الرئيس السوري يطّلع على تطور السعودية في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي    عبدالله آل عصمان مُديراً لتعليم سراة عبيدة    أمير المدينة يرعى حفل تدشين قاعة المؤتمرات الكبرى بغرفة المنطقة    "سلمان للإغاثة" يوزع 500 سلة غذائية في عدة مناطق بجمهورية بنغلاديش    توقيع مذكرة تفاهم «الجسر السعودي-الألماني للهيدروجين الأخضر» بين «أكواباور» و«سيفي»    جولة للامتياز التجاري ب" تبوك الورد"    التحليق في عالم متجدد    الذكاء الإصطناعي وإدارة العمليات الطريق إلى كفاءة مؤسسية ناجحة    ترمب يفرض رسوماً جمركية على كندا والمكسيك والصين    مؤتمر سعودي يثري الحوار العالمي    مواقف تاريخية للسعودية لإعادة سورية لمحيطها العربي    رصاص الاحتلال يقتل المسنين وعشرات يقتحمون الأقصى    أوكرانيا وروسيا تتبادلان الاتهامات بشأن قصف مدنيين    سورية المستقرة    المبعوث الأميركي: نؤيد انتخابات أوكرانية بعد "وقف النار"    «أونروا» تحذر من عواقب «قانوني الاحتلال» وتؤكد استمرار خدماتها    النصر يتحدّى الوصل والأهلي في مهمة عبور «السد»    ولي العهد والرئيس الشرع يبحثان مستجدات الأحداث وسبل دعم أمن واستقرار سورية    في الجولة ال 20 من دوري" يلو".. الصفا يستقبل العدالة.. والبكيرية يواجه الجبلين    الأهلي يعير «ماكسيمان» لنابولي الإيطالي    الساحر «لوكا» إلى نادي الأساطير.. الصفقة العظمى المحيّرة!    وعد من أوناي هرنانديز لجماهير الإتحاد    القيادة تعزي أمير الكويت والرئيس الألماني    العلاقات بين الذل والكرامة    أمانة جدة تشرع في إشعار أصحاب المباني الآيلة للسقوط بحيي الفيصلية والربوة    6 مذكرات تعاون لتطوير الخدمات الصحية بالمدينة المنورة    محافظ جدة يطلع على خطط المرور والدفاع المدني    الانحراف المفاجئ يتصدّر مسببات حوادث المرور في الرياض    كلنا نعيش بستر الله    التعاقدات.. تعرف إيه عن المنطق؟    من أسرار الجريش    تحت رعاية خادم الحرمين.. جائزة الأميرة صيتة تكرم الفائزين بدورتها الثانية عشرة    انطلاق ملتقى قراءة النص في أدبي جدة    إن اردت السلام فتجنب هؤلاء    «عاصفة الفئران» تجتاح 11 مدينة حول العالم    ..وتجمع جازان الصحي يتميز في مبادرة المواساة    طريقة عمل ارز بالكاري الاصفر والخضروات وقطع الدجاج    شرطة الرياض تقبض على مقيم لمخالفته نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص    الرياضة المجتمعية.. جزءٌ لا يتجزأ من رؤية السعودية 2030    سمو محافظ حفر الباطن يدشن مؤتمر حفر الباطن الدولي الصحة الريفية في نسخته الثانية    على هوامش القول.. ومهرجان الدرعية للرواية    هيئة الترفيه.. فن صناعة الجمال    محمد عبده.. تغريدة الفن....!    التقنية ونمو القطاع العقاري !    كاد «ترمب» أن يكون..!    3 أهداف تتنافس على الأجمل في الجولة ال18 من مسابقة دوري روشن للمحترفين    مكالمة إيقاظ صينية عنيفة !    أمير جازان يلتقي مشايخ وأهالي محافظة العيدابي    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية السودان لدى المملكة    القيادة تعزي رئيس ألمانيا في وفاة الرئيس الأسبق هورست كولر    أمير الشرقية يدشن النسخة الثامنة من جائزة السائق المثالي    أمير تبوك يواسي أسرتي الطويان والصالح    مختص : متلازمة الرجل اللطيف عندما تصبح اللطافة عبئًا    ذكور وإناث مكة الأكثر طلبا لزيارة الأبناء    الأسرة في القرآن    خيط تنظيف الأسنان يحمي القلب    تفسير الأحلام والمبشرات    حزين من الشتا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن الى اين ؟. التظاهرات الشعبية لم تكن عفوية ولا ثورة حقيقية والقوى الحاكمة هي التي تضع عقبات ... امام نفسها
نشر في الحياة يوم 28 - 12 - 1992

مراسل "الوسط" في باريس فيصل جلول زار صنعاء في وقت سابق هذا الشهر والتقى ممثلين عن اطراف يمنية عدة وسجل، في التحقيق الآتي، انطباعاته عن اليمن ومستقبله.
