلتا فتى وجرحتا واحداً وعشرين آخر. وفي الاول من ايار مايو 1981 اغتيل في فيينا هاينزنيتال وهو صديق برونو كرايسكي ورئيس جمعية الصداقة النمساوية - الاسرائيلية. فإذا ما كان لاسرائيل عملاء داخل منظمة ابو نضال وكانت قادرة على التلاعب بعملية انتقاء اهداف المنظمة، فلماذا لم توقف مثل تلك الاعمال الاجرامية العنيفة الموجهة ضد اليهود؟
عملاء من شمال أفريقيا
بعد انهاء حمامي وياسين وقلق وخضر، لم يبق سوى الدكتور عصام سرطاوي آخر الحمائم البارزين في الحركة الفلسطينية. كان نوعا فذا من الانماط التي يمقتها بالمقدار نفسه الصقور الاسرائيليون والرافضون العرب. وكان سرطاوي اتهم علنا اكثر من مرة أبو نضال بأنه عميل اسرائيلي. ففي حديث له مع جريدة "لوموند" الفرنسية البارزة في 22 كانون الثاني يناير 1982 صرح بقوله: "ليس ابو نضال ثوريا متطرفا يخدم قضية جبهة الرفض، بل هو شخص مرتدّ يخدم اسرائيل. وقد اثبتت دوائر الامن النمساوية، دونما شك، ان الساعد الايمن لأبو نضال لم يقتل فقط هاينز نيتال في 1 أيار مايو 1981 بل هاجم ايضا الكنيس اليهودي في فيينا في آب اغسطس، واغتال في 1 حزيران يونيو نعيم خضر ممثل منظمة التحرير في بروكسيل. فمن غير اسرائيل يحرص على إقصاء قادتنا؟ ومن ذا الذي يحرص على تشويه مصداقية المقاومة الفلسطينية بارتكاب جرائم ذات طبيعة لا سامية فاضحة؟ إننا لم نعد نطرح على أنفسنا تلك الاسئلة بعد ان اعترف اعضاء من جماعة ابو نضال معتقلون لدينا في بيروت بأنهم ُُجُنّدوا من قبل الموساد في الاراضي المحتلة".
وقد كرر سرطاوي هذا الاتهام وهو بغاية الاضطراب حين تحدثت اليه في الجزائر في شباط فبراير 1983 لدى انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني وقبل اغتياله ببضعة اسابيع، فادعى بأن فتح اعتقلت عددا من رجال ابو نضال في بيروت واعترفوا بأن الموساد كانت جندتهم في الضفة الغربية. وكان سرطاوي متأكدا بأن ابو نضال او الموساد، او الموساد بواسطة ابو نضال، سيعملان على اغتياله. ومما زاد الطين بلة هو ان عرفات كان عمد خلال اجتماع المجلس المذكور الى التنصل من آراء سرطاوي "الحمائمية" ومنعه من التكلم. وإنني لأذكر المشهد جيدا، فقد كنت واقفا بمحاذاة سرطاوي في طرف قاعة المؤتمر. وقد ألقى فاروق قدومي ابو اللطف "وزير خارجية" منظمة التحرير خطابا ضمنه تقريرا سياسيا متشددا يرفض كل ما كان يمثله سرطاوي ويعمل من أجله. وبينما كان يستمع الى قدومي استدار نحوي وقد شحب وجهه وقال: "ألم يعترك القرف بما فيه الكفاية؟". وهكذا وجد هذا الرجل، الذي كان يتمتع بالشعبية، نفسه وحيدا، فلم يأت احد ليتحدث اليه. وقد يكون سرطاوي أدرك بأنه محكوم عليه، بعد ان اصبح وحده، معرضا في العراء دون اي حماية او غطاء سياسي، وانه مطارد من قبل قتلة من كلا المعسكرين. وعندما كان سرطاوي يجري اتصالاته بجماعة السلام الاسرائيلية كان يفعل ذلك بناء على تعليمات من عرفات، ولكن يبدو انه تجاوز حدود تلك التعليمات.
في 10 نيسان ابريل 1983 كان سرطاوي يتجاذب أطراف الحديث في بهو احد فنادق مدينة آلبوفيرا بالبرتغال مع مندوبين آخرين مشاركين في اجتماع للاشتراكية الدولية. وبرز قاتل واطلق النار على رأسه فمات على الفور. وبعد بضع ساعات اصدر ابو نضال في دمشق بيانا مبتهجا اعلن فيه مسؤوليته عن مصرع "الخائن المجرم سرطاوي".