لم تكن صنعاء حزينة وقلقة كما كانت يوم تجولت فيها اثناء التظاهرات التي اجتاحت شوارعها في النصف الاول من هذا الشهر. زرتها قبل الوحدة وبعدها فلم أرها منهكة وتعبة كما رأيتها ايام التظاهرات.
ما شهدته صنعاء ايام التظاهرات الشعبية كان ابعد ما يكون عن التحرك العفوي، بل كان حصيلة صراع سياسي يتفاعل منذ اشهر، وكان احد اطراف هذا الصراع يأمل بحصول ما حصل. لقد ذكّرني ما شاهدته في صنعاء بما جرى في لبنان قبل الحرب، حيث كانت منظمات يسارية تأمل في اضعاف هيبة الحكم والانحدار بالسلطة الى مستوى الارض تمهيداً للسيطرة على البلاد. لم تفلح محاولاتي المتكررة للخروج من الفندق يوم انفجار التظاهرات لمتابعة ما يدور في الخارج عن كثب وبالعين المجردة، فالجيش او رجال الشرطة اقفلوا الطرقات المؤدية الى حيث تدور اعمال الشغب. بالرغم من ذلك كان بالامكان تبين الحشود الهائجة من بعيد حيث علا الصراخ ودارت اعمال التكسير والنهب وارتفعت الهتافات القبلية والفئوية التي اختلطت بالهتافات الاقتصادية الداعية الى خفض الاسعار ومحاربة الفساد. لكن في صنعاء يغلب القبلي على الاقتصادي. فان هتفت ضد قبيلة هذا المسؤول او ذاك، يفهم من هتافك على الفور انك مؤيد لقبيلة اخرى ولطائفة اخرى.
كان لا بد من الاكتفاء لبعض الوقت بروايات نقلها الينا سائق سيارة اجرة، هرب لتوّه من "المعمعة" وكان ما شاهده محدوداً: "انهم يحطمون سيارات ليلى علوي وينهبون قطع سيارات الهام شاهين وحجر مندس، ويحرقون اطارات الكاوتشوك. لد نهبوا القات من محلات احمد شميلة"، اكد السائق الذي اضاف: "كانوا يحملون العصي ويرمون المحلات التجارية بالحجارة". ليلى علوي والهام شاهين ممثلتان مصريتان بغنى عن التعريف، جعلهما الخيال اليمني تسميتين لأحدث السيارات اليابانية الاصل، مضيفاً اليهما حجر مندس وهي تسمية محلية تشير الى سيارة يابانية صغيرة الحجم. وصنعاء هي المدينة الوحيدة في العالم التي يُسقطُ فيها الخيال الشعبي شكل نجمة سينمائية على هيئة سيارة حديثة. اما احمد شميلة الذي نهب المتظاهرون متجره المخصص لبيع القات فانه لم يتضرر شخصياً لأن القات ليس له وانما لصغار التجار الذين يستأجرون مساحات في معرضه ويبيعون "قاتهم" يومياً. لكن المتظاهرين الذين كانوا يرفعون شعارات احتجاج قبلية كانوا مهتمين بالتعرض لشميلة بغض النظر عن الآثار المترتبة على ذلك، لأن الرجل ينتمي الى القبيلة التي يحتجون عليها.
بالرغم من الاشاعات المثيرة التي كانت تنطلق في كل مكان والاوصاف المهولة التي اطلقت على التظاهرات من نوع "الثورة الشعبية الحقيقية ضد الفساد" على حد تعبير احد الشبان اليساريين… بالرغم من ذلك كله لم يعبأ عبدالله، الذي كان قد وجه الينا من قبل دعوة لحضور مقيله اليومي بذلك بل اكد لنا ان الدعوة ما زالت قائمة وطلب الينا ألا نتخلف عنها وجاء بنفسه لاصطحابنا الى منزله. "قضي الامر وتفرق المتظاهرون. لقد قال لهم الجنود: اذهبوا الآن وخزّنوا القات وارجعوا بعد التخزين" على حد تعبير عبدالله الذي يتمتع بروح الدعابة. وبالفعل تفرق المتظاهرون في الموعد المخصص للمقايل اليومية.
لم تكن ثورة شعبية
في الطريق الى المقيل كانت الساعة تقارب الثالثة بعد الظهر، وكان لا بد من المرور في الشوارع التي شهدت احداث العنف. من فندقنا في حدة انطلقنا نحو ميدان السبعين ومنه نحو الشارع الذي يمر بالقصر الجمهوري. كنا نعتقد ان اجراءات عسكرية استثنائية سيشهدها محيط القصر لكن شيئا من ذلك لم يحصل. فالحراسة الظاهرة حول القصر كانت عادية والقصر محاط بسور تعلوه ابراج على طريقة القلاع القديمة. كان جنديان يتأهبان حول رشاش متوسط الحجم 7.12 ملم في احد الابراج وفي البرج المقابل كان رشاش مماثل يقف وحيداً بلا جنود فعلق احمد مازحاً: "في البرج الاول جنود من "المؤتمر" وفي الثاني "اشتراكيون" هجروا موقعهم للمناسبة". لكن احد مرافقينا حسم الامر بقوله: "الرئيس علي عبدالله صالح في القصر".
عندما سمعنا الروايات الاولى عن "الثورة" في شارع تعز، خلنا ان الشارع سيكون حطاماً. وكانت ذاكرتنا اللبنانية الحافلة بصور الخراب والدمار حاضرة لتوقع المشاهد المهولة. لكن شارع تعز لم يتحول الى خراب. اجتازته سيارتنا بسرعة على غير عادة فهو يشهد حركة سير كثيفة في الظروف الطبيعية. اما آثار المتظاهرين فتدل عليها براميل النفايات المقلوبة ويافطات النيون المكسورة والمثقوبة بالحجارة ومحل تجاري منهوب دون ان تكون ابوابه الزجاجية مكسورة. وكذا الامر بالنسبة الى مقر "المؤتمر الشعبي العام" ومصلحة الضرائب. وفي الشارع كان افراد قلائل من رجال الشرطة يتوزعون على مسافات متباعدة احصينا منهم ستة فقط يحملون بنادقهم على اكتافهم وليس في وضعية قتالية. اما شارع خولان الذي اجتزناه للوصول الى شارع تعز كان خالياً تماماً من اي اثر للمتظاهرين.
للذين لا يعرفون صنعاء نقول ان ابواب المحال التجارية في المدينة مصنوعة من الحديد المقوى وغالباً ما تطلى بالطلاء الازرق اللون. وهذه العادة في صنع الابواب من الحديد ورثها الصنعانيون من العهود الغابرة حيث كان بعض القبائل يغزو المدينة وينهبها انتقاماً من سكانها. لذا درج تجار صنعاء على حماية محلاتهم ومتاجرهم بالابواب الحديدية المصفحة. ولعل ذلك ما يفسر ان الاضرار انحصرت بيافطات المحلات المصنوعة من النيون وليس بموجوداتها.
انتقلنا من شارع تعز الى حي نقم الشعبي. كان المشهد في الحي مختلفاً تماماً. فهنا لم يترك المتظاهرون اية بصمات تذكر. اما المقيل في منزل مضيفنا عبدالله فكان يغص بالمدعوين ولم يتغيب عنه احد بالرغم من "هول" ما حدث وبالرغم من حديث "الثورة الشعبية" الصباحي.