وسواء كان لاسرائيل او لم يكن لها يد في اغتيال سرطاوي، فإن هناك دائما كالعادة، تفسيرا آخر للعملية. وقبل مصرعه ببضعة اشهر، تلقى سرطاوي رسالة من ابو نضال يسأله فيها عن موعد اجتماعه بالاسرائيليين الذين يتصل بهم في فيينا، لأنه كان يريد الاعداد لاغتيالهم. ولكن سرطاوي قام فورا بابلاغ الشرطة النمساوية التي كانت مع شرطة اوروبية اخرى تتعاون مع فتح لافشال عمليات ابو نضال الارهابية. وعندما طار رجلان مسلحان تابعان لأبو نضال الى فيينا تم القاء القبض عليهما، وساعد سرطاوي النمساويين في استجوابهما، فاشتعل ابو نضال غضبا.
لم يكن سرطاوي دائما من "الحمائم" فقد كان في الواقع ولسنوات طويلة صديقا حميما لأبو نضال، وكان يشاركه آراءه الرافضة ....
عام 1987 أمضى أبو اياد في الجزائر ليلة بطولها في مجابهة مع ابو نضال بعد ان رتبت اجتماعهما المخابرات الجزائرية. وقد تحدث ابو اياد عن شكوى فتح الرئيسية والتي هي القائمة الطويلة من رجال منظمة التحرير الذين اغتالهم ابو نضال او أيد خفية في منظمته. وسرد لي ابو اياد فيما بعد حواره مع ابو نضال.
قال ابو اياد: "سألته: لماذا قتلت عصام سرطاوي؟ لقد كان صديقك لأمد طويل، وقلت له إنني اعتقد انها كانت عملية حَرّك الاسرائيليون خيوطها، فكل القضية تفوح منها رائحة الاختراق والتلاعب، ومن ذلك الطريقة التي هُرّبت بها الاسلحة، وفرار القاتل، والقبض على شريك شاب يسافر بجواز مزور ولا يستطيع المغاربة اتهامه بالقتل". وأضاف ابو اياد: "إنني اعلم ان اسرائيل تلعب لعبتها معك".
وأفهم ابو اياد ابو نضال بأن شكوكه في امر الاختراق الاسرائيلي انما ثارت عندما زوده ضابط مخابرات مغربي بقائمة تضم اعضاء جماعة ابو نضال في اسبانيا الذي يبلغون تسعة عشر شخصا. وعندما سأل ابو اياد الضابط المغربي عن مصدر القائمة أجاب الضابط بأنها من الموساد، ودقق ابو اياد في القائمة بنفسه فوجد انها صحيحة بكاملها: فسبعة عشر شخصا، اكثرهم من الطلاب لا يزالون يعيشون في اسبانيا، واثنان تخرجا وعادا الى البلاد.
وقال ابو اياد: "لقد أدهشني جواب ابو نضال، اذ قال بهدوء: "نعم أنت على حق. فلقد اخترقتنا اسرائيل في الماضي، وقد اكتشفت ذلك من الاعضاء التونسيين والمغاربة عندي. كانت اسرائيل تعمد الى زرعهم لدي. ولكن دعني اقول لك بأنني ارسلت اعضائي الافريقيين الشماليين التابعين لي، وهم الذين أثق بهم حقا، الى فرنسا ليقوموا بتجنيد عملاء اسرائيل الافريقيين الشماليين بعد تغيير قناعاتهم! ان التدفق المخابراتي يكون في بعض الاحيان لصالحي، فقد زودني هؤلاء العملاء بمعلومات مدهشة حقا. وخذ على سبيل المثال موضوع سرطاوي، لقد أعطوني كل المعلومات المفصلة التي كانت تلزمني للعملية!".
وبينما كان ابو اياد يسترجع تلك المحادثة فإنه ظل لا يصدق ما سمعه "لقد أقر بأن العملاء الاسرائيليين موجودون في منظمته، وانهم زودوه بالمعلومات. لقد اعترف بذلك. وقد أدهشتني اللهجة العادية التي كان يتحدث بها. وأضاف ابو نضال بأنه يحاول تصفية العملاء الاسرائيليين واحدا بعد آخر. هذا ما قاله لي!". واخبرني ابو اياد بأنه امضى شهورا وهو يمعن النظر في التلاعب الاسرائيلي بأبو نضال بواسطة عملاء من شمال افريقيا. فقد كان يعلم يقينا ان خضر اغتاله عضو تونسي في منظمة ابو نضال، وكذلك اغتيل ايضا حمامي وقلق.
وقال ابو اياد مؤكدا: "لقد اوقفنا الارهاب عام 1974، غير ان الاسرائيليين لم يوقفوه رغم انهم اقنعوا العالم بعكس ذلك. انهم يواصلون الاعتداء علينا وفي بعض الاحيان يرتكبون اعتداءاتهم بشكل سافر وصارخ، كما حدث عندما اغتالوا ابو جهاد في تونس عام 1988، ويقومون في اغلب الاحيان بعمليات يمكن قراءتها بأشكال مختلفة. وعليّ ان اعترف ان ذلك يوقعنا في الحيرة. ففي عدة مناسبات لم نكن متأكدين هل المسؤول هو ابو نضال ام الموساد".
الاسبوع المقبل:
الحلقة السادسة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.