لم يرجع المتظاهرون الى الشوارع بعد جلسات المقيل. لكن صنعاء لم تتصرف، بالرغم من ذلك، وكأن شيئاً لم يكن. فقد تجولت في المساء وفي الايام التالية في شوارع المدينة. وفي الليلة الاولى بعد التظاهرات كانت صنعاء القديمة شبه ميتة وغارقة في الظلام وهو مشهد لا تعرفه المدينة في الحالات العادية، حيث تغص بزوارها وسكانها بعد المقايل. كان سوق الملح وهو العصب التجاري في المدينة، مسرحاً للكلاب والقطط. لكن ذلك لم يكن كافياً لتأجيل زواج مقرر من قبل في حارة محاذية لحي السايلة حيث كانت انوار الحارة تشع في الظلام المخيم على المدينة وصوت المغني الشعبي يصدح بأغان محلية والزوجان يأتيان برفقة سيارات قليلة اطلقت العنان لزماميرها غير مكترثة بالقلق المخيم على المكان.
من صنعاء القديمة انتقلنا الى ميدان التحرير والى باب اليمن ثم شارع جمال عبدالناصر وشارع حدة وشارع الزبيري وهذا الاخير يعتبر الاكثر غنى واناقة بالمقاييس اليمنية. وكانت المفارقة المدهشة ان المتظاهرين لم يتجولوا فيه ولم يمروا "من هنا" وقد ادى ذلك، ربما الى فتح بعض المحال التجارية التي لم يعبأ أصحابها بالحدث والاشاعات. انتقلنا بعد ذلك الى فندق شيراتون ذي النجوم الخمسة، كانت حركة السير خفيفة في التاسعة ليلاً واضواء المخازن التجارية مطفأة ومشهد الحزن باد بوضوح على المظهر العام للمنطقة. لكن داخل الفندق كان هناك عالم آخر. هنا اجتمع النزلاء الاجانب حول طاولات في البهو من دون ان تبدو على ملامحهم اية مخاوف تذكر... كانوا ينصتون الى عازف البيانو ويصفقون له اعجاباً بعد عزف كل مقطوعة موسيقية.
من شيراتون الى فندق حدة كان المشهد يتكرر. فاليوم خميس وهو يعادل يوم السبت في البلدان غير الاسلامية، وسهرة الخميس تشبه سهرة يوم السبت. كانت "فرقة النجوم" المصرية في فندق حدة اعدت احتفالاً حول "بوفيه مفتوح" والمفاجأة كانت في حجم الساهرين الذين تعودوا قضاء سهرة الخميس في الفندق على انغام الفرقة المصرية. امتدت السهرة الى ساعة متقدمة من الليل. ذلك الليل الذي لم يشهد حركة جنود في الشوارع وكأن السلطة غير مكترثة بما حصل وبالتالي تعرف الجهات التي حركت التظاهرات الصباحية وتعرف ان لا مبرر لاتخاذ اجراءات احترازية غير عادية. فالامر ليس "ثورة شعبية" عارمة بل انه يقع في دائرة السيطرة تماماً على حد تعبير مسؤول يمني مطلع.
شكاوى حزبي السلطة
في صنعاء الجميع يعرف الجميع وهامش العفوية والتحرك العفوي ضئيل للغاية. يسكن صنعاء مواطنون ينتمون الى عائلات واسر وعشائر وقبائل يعرفون بعضهم البعض ويميزون الوافد الى المدينة من المقيم فيها، ويراقبون حركات بعضهم البعض. فالمتظاهر هو فلان ابن فلان واحتجاجه موجه ضد فلان ابن فلان قبل ان يكون موجهاً ضد التاجر من طرف العامل او الفلاح او الموظف... اهالي صنعاء لا تنطبق عليهم مثل هذه التسميات الايديولوجية المعروفة. لذا فان تظاهرات صنعاء لم تكن عفوية تماماً بالرغم من وجود مبررات قوية ومشروعة للتظاهر وللتعبير عن الاحتجاج العام.
ما الذي حصل اذن وكيف يمكن فهم اسبابه؟
في مقيل ذلك اليوم كانت اغلبية المدعوين من اليسار الاشتراكي. وكانت الجلسة مخصصة للحديث عن التظاهرات. اسبابها ونتائجها. ذلك ان مقايل صنعاء هي عبارة عن ندوات يومية يناقش خلالها المدعوون شؤوناً مختلفة ويطغى عليها الحدث.
يرى الاشتراكيون ان تظاهرات صنعاء وقبلها تظاهرات تعز والحديدة وعدن وريدة وعمران، تندرج في اطار "تحرك جماهيري عفوي" ضد غلاء الاسعار وضد الفساد، وضد المحسوبية ويحملون "السلطة" مسؤولية تدهور الاوضاع. ويؤكدون ما يعرفه الجميع من ان اسعار المواد الغذائية تضاعفت خلال ايام. فكيس السكر سعة 50 كلغ انتقل ثمنه خلال ثلاثة ايام من 600 ريال الى 1300 ريال يمني وكذا الامر بالنسبة الى المواد الغذائية الاساسية الاخرى شأن الزيت والارز والطحين... الخ.
ويعتقد الاشتراكيون ان ارتفاع اسعار المواد الغذائية مرتبط ايضاً بارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء وبتسارع وتيرة الارتفاع خلال الايام التي سبقت التظاهرات. فقد انتقل سعر الدولار قياساً بالريال اليمني من 40 ريالاً للدولار مطلع الاسبوع الى 56 ريالاً صبيحة اندلاع التظاهرات. وترافق ذلك مع عمليات ضخ للريالات اليمنية في الاسواق وتخزين للمواد الغذائية ادى الى ندرتها والى ازدياد طلب المواطنين لها. ويقولون ان تظاهرات صنعاء انطلقت عفوية بعدما توجه مواطنون الى المؤسسة الاقتصادية العسكرية لطلب مواد غذائية فقيل لهم انها غير متوفرة الامر الذي اثار الاستياء لديهم وادى الى اشعال غضبهم وانطلاقهم في تظاهرات صاخبة.
ويأخذ الاشتراكيون على السلطة انها تعزز الانفاق غير المحسوب على انصارها، وانها لا تهتم بمعالجات جدية لشؤون "الجماهير" وعندما تسألهم ما اذا كانوا يعتبرون انفسهم شركاء في السلطة التي ينتقدونها باعتبار ان الامين العام للحزب الاشتراكي السيد علي سالم البيض هو نائب رئيس الجمهورية وان السيد حيدر ابو بكر العطاس رئيس الحكومة هو عضو في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي وكذا الامر بالنسبة لرئيس البرلمان ياسين سعيد نعمان ناهيك عن نصف وزراء الحكومة ونصف نواب الوزراء والمدراء العامين ونصف الموظفين… عندما تطرح عليهم مثل هذا السؤال يجيبونك انهم "يشاركون في السلطة لكنهم لا يتحملون مسؤولية الفساد". وان ما يتم من ممارسات مدانة لا صلة لهم بها ولا يستطيعون وقفها لذلك ينتقدونها.
وعن السبب في حرصهم على المشاركة في دولة لا يملكون فيها سلطة القرار او المساهمة في اتخاذ القرار يردون بأنهم يفعلون ذلك حرصاً منهم على "الوحدة اليمنية". اما عن تأييدهم للتظاهرات او رفضهم لها فيؤكدون: "نحن نرفض العنف لكننا لا يمكن ان نقف ضد الشارع".
هذا الوضع المعقد لا يستسيغه "المؤتمر الشعبي العام" وهو الحزب الذي يتقاسم السلطة مع الاشتراكي ففي مقابل حزب المؤتمر تدور انتقادات سياسية حادة لمواقف الحزب الاشتراكي من القضايا الداخلية المعقدة. هنا يقولون عن متظاهري صنعاء والمدن اليمنية الاخرى ان هؤلاء "لم يحملوا العصي بدافع عفوي ومن تلقاء انفسهم. هناك من وضع لهم العصي في ايديهم من اجل وضع العصي في دواليب السلطة. وهناك من قال لهم اهتفوا كذا وكذا". ويضيف احد "كوادر المؤتمر الشعبي" قائلاً: "لقد اثاروا الطائفية في تعز ويثيرون القبلية في صنعاء. لقد حطموا مراكز المؤتمر وحده ولم يجر تحطيم مراكز الحزب الاشتراكي الحاكم او مراكز الاحزاب الاخرى. ولو كانت التظاهرات عفوية لشمل التحطيم كل شيء ولما كان انتقائياً انهم يلعبون بالنار كما تعودوا دائماً لكن اللعب هذه المرة تتضمن مخاطر وطنية كبيرة" والكلام دائماً للمصدر نفسه.
وعندما تؤكد لهذا المسؤول ان الناس تضيق ذرعاً بالغلاء وان "التحرك الشعبي" من اجل خفض الاسعار ليس بالضرورة مؤامرة على رئاسة الجمهورية… عندما تواجه صاحبنا بهذه الحقيقة يسألك بدوره: "هل تعرف من اين بدأ مسلسل البلبلة؟ لقد ذكرت صحيفة "المستقبل" التي يديرها الحزب الاشتراكي ان الدولة عازمة على طبع 100 مليار ريال يمني من دون تغطية كافية، بعد ذلك تناقلت الخبر وسائل الاعلام المختلفة. التجار يصدقون "المستقبل" لانها تنطق بإسم حزب حاكم. حدثت البلبلة وبدأ ارتفاع سعر الدولار ومعه ارتفاع الاسعار". ويضيف محدثنا قائلاً: "لقد نفى رئيس الوزراء وهو اشتراكي ايضاً ان تكون الدولة عازمة على اغراق البلاد بپ100 مليار ريال لكن النفي جاء متأخراً. انهم يصطادون بالماء العكر وهم عادوا الى اساليبهم المعروفة".
"الحكم يعرقل نفسه"
عندما تطلب من المسؤولين في صنعاء تفسيراً لما حصل ويحصل ولما قد يحصل في المستقبل يحيلك كل منهم على اخطاء غيره او يؤكد لك ان الامر لا يعدو كونه "سحابة صيف" وتمضي اذا كان بطبعه متفائلاً . لكن الكلام الصادر عن مسؤولين يختلف عن الكلام المتداول في الشارع والذي يضج بالاحتمالات السوداوية، وبعضها جدي والبعض الاخر مبالغ فيه. الا ان اهالي صنعاء يجمعون على قضية واحدة وهي ان الاختلاف في وجهات النظر بين "التوأم الوحدوي الحاكم" اي بين حزب المؤتمر والحزب الاشتراكي يتعدى الاطار الديموقراطي ويتحول يوماً بعد يوم الى اختلاف حول الحكم.
فالاضطرابات الاخيرة التي شهدتها المدن اليمنية ليست سوى انعكاس لذلك الخلاف في وجهات النظر في رأس السلطة. واذا كان من المبكر ومن السابق لاوانه الحكم على هذا الخلاف وبالتالي القول اذا كان سيقود الى كارثة ام لا فإن الثابت في نظر الصنعانيين ان الخلاف في وسط الدولة يلحق اذى كبيراً بالاقتصاد الوطني الذي يعاني من ازمة حادة ما زالت تتفاعل منذ حرب الخليج. وهذا الخلاف لم يعد قضية سرية بل اصبح حديث الصحافة اليمنية اليومي وموضوعاً للجان مصالحة ووساطات، وسببا في صدور تحذيرات علنية من مسؤولين كبار في الدولة شأن رئيس الحكومة حيدر ابو بكر العطاس الذي اكد في حديث مع وسائل الاعلام المحلية في 8 - 21 - 1992 بما يشبه النقد الذاتي "لقد ساهمنا جميعنا في ايجاد هذه الاجواء، وفي المقدمة الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام والغريب انه لم يحصل في اي بلد ان تكون القوى السياسية والاحزاب الحاكمة هي التي تضع العراقيل امام نفسها الا في اليمن وهذه فعلاً المسألة التي يواجهها اليمن".
وما يقوله العطاس ليس فريداً من نوعه في هذا المجال، فهناك اجماع من طرف الكثيرين من المحللين والمطلعين على شؤون هذا البلد من المثقفين اليمنيين على ضرورة وضع حد للاختلاف القائم بين طرفي الحكم وعلى خطورة استمرار مثل هذا الخلاف، ويذهب الدكتور عبدالعزيز القالح مدير جامعة صنعاء، الى ابعد من ذلك عندما يقول في مقال نشرته جريدة "الثورة اليمنية" في 8 - 12 - 92 "ان هذه الاصوات المنكرة لم تزدنا علماً بالحرية ولا بالوطن ومشاكله وما زادتنا علماً بالديموقراطية وهي لم تنقل الينا من خلال صراخها العالي شيئاً عن تجارب الشعوب المتقدمة وعن نضالها المستميت في سبيل الخلاص من الانظمة الاستبدادية العفنة… وكم هو حكيم وصادق ذلك الشاعر الذي قال ان الحرب اولها كلام وها قد بدأت الحرب!!".
ليست "الحرب" بالكلام مدخلاً اجبارياً للحرب الحقيقية فالتجارب اثبتت ان حرب الكلام لم تفض دائماً الى الحرب العسكرية من دون ان يعني ذلك ان ما يدور في صنعاء هذه الايام ليس جدياً وليس مؤشراً على احتمالات سلبية. لكن كيف يمكن تفسير اسباب الازمة بعيداً عن احكام الاطراف المعنية بها؟
الاسباب ليست عصية على الفهم والخبراء اليمنيون يعرفونها افضل من غيرهم. وهم يؤكدون ان الوحدة اليمنية تمت بطريقة راعت خصائص شطري اليمن.
ففي اليمن تتعايش الدولتان السابقتان في دولة واحدة مقرها صنعاء. ومن السهل ملاحظة ذلك لدى الدخول الى احدى وزارات الدولة حيث تصادفك حشود من الموظفين الذين تضيق بهم الاروقة والمكاتب وليس لديهم ما يفعلونه فهم على حد تعبير رئيس الجمهورية يعملون ساعتين او ثلاث ساعات بعضهم في اليوم.
وزارات متعايشة وموظفون يرهقون خزينة الدولة ومشاريع معلقة تنتظر حسم الامور الاساسية. في هذا الوقت تزداد موازنة الانفاق العام على هذا "الوحش الاداري" غير المنتج وينتشر الفساد ومعه الترقيات العشوائية. ويتم اغراق البلاد بالريالات من دون ان يكون لها تغطية كافية بسبب شح الموارد من العملات الصعبة. يضاف الى ذلك انقطاع القروض الخارجية مما يؤجج نيران الازمة ويوسع اطار المحتجين والمتضررين.
يتم ذلك كله وسط نقاش وجدل نظري عقيم حول الاقتصاد الموجه والاقتصاد الحر، ووسط خلاف حول التحالفات السياسية والحصص المستقبلية في الحكم والحكومة وحول دمج العملتين والمؤسسات الموروثة من الدولتين السابقتين والجيش والشرطة والاجهزة الامنية الخ…
مجمل هذه المشاكل المعقدة يحتاج الى معالجات متأنية وجهود ضخمة بحسب الخبراء اليمنيين، لكن الخلاف في وجهات النظر بين حزبي الحكم، يضيف الى العقبات القائمة، عقبات جديدة، الامر الذي يستدعي اللجوء الى وسيلة الحل الوحيدة في الانظمة الديموقراطية وهي صناديق الاقتراع التي تعكس رأي الناس بحكامهم.
اما الحرب الاهلية والانفجار العام وغير ذلك من الاحتمالات السوداوية فإنها مستبعدة ليس بسبب حرص القوى السياسية في البلاد على عدم الوصول الى نقطة القطيعة وانما ايضاً بسبب المصالح النفطية المتوفرة في اليمن والاستثمارات الكبيرة التي تم توظيفها في المنشآت والحقول النفطية حتى الآن مما يدفع "اصحاب المصالح" في المجال النفطي الى السعي لمنع تحول اية مشاكل الى انفجارات تهدد الوضع اليمني برمته.
الشيء الوحيد الذي يخشاه ويتخوف منه ابناء هذا البلد وعدد من المعنيين بشؤونه قيام "مغامرين" بقلب الطاولة على رؤوس الجميع.
لكن تبقى الانظار موجهة الى الحزبين الحاكمين، المؤتمر الشعبي العام والاشتراكي: فاتفاقهما الحقيقي والجدي يجنب اليمن هزات كبرى، واستمرار خلافاتهما يدفع ابناء هذا البلد والمعنيين بشؤونه يطرحون كل التساؤلات والاحتمالات، بما في ذلك تلك التي لا يريد احد اليوم في صنعاء الوصول اليها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.